| شرفات
ما بين الميلاد والرحيل عاش تولستوي عمرا دراميا مثل صخب البحر وغضب النار. وقف جليلا مهيبا ضد جميع مؤسسات روسيا، وخرج وحيدا إلى العراء.. مهزوما يبحث عن الخلاص في مكان مجهول.
في السادسة عشرة من عمره كره الدراسة في الكلية، وسافر إلى القوقاز وهناك شارك في حرب القرم عام 1854م كضابط صغير، وعلى الحدود بين قوة وأخرى رأى الموت بعينيه ولعن الحرب وموقدها، كانت صدمة للوعي.. ها هو وجهاً لوجه مع تاريخ الدم وقسوة البشر، وبسطاء تسرق منهم الأرواح دفاعا عن أوهام وعن خيلاء القادة ومغامري الحروب!
وصاح تولستوي صيحة مدوية على الورق وفتح سجلا ملحميا عن الحرب في ملحمته الخالدة «الحرب والسلام» وبعمق المأساة كان عمق الكتابة.
تولستوي ابن الحسب والنسب، ابن إحدى الأسر العريقة التي تملك آلاف الأفدنة وعشرات العبيد والمنازل والحدائق. منذ صدمة الحرب لم يعد هو الشاب الثري الذي يتسكع في شوارع العاصمة سان بطرسبورج، يتيه بأصله ويستبدل امرأة بأخرى. في لحظة صدق وأسى وقف مع نفسه وفتح الصفحات البيضاء يدين فيها نفسه ويدين الآخرين، يهتك جدار القهر كما رآه في حرب القرم، وفي أهوال النظام الإقطاعي البغيض.
لم يرض أن يعيش كنبيل صاحب ثروة ومقام ومن حوله يعيش الفلاحون أذلاء في أكواخ حقيرة. كان تولستوي كالمنوم مغناطيسيا تحت تأثير أفكار جان جاك روسو عن الطبيعة والعودة إلى الحياة الفطرية البسيطة، كان يحمل ميدالية عليها صورة روسو ويقول عنه: إنني أحس وأنا اقرأ بعض الصفحات من روسو، كأني أنا قد كتبتها».
ليته اكتفى بأن ينقل أفكار روسو من كتاب إلى كتاب، ومن لسان إلى لسان! لم يستطع وهنا تكمن المأساة بنقائه المثالي وإيمانه المطلق بأن إصلاح الفرد يؤدي إلى إصلاح المجتمع. وعلى الفور بدأ بنفسه وأشعل ثورة صغيرة في محيط العائلة، لقد انشأ في ضيعته «يا سنيا بوليانا» مدرسة لتعليم أطفال الفلاحين، وقرر أن يحررهم من الرق والعبودية قبل أن تسن قوانين منع الرق! ليس هذا فحسب، بل أذهل عائلته برغبته في توزيع أرضه الموروثة على هؤلاء الفلاحين. وكان الصدام الرهيب مع الأسرة ثم الهزيمة والصمت لتولستوي.
خجل غريب من الثراء والتعالي الاجتماعي، بغض حقيقي لكافة الشرور التي مبعثها المجتمع والقيم الزائفة، وكأنه نادم على كونه ثريا! وحين شاهد طبقة الموسرين الجدد وهم يتزينون بطلاء التحضر والثقافة أدرك انهم أسوأ من الزراعيين القدماء، فنزعاتهم التجارية أكثر جشعا.. أكثر سحقا للعمال الفقراء! يعيشون في مدن ومحميات مع التعطل والدعارة والدعة ولا يدرون بآلاف العمال الجائعين قاطني بدرومات المدن.
حياة عصرية مليئة بالعقد والبذخ والطموح المسرف، وصفها تولستوي بسخرية ومرارة قائلا عن المتمدنين الغربيين إنهم يلعبون الألعاب الرياضية لأنهم لا يؤدون أعمالا مجهدة. ولو كانوا يعيشون مثل الفلاحين على الأرض لما احتاجوا إلى الرياضة البدنية.
