| محليــات
يتشعَّب الحديث عند وضع «اللُّغة العربية» موضع البحث عن أسباب قصور استخدامها شيوعاً عند أبنائها، وتطلعهم النَّهم نحو سواها، وعجزهم عن إتقانها، واتهامهم لها بالصعوبة، وهروبهم من «نحْوِها»، ولحْنهم في نُطقها، وتأثُّرها على ألسنتهم، وتعثُّرها في كلِّ ما يؤلفونه، أو يدوِّنونه، أو يتعاملون به كتابةً، وشفاهةً، «باستثناء خاصة الخاصة من الدارسين لها، المختصين في علومها» لذا تأتي هذه السلسلة من المقالات بأفكار تدور حول النقاط الرئيسة التي تتعلق بقضايا ضعف اللغة العربية عند أبنائها، وليس الضعف فيها ذاتها لغةً ذات وحدة متكاملة بناءً ومعنى، بدءاً بحروفها وانتهاءً إلى مضامينها البلاغية، وإنَّما الضعف الملحق بها استخداماً، ودرساً، واتباعاً...
ولقد سبق أن ناقشنا هنا التَّبعات اللُّغوية السَّالبة لظاهرتي الاستيراد الأحادي المزمن، والاستهلاك النَّهم المتخم، للمصطلحات الأجنبية «الإنجليزية اللُّغة على وجه التحديد»، وتنبأنا بأنَّ هاتين الظاهرتين ستزدادان في كميِّة المستورَد والمستهلَك منها، وفي كيفية هذين الاستيراد والاستهلاك، وذلك في ظلِّ ما يدور ليتأصَّل، ويترسَّخ في عالمنا العربي من ثقافة إنشاءٍ يتجلَّى عنها الواقع القائم بحدة واضحة سبيلها الانقياد مع «أحلام» المأمول مما هو ماثلٌ، بما يصرف الأنظار عن مأساوية هذا الواقع القائم، على الرغم ممَّا تُنذر به ريح القادم من «العولمة»... مما يحدونا إلى ضرورة «تحديد» ماهيَّة الأشياء في النظرية وفي المنهج... وتعريفها، ذلك لأنَّ في التحديد سيطرة وقدرة على كبح الاندفاع، فالانسياق، كما أنَّ تعريفها يتضمَّن فهم الجوهر لهذه الأشياء. وعلى سبيل المثال منها «العولمة»، فهل قمنا حتى هذه اللحظة بتعريف ما هي «العولمة»؟! في لغتنا، ووفق مناهجنا، وضمن سياق ثقافتنا، وبلغتنا التي تضمن لنا السياج والحدود والأبعاد والممكن وغير الممكن ضماناً للحصانة مما يستقرُّ عليه المدلول فيما لا يتجاوز طغيان «مولِّداتها» على جذور ثوابتنا؟ إن كنا نؤمن يقنياً في أنَّ اللُّغة وحدها ما سوف يكون قادراً على الوصول إلى قناعاتنا، وبها تتحقق هذه القناعات؟... ثم هل قمنا بتشريحها، وتجزئتها، فالتمعُّن في تأثيراتها المختلفة، والعديدة في كافة مناحي الحياة، بما بدأ يطفو، ويُلْمَس، ويُستنْكَر، ولا يُرضي، ولا يتَّفق مع ثقافتنا حتى اللَّحظة، وبما تداخل وبدأ يزعزع الثقة في ثقافتنا؟ ويؤثر في لغتنا على ألسنة الصغار قبل الكبار، ومتوسطي المعرفة أكثر من عميقيها؟!
فإن توقَّفنا عند اللُّغة في كافة مناحي الحياة ونظرنا إلى مجمل العولمة كإنتاج وتصدير واستيراد، فاستهلاك لطرأ علينا السؤال التالي: أي الكفَّتين ترجح بالأخرى عربياً، كفَّة الاستيراد؟ أم كفَّة التصدير؟!... بلا شك فإنَّ الأولى سوف تثقُل بالميزان...، ذلك لأنَّ «العولمة» في حقيقتها «تجارة»، وكلُّ ما يتمُّ استيراده، تتمُّ تسميته بما هو عليه في منشئه حيث أُنتج، إذ لكل مستورد اسم، ومعنى ثقافي يتمُّ استيراده بهما، بما ينقل مع اسمه ومعناه الثقافي دلالته ومضامين حياته، بما يدعو إلى التفكُّر فالسؤال: كيف لنا أن نجعل من الاكتفاء الذاتي، أو توليد البديل، تجارياً وصناعياً، ما يعزِّز «الضَّمان الحاضن» للغتنا في عقر دارها؟ أي كيف تقوى كفَّة اللُّغة العربية في ضوء هذه العولمة؟ أوَليس لا بد أن يكون لها ما للوافد المستورد من القوة والانتشار؟ فلا يتمُّ استيراده إلاَّ بعد عمل دؤوب في أروقة مجامع، ومراكز، وجماعات، اللُّغة العربية كي تتمُّ الترجمة «قبل» الاستيراد، ليتحقق التعامل مع المستورد بلغة الوطن؟ أقول: كيف نجعل من هذا الواقع المقتحِم سبيلاً إلى وضع «حلول لغوية» لمشكلاتنا اللُّغوية؟... وكيف نربط بين مشكلات التجارة على وجه السعة، ومشكلات اللُّغة على وجه التحديد؟...
إنَّ علينا الحذر منذ اللَّحظة، فمع العولمة قد اشتدت المنافسة التجارية العالمية، ولسوف تمثِّل الدول النَّامية مسارح قتال إعلامي للشركات العالمية طمعاً في التسيُّد، والسيطرة على أسواق هذه الدول بوصفها مسرح الاستيراد، ولسوف تزداد الدعايات ذات الأغراض المتباينة، في ظلِّ العولمة، ولسوف تتشوَّه حقائق كثيرة في ظلِّها كذلك، فما المطلوب؟
إنَّ على العرب أصحاب لغة القرآن الكريم أن يشتقُّوا من الثقافة العربية ما يحفظ لغتهم، ويعينهم على التصدي لكافة واردات الاتصال البشري العالمي السريع، ليس فقط في مجال التجارة، وإنَّما أيضاً في مجال «التعامل» الفكري، والسياسي، والأدبي، والعقْدي، ولعلَّ الأحداث الأخيرة في مسرح التحرُّك البشري أفضت إلى أهميَّة العناية بنشر العربية، كي تذود عن ثقافة وشخصية ومواقف العرب.
« يتبع »
|
|
|
|
|