| متابعة
في خضم مسيرة العملية التعليمية نحتاج لأن نقف بعض الوقفات مع المعلِّم الأول والمربِّي الأمثل.
وأيُّ معلمٍ كان.. بل أيُّ إنسانٍ..
أيُّ إيمانٍ.. وأيُّ عزمٍ.. وأيُّ مضاء
أيُّ خلقٍ.. وأيُّ أسلوبٍ.. وأيُّ عطاء
وهل يظن ظانٌ أنه يوجد أو سيوجد على وجه الأرض من هو أسمى وأعلى وأشرف من الرسول صلى الله عليه وسلم معلِّما ومربِّياً؟
فهو الذي بعثه الله تعالى في أمة سيطر عليها الجهل واستولت عليها الخرافة، فصنع بإذن الله منها أمة حاملة لرسالة العلم والتعليم.
قال تعالى :«كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون» (سورة البقرة : 151).
فمع المعلِّم الأول ومع هديه صلى الله عليه وسلم نقف هذه الوقفات العابرة.
الوقفة الأولى:
الرفق بالمتعلم وتعليمه بالأسلوب الحسن.
عن معاويةَ بن الحكم السُلمي رضي الله عنه قال: بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله! فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أُميّاه! ما شأنكم؟ تنظرون إليَّ، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتُهم يصمِّتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسنَ تعليماً منه، فو الله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، قال: «إنَّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير، وقراءة القرآن»(1).
فتأملي يا أُخية هذا الأسلوب من نبينا المصطفى المعلم الأول صلى الله عليه وسلم، فرغم أنَّ هذا الخطأ كان خطأ كبيراً لأنه من مبطلات الصلاة التي هي عماد الدين، إلا أنه لم يعنف صاحبه، ولم يوبخه، إنما علَّمه برفق ولين وأسلوب حسن.
الوقفة الثانية:
العناية بالمتعلم والاهتمام به.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث القوم جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدِّث، فقال بعض القوم سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم بل لم يسمع حتى إذا قضى حديثه قال: أين أراه السائل عن الساعة؟ قال ها أنا يا رسول الله، قال: «فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وسِّدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة»(2).
فهو صلى الله عليه وسلم رغم أنه كان مشغولاً بحديثه لم ينس هذا السائل ولم يهمله، إنما كان مهتماً به فأجابه على سؤاله لما فرغََ من كلامه، وهذا الاهتمام يكشف عن تلك النفس الإنسانية العالية، والخلق السامي الرفيع من رسولنا الكريم المعلم الأول صلى الله عليه وسلم.
الوقفة الثالثة:
إيجاد الدافعية للتعلم من خلال إشعار المتعلم بحاجته إلى العلم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام فقال: «ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ، ثلاثاً ، فقال: والذي بعثك بالحق فما أُحسن غيره فعلِّمني..»(3)، الحديث.
وهكذا أوجد عليه الصلاة والسلام لديه الدافعية للتعلم والرغبة الذاتية فيه، وفرق بين أن يعمله صلى الله عليه وسلم ابتداء، وبين أن يشعر هو بحاجته للعلم ورغبته الشديدة فيه، فهذا أدعى للقبول وأعمق في التأثير.
الوقفة الرابعة:
استغلال المواقف والأحداث وربطها بالتعليم.
إنَّ المواقف والأحداث تستثير مشاعر جياشة في النفس، فحين يستثمر هذا الموقفُ يقع التعليم موقعه المناسب ويبقى الحدث وما صاحبه من توجيه وتعليم صورة منقوشة تستعصي على النسيان.
وهذا ما كان يستخدمه رسولنا الكريم المعلم الأول صلى الله عليه وسلم في تعليمه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سبي، فإذا إمرأة من السبي تبتغي(4)، إذا وجدت صبياً في السبى أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟» قلنا: لا والله وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لله أرحم بعباده من هذه بولدها»(5).
الوقفة الخامسة:
استخدام أسلوب المحاورة والإقناع العقلي.
