| مقـالات
تتابع استقلال البلاد العربية عن الاحتلال الأجنبي المباشر للاستعمار؛ فمنه ما كان وفق مدة محددة؛ فخرج الاستعمار من البلاد والبلاد المستعمرة لا تملك أدنى قدرة عسكرية على طرد المستعمر.. ومنه ما كان عن حرب أهلية بحماس جماهيري صادق متوهج قادر على المصابرة والتضحية، واحتضن حماسهم قادة عرفوا فيما بعد بالوطنية، واصبحوا رموزاً فدائية في طرد المستعمر، ثم جاء خلف آخر ليتسلم القيادة في بلد طرد منها المستعمر وليس للمتسلِّم أي مجد تاريخي، ولا واقع أسري قيادي ؛ فكانت الدعوة إلى الوحدة، واللا انحياز، والاكتفاء الذاتي، وتأليف كتلة ثالثة لا نامية، ولا متخلفة تزن القوتين العسكريتين الشرقية والغربية.. اسمها الامة العربية فقط، أو الأمة العربية بوصف أيديولوجي كالاشتراكية مثلاً.. ولكن ليس من تلك الأوصاف وصف الإسلامية.. ثم مضى نصف قرن كامل، فوجدنا خلافة محمد صلى الله عليه وسلم والأربعة المهديين رضي الله عنهم، ومملكة معاوية وعبدالملك وهارون إلى الفاتح رضي الله عنهم ورحمهم.. وجدنا كل ذلك يعيش حصاراً يعتبر أمامه حصار طوكيو وبرلين مِزِّيحة باردة.. وجدنا عالماً إسلامياً تبرَّأ منه قادةُ الرقعة العربية، واعتبروه عالماً أجنبياً أعجمياً.. ووجدنا الاستعمار لم يخرج مغلوباً بسلاح المواطنين الغيورين الصابرين الصادقين، بل بفساد من أبناء جلدتنا تبنوا الدفاع الوطني، وتزعموه، واحتضنوه، وحصلوا على تلميع أجنبي وولاء من الجماهير المخدوعة، وبذلك حكموا أمتهم.. ولكن بالشرط الذي يريده الاستعمار لا بالشرط الذي تريده أمتهم.. وأهم الشروط أن لا يحكم الإسلام، وأن لا تبقى الرموز الأسرية الحاكمة، وأن يُلصق بها كل عيب وتهمة، وأن تكون مخالفة القانون جريمة.. والجريمة تقتضي العقوبة، ومبتغى مثل حكم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، مثل إمبراطورية عبدالملك وهارون الرشيد رحمهما الله: مخالف للقانون الذي يفصل الدين عن الدولة، ويفصل الدين عن الحياة العامة بتغييب دوائر الحسبة إلا بوليس الآداب الذي يحمي اللا قانون بالقانون!!.. وتفجرت عدوى الثورات، وتغيير ثوابت الاستقرار بتغيب اسر حاكمة يدعو لها بالرضوان من عانى عذاب تلك الثورات، وقاد الامة نكراتٌ كما أسلفت ليس لهم مجد أسري ولا مآثر ذاتية.. وكانت الغاية واحدة هي: الوحدة، وتحرير فلسطين وهي آخر ما بقي من اشكال الاحتلال العسكري ، والتنمية، والعدالة الاجتماعية، والحرية الجماعية، والمساواة.. ووسيلة هذه الغاية متعددة من اشتراكية معتدلة، وبعثية، وقومية بغير الشرط للحضور العربي التاريخي.. ووئدت شعارات ليست وسائل للهمِّ الجماعي العربي كالوطنية المتقوقعة والماركسية والأمية.. وصارت التنمية معاهد للموسيقا والأزياء والسينما، والاندفاع الطبيعي لمظاهر الحضارة المادية عمراناً وطباً.. إلخ؛ مما يجعل الأمة باقية على وضعية