كانت الحرب اشتباكا أول، وتناقضات المجتمع الإقطاعي اشتباكا ثانيا .. ثم يتمدد خط المواجهة ويقتحم تولستوي البرج العاجي للفن والثقافة واللغة منقبا عن نسق أخلاقي صارم، بدلا من الأدب المغلف بالحب وأكاذيب الحب. إنه يحاول التأسيس لجماليات أخرى ويدعو إلى فن شعبي وقصص أخلاقية بسيطة تناسب المحرومين والعامة. واتساقا مع هذا يدعو إلى تبسيط اللغة الروسية، ويبدع كتابة بسيطة بلا تزويق أو تزييف. إنه يكتب عن رجال وأبطال عاديين يملكون الفطرة وطاقة حب تسع جميع الكائنات وجميع معاني الصدق والشرف والحقيقة والشجاعة. من هنا تنبع كراهيته لشكسبير لأنه لا يكتب إلا عن الأمراء والملك وينظر إلى الشعب كمجرد غوغاء!
مئات من الشخصيات المتنوعة والمترعة بالحياة رسمها تولستوي باقتدار «في الحرب والسلام وحدها 559 شخصية» وصور خلجاتها النفسية ومظاهرها الجسدية، واقعها وتحولاتها. وعلى قدر موضوعيته الفذة على قدر ما تكشف رواياته عن صراعاته الذاتية وأزمته الروحية. وعلى قدر ما كان بارعا في التقاط روح الشخصية كما هي لا كما تقول هي عن نفسها، على قدر ما كان يجد نفسه تتعارك وتبحث لنفسها عن خلاص.. عن مكان بين أبطال قصصه. فهو أو لينين في رواية «القوزاق» و«ليفين» في أنا كارنينا» و«نكلودوف» في البعث .. وعندما كان يشعر بأن القصة لم تعد تناسب غرضه كان يهجر الأدب إلى وسيط آخر أكثر مباشرة كأن يكتب المقالات والخطابات والأبحاث الجدلية.. يناقش الآخرين بضراوة .. ويحاول أن يكون وفق ما يقول وما يؤمن به .. نجح قليلا وفشل كثيرا .. وتحمل لوم الآخرين له بسبب تقلباته وتناقضاته .. البعض يكبر فيه الكاتب العملاق والبعض يكره الأخلاقي الكامن بداخله.
وتلك كانت أزمته الروحية.. رغبة شديدة في الحياة وتطلع ديني قوي معادل! ربما لم يتمتع إنسان بكل مظاهر الحياة مثلما تمتع هذا الناسك الباحث عن الله. فهو رجل قوي البنية ذو طاقة جنسية قوية ومزاج شهواني، تزوج عام 1862 من فتاة صغيرة في نصف عمره تقريبا تدعى صوفي وأنجب ثلاثة عشر طفلا، يملك الثروة والجاه والنفوذ وفوق ذلك كله، النهم إلى الحياة وحدة الذاكرة والحواس .. وفي الصورة المقابلة هو مثالي إلى درجة التطرف يعيش تحت وطأة الرغبة في التطهر ويدعو الزوج ألا يتصل بزوجته إلا بغرض التناسل فقط، وحتى السبعين من عمره كان ما زال يصارع خفقان الجسد.
وتكمن عظمة رواياته في قدرته الخاصة على أن يحيا ويحيا .. كل ثانية وكل لحظة من حياته.. حالة من التدفق الإنساني والإبداعي مثل النهر.. مثل الزمن نفسه.. انفعالات أساسية في إبداعه عن الميلاد والحب والموت وحقائق الحياة الأبدية ورسائل أخلاقية ملتهبة تصل إلى درجة الوعظ المطول أحيانا. ليتحول شيئا فشيئا من روائي عظيم إلى ناسك عظيم، ينبذ مغريات العالم، يحرث أرضه بنفسه ويحترف صناعة الأحذية ويرفض أن يتكسب من قصصه.