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: إنَّ فتى شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إئذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه! فقال ادنه، فدنا منه قريباً، قال: فجلس، قال: «أتحبه لأمك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال:أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم، قال: فوضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه وطهِّر قلبه وحصِّن فرجه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء»(6).
ففي هذا الحديث نلمس عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم المعلم الأول والمربِّي الأمثل، وحسن تعليمه وتأمله مع هذا الشاب، فلم يزجره ولم يقل له إن الله حرم الزنا ورتب على ذلك وعيدا شديدا، لأن هذه الأمور معلومة لدى الشاب، فهو ليس بجاهل، فكانت الوسيلة المناسبة له الإقناع العقلي والحوار الهادئ من قلب مفعم بالرحمة والرأفة والشفقة.
الوقفة السادسة:
عدم التصريح بالأسماء أثناء التوبيخ.
غالباً ما يكون التوبيخ له أثر في نفس الموبَّخ، ويعظم هذا الأثر إن كان التوبيخ بحضور الآخرين.
ورسولنا الكريم المعلم الأول صلى الله عليه وسلم كانت له طريقة فريدة من نوعها في معالجة الأخطاء الظاهرة، فكان عليه الصلاة والسلام يشهِّر بالخطأ ويذمه ولا يشهِّر بصاحب الخطأ، لأن الغرض من التشهير بالخطأ التحذير من الوقوع فيه وذمه وليس التشفي من المخطئ.
عن أبي حُميدٍ الساعدي قال: «استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني أسد يقال له ابن اللتبية على صدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أُهدي إليَّ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر.. فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول هذا لك وهذا لي فهلاّ جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا..»(7)، الحديث.
الوقفة السابعة:
التشجيع والثناء الحسن على المتميزين.
لما كانت النفس البشرية تميل إلى حب سماع الكلام الطيب والثناء الحسن خاصة مع الجد والاجتهاد، لذلك كان نبينا الكريم المعلم الأول صلى الله عليه وسلم يحرص على استخدام عبارات التشجيع والثناء الحسن لمن كان أهلاً لذلك.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: .. يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه»(8).
فتخيَّلي شعور أبي هريرة رضي الله عنه وهو يسمع هذا الثناء وهذه الشهادة من النبي صلى الله عليه وسلم بحرصه على العلم، بل وتفوقه على كثير من أقرانه، ولك أن تتصوري يا أخيِّة كيف سيكون هذا الشعور دافعا لمزيد من الحرص والجد والاجتهاد.
فما أروعه من معلمٍ ومربِّ ليس له مثيل.
وحريّ بنا أخواتي المعلمات وأخواتي التربويات أن نقتفي أثره ونهتدي بهداه عليه الصلاة والسلام ففيه الخير كل الخير.
أسأل الله عز وجل أن يمنَّ علينا باتباع سنته صلى الله عليه وسلم وأن يجمعنا به في مستقر رحمته.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
*المشرفة التربوية المركزية للعلوم الشرعية بالوكالة المساعدة للإشراف التربوي
هوامش
(1) أخرجه مسلم في صحيحه ك: المساجد ب: تحريم الكلام في الصلاة ح: 33 1/381.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه ك: العلم ب: من سئل علماً وهو مشتغل في حديثه 1/23.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه ك: الصلاة ب: استواء الظهر في الركوع 1/200.
(4) أي تبحث عن ولدها.
(5) أخرجه مسلم في صحيحه ك: التوبة ب: سعة رحمة الله تعالى ح: 22 4/2109.
(6) أخرجه أحمد وصحح سنده الألباني وقال: وهذا سند صحيح رجاله كلهم ثقات، رجال الصحيح في سلسلة الأحاديث الصحيحة المجلد الأول 4/100ح:370.
(7) أخرجه البخاري في صحيحه ك: الأحكام ب: هدايا العمال 9/88.
(8) أخرجه البخاري في صحيحه ك: العلم ب: الحرص على الحديث 1/35.
|
|
|
|
|