الأمم النامية، ويحتم عليها ان تظل نامية؛ لأنها إن ملكت المسموح به من التعلم في الطب مثلاً فلن تملك معمل الطبيب باكتفاء ذاتي، ولن تملك من القوة صنعاً، أو اكتشافاً، أو تملكاً إلا ما تسمح به سياسة من يملك القرار العسكري.. ورأينا بأس الأمة بينها؛ فصُفِّيت بالثورات والمبادىء المستوردة فلذات الأكباد، وخيار البيوت، وجرِّد من الملكية ومهارة الكسب والصنع والحرث مهارات لا يُستهان بها؛ فماتت كمداً، وانقطع الغذاء والإنتاج على أيدي هؤلاء المهرة، وتضاعف السكان، وزحف جحيم الأسمنت على نعيم الريف بخضرته ونضرته وثماره المتدلية.. واقترف زعيم مشبوه وهو نموذج لغيره،، ولكنه أسوأ النماذج أعظم كوارث بيئية في خليجنا، وقتل الآلاف بيده، وتحصن بحرس مرتزق يشبه الجيش السري في بعض رقعتنا.. الجيش الذي يرتكب المجازر للأطفال والنساء في المدارس والمصحات والأرياف بعد تغييب كل نوازع الضمير الحية، وذلك بتنفيذ هذه الجرائم تحت وطأة المخدرات، وقد حفل هذا العامُ بكتاب لأحد الجنرالات الذين شاركوا في هذه الجرائم ثم استيقظ ضميرهم، فاستاءت الشعوب المسلمة عربية، وأعجمية ، ولم يثر الكتاب عجباً أمام العالم الأقوى الذي يعرف أسرار الجيوش السرية الحاكمة في الشمال الشرقي والجنوب الغربي حيث قامت دولة للإسلام وأفَلتْ دولة، وتحولت من العروبة والإسلام إلى العجمة والكفر.. وتكشفت الأحوال عن رموز وطنية في طرد المستعمر عسكرياً )؟!!(، ورموز تبنت الوحدة ودوافعها؛ فإذا هم مجرد دُمى ومصدر طموح وهمي لأمتنا، ولا تزال الوثائق بعد كل ثلاثة عقود تدمغهم بالخيانة والنفاق.. وتحركت السعودية بثقلها التاريخي والمالي والقيادي في عهد الملك فيصل رحمه الله، ودعت إلى التضامن الإسلامي، واشراك العالم الإسلامي في المسؤولية؛ لأن الرقعة عربيها، وعجميها كلها دار إسلام، والعروبة منحة إسلامية كلما تعرَّب إقليم، والإسلام مسؤولية بلاغٍ عربي كلما ظلَّت العجمة في إقليم.
وكان العالم الأقوى )المعسكر الشيوعي، والولايات المتحدة، وحليفتها أوربا( مُسَيَّساً من قوى خفية علنية في آن واحد عُرفت في الدراسات الحديثة بالقوى الخفية التي تحكم الكون.. خفية على العامة التي خنق سعة ثقافتها الانهماكُ في الحرفة والتخصص وتحقيق لقمة العيش في أمم تحطمت فيها الأسرة والدين والأخلاق بسيادة القانون الوضعي، وارتفع كل تكافل اجتماعي على مستوى القرابة والعاقلة والقرية والمجتمع، وكانت كل كماليات الفرد بالتقسيط والربا والتأمينات.. وهو علني لمفكري العالم في الولات المتحدة وروسيا وأوربا الذين عرفوا أنهم محكومون مُسيَّسون من حفنة صهيونية بيدها المال والجنس والإعلام والمحاماة والقانون والمافيا والأضابير.. إلخ.. إلخ.. وهزَّ الأوساط كتاب طبع في لندن للمرة العاشرة بعنوان «دعونا نتكلم بصراحة».. وبدأ نوع من الصوت الخافت الجزئي، ولكن الكيد أكبر، لأنه