| مقـالات
إذا كان الجاحظ قد قضت عليه كتبه وأتلفت جسمه بأن انقضت عليه وأهلكته فإن علماء آخرين قد قضوا عليها واتلفوها بعد أن أمضوا أعمارهم في جمع مادتها وكتابتها وحفظها، إن كتب التراث المختلفة نقلت إلينا أخبار أولئك العلماء الذين اجتهدوا في التحصيل والانتقال من مدينة علمية إلى أخرى، فسنة في الكوفة وسنة في بغداد أو في البصرة، أو في مكة أو المدينة طمعاً في تحصيل العلم وتدوينه، حتى إذا حصلوا العلم وأصبحوا من العلماء البارزين والمؤلفين المعدودين أخذوا يراجعون أنفسهم ويحاسبونها فيما ألفوا من الأسفار وما سطرت أيديهم من العلوم والآداب، فتدفعهم تلك المحاسبة إلى الاندفاع نحو اتلاف ما ألفوا وما جمعوا من العلم على امتداد العمر، إن ظاهرة إتلاف الكتب قبل الوفاة موجودة مع اختلاف أسبابها، فهذا أبو حيان التوحيدي فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة يحاسب نفسه فيرى إحراق كتبه مع غزارة علمها وعموم نفعها، فهو يقول: «وبعد، فلي في إحراق هذه الكتب أسوة بأئمة يقتدى بهم ويؤخذ بهديهم، ويعشى إلى نارهم». ويبين الأسباب التي دفعته إلى إحراق كتبه بقوله: «فشق عليّ أن أدعها لقوم يتلاعبون بها، ويدنسون عرضي إذا نظروا فيها، ويشمتون بسهوي وغلطي إذا تصفحوها، ويتراءون نقصي وعيبي من أجلها». ثم يقول: «وكيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين سنة فما صلح لي من أحدهم وداد ولا ظهر لي من إنسان منهم حفاظ، ولقد اضطررت بينهم بعد الشهرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخُضَرِ في الصحراء وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى بيع الدين والمروءة وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق». وكُتُب أبي حيان التي أحرقها هي: الصداقة والصديق وكتاب الرد على ابن جني في شعر المتنبي وكتاب الإمتاع والمؤانسة وكتاب الإشارات الإلهية وكتاب الزلفة وكتاب المقايسة وكتاب رياض العارفين وكتاب تقريظ الجاحظ وكتاب ذم الوزيرين وكتاب الحج العقلي إذا ضاق الفضاء عن الحج الشرعي وكتاب الرسالة في صلات الفقهاء في المناظرة وكتاب الرسالة البغدادية وكتاب الرسالة الصوفية وكتاب الرسالة في الحنين إلى الأوطان وكتاب البصائر والذخائر وكتاب المحاضرات والمناظرات.
ومن المعروف أن بعض هذه الكتب بين أيدينا الآن فقد نقل منها نسخ قبل إحراقها، فإذا كان أبو حيان قد أحرق النسخ الأصل فإن الباقي منسوخ عنه. وتظهر في هذه الكتب الباقية مهارات متعددة، فقلم أبي حيان يطوِّع النثر حتى يسمو على الشعر في كثير من الحالات، فهو يشيد بممدوحه نثراً كما في قوله: «بل أين أنا عمن أتى بنبوة الكرم وإمامة الإفضال وشريعة الجود و خلافة البذل وسياسة المجد» إلى أن يقول «أين أنا عن الباع الطويل والأنف الأشم والمشرب العذب» وإذا هجا بالنثر فإنه يكثر من مترادفات اللغة في المعنى الواحد إلى ما لا يتصوره القارىء.
ومن الذين أتلفوا كتبهم الأديب الإخباري الراوية أبو عمرو بن العلاء فقد عمد إلى دفن كتبه في بطن الأرض فلم يعثر لها على أثر، وقد أفنى عمره في جمعها والتحقق من صحة الشعر وتوثيق السند، وقد حوت القراءات واللغة وكثيراً من أشعار العرب، ويعد أبو عمرو بن العلاء أستاذ الجيل من الرواة منهم الأصمعي وأبو عبيدة وأبوزيد الأنصاري وابن الاعرابي وأبو عمرو الشيباني ومحمد بن سلام الجمحي وغيرهم. ومنهم داود الطائي فقد اشتهر بالفقه مع اشتغاله بكثير من العلوم، ففي آخر عمره جمع كتبه وألقاها في البحر، أما يوسف بن أسباط فقد حمل كتبه إلى جبل، ثم بحث عن غار، فلما عثر على ضالته وضع كتبه فيه وسد بابه، وقال: دلنا العلم في الأول وكاد يضلنا في الأخير، وسليمان الداراني جمع كتبه ووضعها في تنور فأحرقها، وسفيان الثوري العالم بالحديث والمشتغل به مزق كتبه وطيرها في الريح، وكان منقطعاً للعلم لم يشتغل بغيره، وقد طلب منه المنصور العباسي أن يلي القضاء فأبى، وخرج من العراق واستوطن الحجاز خوفاً من إلحاح المنصور، ثم طلب منه المهدي تولي القضاء فاختفى خوفاً من عبء القضاء. وأبو سعيد السيرافي النحوي الأديب أوصى ابنه بإحراق كتبه، مع أن جل كتبه في النحو.
ومع إتلاف هؤلاء العلماء كتبهم فإن الأسباب التي دعتهم إلى ذلك مختلفة، فمنهم من صرح بالسبب ومنهم من اكتفى باتلافها بدون إبداء الأسباب.
|
|
|
|
|