وأخيرا تتكثف لحظة الذروة في صراعه مع الكنيسة وطقوسها الوثنية التي لا معنى لها. ففي رواية البعث يتحدث بطريقة تحقيرية عن القداس على أنه «كلام وسحر» حتى ان الكنيسة اعتبرت ذلك تجديفا وطردته.
ومن المفارقات الغريبة أن تولستوي الذي وقف بضراوة ضد تعاليم الكنيسة وتقاليد الإقطاع والقصر وضد تناقضات المجتمع واكتناز الثروة، وضد الحرب وقهر الضعفاء. هذا العملاق الذي وقف ضد كل هذا بإبداعه وفكره وسلوكه لم يكن مؤمنا بالثورة «رغم ما قيل من انه هو الإرهاص الأقوى للثورة البلشفية التي قامت بعد رحيله بسبع سنوات فحسب!» وكان يرى انه يكفي إنسان العصر أن يرفض الحياة الآلية وأن يعمل بيديه، ويكفيه من الفضائل: البساطة، الطهارة، الطبيعية، التسليم. تلك هي الفضائل التي تقود الفرد إلى الخلاص وليس الثورة.
كان يكره عنف الحرب وعنف الثورة والتعاليم الزائدة عن الحد، ويؤمن ان الانسان إذا توحد مع الطبيعة فلن يشعر بالألم إزاء الموت.
فنحن نخاف من الموت كلما ازددنا ثقافة وانفصلنا عن المجموع. هنا فقط يشعر المرء بوعيه الفردي مذعورا أمام الموت، أما الإنسان البسيط المتوحد مع ا لطبيعة فلا يأبه بالموت كثيرا لا يرتعب منه وكأنه جرح اصبع، وبنفس المنطق لا نجد الشجرة تحس بالموت بتاتا لأنها تخلو من الوعي تماما ومن الإحساس بفرديتها، وتشعر دائما أنها جزء متمم لا ينفصل عن الطبيعة الحية.
وتحت سطوة هاجس الموت والرغبة في التخلي عن كافة الممتلكات المادية والتوحد المطلق مع الطبيعة خرج تولستوي وحيدا في العراء، وبداخله شعور مرهف وقاتل بأنه فشل في حياته ولم يؤد واجبه كاملا، فلا هو استطاع أن يوزع الأرض على فلاحيه ولا استطاع أن يؤمن بالإيمان الساذج الذي ينشده. والدنيا حوله تزداد ألما على ألم .. فقراً على فقر .. وكأنه ليل طويل وان له أن يخرج بكل حواسه وبكل خفقة في جسده الفاني بحثا عن نقطة نور ونافذة خلاص ، فراراً من الدنيا إلى بارئها.
وفي السادسة صباحا من يوم 28/10/1910م أتت عربته التي ينتظرها، فركبها في صمت، ومضى به الحوذي حريصا ألا يستيقظ أحد آخر من أهل البيت. وعلى محطة السكة الحديد وجد صديقه الطبيب في انتظاره وركبا معا القطار في إحدى عربات الدرجة الثالثة.. مضى هائما على وجهه متخليا عن الزوجة والأولاد ومنزل الأسلاف العريق. وما هي إلا أيام حتى تعرف إحدى بناته بمكانه وتدخل الدير كي تقف بجانبه، فيرتعش بدنه الواهن ويشعر فجأة بأن الدنيا التي فر منها انتصبت بقوة أمام عينيه. فيفر مرة أخرى في الرابعة صباحا حتى لا يصل جيش الأقارب والمريدين، مكتفيا في غربته الروحية بوجود ابنته الوفية وصديقه الطبيب. وبينما كان الثلج يكسو وجه روسيا شعر النبيل النادم بقشعريرة الموت فلجأ إلى إحدى محطات السكك الحديدية.. محطة مغمورة وصديق حائر وابنة ملتاعة.. تلك فقط هي عناصر الوداع المأساوي .. وفي العيون ذهول وعدم تصديق أن يغيب هذا العملاق عن مسرح الحياة بهذه البساطة!.
شريف صالح
|
|
|
|
|