مع الكيد الصهيوني وثقله تُوجد أعباء من الجهل والتضليل الميتافيزيقي لإنجيليين يقودون العالم، ويؤمنون بالدولة الداوودية الواحدة، وأن عيسى جاء لإكمال ناموس موسى عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، ووجد أكثر من بابا وهو يهودي!! يبرِّىء اليهود من جحد دين عيسى عليه السلام ومحاولتهم قتله، وديننا الحق أنهم قتلة؛ وبين أنهم ما قتلوه يقيناً؛ لأنهم قتلوا شبيههُ قاطعين بأنه هو هو، ولكن الله رفعه، وبيَّن أنهم ما قتلوه يقيناً وهم يبوؤون بإثم القاتل ، بل شُبَّه لهم؛ فكانت الخضخضة للدولة الواحدة بعد معركة أرمياصيدون وظهور ميسياهم المنتظر وما هو إلاّ الأعور الدجال لعنه الله.. هذه الخضخضة كانت بالشركة الواحدة، وتوجهات العولمة بكل حيلها.. وبدا حاخامات اليهود في ثقة عمياء بنجاح رهانهم في السيطرة على العالم، وصرَّح أحدهم بأنهم: لا يخافون عصبة الأمم المتحدة، ولا يعترضهم أي حق للفيتو.. وقوبل تحرك الفيصل رحمه الله بكيد عالمي سريع، فَبُعْثر التجمع الإسلامي وحماسُ الشعوب بتصفية قيادات، وفرض قيادات طارئة، وتشرذم كثير في التمذهب الإسلامي لدى الحركيين، ودخل في التشرذم عناصر فعًّالة تدعو إلى الإسلام وتعمل بغير دعايته وبما يضر أهله، وأُلغيت حالات الثورات التي اجتاحت عالمنا العربي والإسلامي مع الاحتفاظ بما هو كائن ما ظل تحييد الشعوب عن قضاياها، وتعطيل ميثاق جامعة الدول العربية، وأهداف التضامن الإسلامي: أمراً واقعاً بعمل إيجابي من الخونة، وعَجز من الخيِّرين المخذولين من أشقائهم وجيرانهم؛ فعملوا ما يسعهم أمام الله من الدعم المالي، وعدم التورط في التطبيع، وفتح باب التبرع من الأمة والعمل على إيصاله، والتمسك بكلمة الحق عن واقع الرقعة والأمة، والصبر على المزايدين باسم الإسلام والعروبة.. بل بدأ الجدُّ الصهيوني والصليبي في تحريك عوامل الفرقة والتجزئة في بلاد الخيِّرين بعد هدوء رياح الثورات على العملاء.. مع أن أولئك الخيِّرين هم دوحة العروبة بلا خلطة، وأهل الرسالة الإسلامية وحماتها بلا وشب، وأحكموا الحكومة الإسلامية فيما تحت يدهم على الرغم من كل الضغوط العلنية والخفية التي تسعى إلى التجزئة، وتعطيل حدود الله تحت ستار التصوف الدولي وهو ملة غَيريَّة وليس نحلة طارئة، وأجهزة حريات الأديان التي يديرها كل علماني وحاخام؛ فتحقق في أهل ذلك العصر والمصر مفهوم الطائفة المنصورة التي لا يضرها من خذلها إلى يوم القيامة.. والمضحك المبكي أن ما تقرؤه فيما هو سيار في عالمنا العربي يتحسس شفاءنا بمضاعفة عللنا لا بالتخلص منها بعد العبارات الجوفاء الملحونة مثل: سلطوية، وتموقع انتهازي، والشَّعْبوِيَّة، والجهوية)1(.. إلخ.. إلخ ، ففي القطر الكبير الذي لا يعرف حاكمُهُ السري، ويقتل فيه النساء والأطفال والشيوخ بالعشرات والمئات نجد الآفة عند مثقفيه: الانقسام اللغوي مع أن هذا نتيجة أعباء وليس سبباً، وليس )على علاته( بذلك المستوى من الخطر ما ظل الولاء للإسلام قائماً؛ لأن العربية مقدسة من المسلم، ولأن العروبة طريق بلاغ ضروري للمسلم الأعجمي.. ونجد الآفة في المصالح الفئوية التي تجعل اسم الشعب مزاداً علنياً!!.. وهذا أيضاً نتيجة كيد لا سبب ؛ لأن الفئوية المؤثرة أيدلوجياً دخيلة.. أما الفئوية الإقليمية والجنسية فلا أثر لها على مدى التاريخ في كل قطر هويته الإسلام؛ فما بالك بهوية العروبة والإسلام معاً؟!!.. ونجد الآفة عند مثقفيه في روح التغريب بالغين المعجمة في ظل الانفتاح الليبرالي ووطأة العولمة!!.. وهذا متأخر جداً، لأن التغريب مصاحب لسقوط الخلافة، وطرق المستعمر عسكرياً )؟!!(، وفرض القيادات الخاملة، وفصل الأمة عن تاريخها ودينها بفعل تلك الرموز )ادعاءًَ( الوطنية، أو النخبية، أو المقاومة للاستعمار، أو الداعية للوحدة.. وإنما الذي استجد نقل التغريب من حالة خيارٍ باسم كل المغريات والمسوِّلات الدعائية إلى تسييس إجباري لا مفر منه.. وهذا الوعي المشوَّه يُلحق بالهزيمة والعلل كلَّ الشمعات المضيئة المدرجة في عموم «رموز الفرنكوفيلية» ممن لا يفكر تفكيراً فرنسياً مثلاً كمالك بن نبي ومالك حداد.. وهناك أيضاً فرنكفونيون بالنون)2(.. كأن الكاتب يتحدث من قاموس اللغة العربية وهو في موضع الدفاع عنها!!.
قال أبو عبدالرحمن: إنني لست ضد هذا الوعي في مثل نقده لتهجم زعيم تدريس الانتماء العربي والاسلامي في حالة الرعاية لملتقى اغوسطينوس.. وإنما أقول: هذه الأوشاب نتائج لا أسباب، وذاك الزعيم وُجِد في حلقة متصلة على مدى نصف قرن، وانظر جريدة الحياة عدد 13997 في 21/4/1422ه استطلاع بو علام رمضاني، وهو كلام عن تجزئة بغيضة تتعلق باللغة في قطر عربي مسلم، والله المستعان.
***
الحواشي :
)1( الجهة أصلها «الوجه».. حُذِفت الواو التي هي فاء الكلمة، وعوض بدلها الهاء؛ فوزنها «عِلَة».. وَوَجْهٌ وَجِهةٌ بمعنى واحد.. إلا أن الواو والهاء لا يجتمعان في المصادر؛ فتقول من وعد: عدة.
والوجه )الاسم( كان في الأصل مصدرَ «وَجَهَ» الفعل الثلاثي؛ فأُهمل هذا الفعل، وأُعمل «وجَّه» الرباعي المضعَّف.. والنسبة إلى «جهة» جِهِيِّ؛ لأن هذه النسبة هي القاعدة في كل مصدر صحيح محذوف الفاء مثل صفي في صفة اذن الصواب:
«جِهِيَّة»، و«جهي».. والأولى زيد فيها مع ياء النسب تاء تأنيث مثل عتيبية وقحطانية.. ولعلهم راعوا تأنيث الجماعة والفرقة؛ فقالوا: جهمية، ودهرية، ومزدكية وعلوية.. أما الجهوية فلا تصح نسباً إلى الجهة التي أصلها «وجه» )ش أحمد يوسف القادري(.
)2( الفرنكفوني هو الذي يتحدث الفرنسية اعتيادياً في بعض حالات الاتصال على الأقل سواء كانت الفرنسية لغته الأصلية أو لغة ثانية.. والفرنكفولي هو الذي يحب فرنسا والفرنسيين، ويدعم السياسة الفرنسية. )د. محمد خير البقاعي(.
|
|
|
|
|