| الثقافية
أنا لم ابدأ بنشر القصص إلا عندما شعرت بأن ما أكتبه فيه حد أدنى من النضج ويستحق أن ينشر. كل قصة أنشرها تكون ناضجة في حينها. طبعا، مفاهيمي للنضج تتغير، وكذلك شكل القصة وموضوعها، فأعود وأكتب قصة ثانية، وهكذا.
هناك فرق أساسي بين إنتاجي السابق عندما كنت شابا صغيرا، وبين إنتاجي الآن. في السابق قد كان عندي صبر على التفاصيل والوقائع. في الوقت الحاضر أنا أميل إلى التلخيص والتركيز والتعميق أكثر. والرؤيا الآن غير واضحة جدا على النحو الذي كان في السابق. الرؤيا الآن أكثر تعقيدا وعمقا. وفيها كل ما اكتسبه الإنسان من خلال حياته الطويلة ومغامراته في الكتابة وفي الحياة نفسها. إنما أنا معتز بكل قصة كتبتها في حينها.
بالنسبة إلى الشكل هناك مشكلة كبيرة جدا بالنسبة إلى الكتاب الجدد. هم كلهم جميعا مهتمون بأشكال جديدة للقصة. وهذا انحراف في الكتابة، لأن القصة ليست شكلا بل موضوع أساسا. أنت ما تقعدش تحكي لواحد قصة لمجرد أنك تستعرض عضلاتك في أنك تحكيها، إنما بتحكيها لأن فيه موضوع عايز تقولو على شكل قصة. كل هذا نتيجة للمدارس النقدية، وبالذات البيروتية المترجمة أصلا عن المدارس الباريسية، لأن الغرب أصلا ليس عنده موضوع الآن، فابتدأ يهتم بالمحسنات والاختراعات الشكلية. بينما واقعنا نحن، واقع مليء بالمواضيع وحتى لو وضعنا مواضيعنا هكذا على الورق، فإن هذه المواضيع تكون قصصا وروايات. لقد تركوا الموضوع وركضوا باتجاه الشكل. وقد أدى هذا الى الانحراف، وأدى إلى أنه بعدما تأصلت القصة المصرية القصيرة والقصة العربية القصيرة والرواية، ابتدأت أجيال جديدة تذهب مرة أخرى لتستلهم التراث الغربي. وهذا انحراف كبير جداً لأن هذه الأجيال كان يجب ان تبنى على حركة التأصيل التي حدثت في الخمسينات والستينات وتطورها ولكن شرط أن تبقي فننا لا فن الآخرين. أو فناً مستورداً.
وكما لدينا جيل دُعي في القرن التاسع عشر بجيل الترجمة، عاد إلينا الآن جيل آخر هو جيل الاقتباس والتأثر بالغرب مرة أخرى. وهذه مشكلة كبيرة جداً نعانيها أكثر مما نعاني الغزو الثقافي الغربي لأن غزو الأشكال الفنية خطير، فهو يبعدنا عن أصالتنا وعن حقيقتنا.
إنك تقرأ القصة أو الرواية ولا تفهم منها شيئاً أبداً، ولا تتأثر بها، ولا تزال القصة كالنكتة. يجب أن يكون للقصة موضوع كما للنكتة، فإذا لم يكن للنكتة موضوع فإنها لا تضحك مهما بلغت براعة الذي يقص النكتة.
فإذا لم يكن لها موضوع فلا أحد يضحك. لو أتيت بشكسبير ليكتب قصة بدون موضوع فلن تبقى قصة.
ففي المضمون لا يوجد تجديد. أنا لا أرى مواضيع جديدة. عندما يسألونني ما هي القصة ، من هم الكتاب الجدد في مصر، أجيبهم: إن السؤال ينبغي أن يكون: ما هي المواضيع الجديدة للكتابة القصصية، ليس من هم الكتاب الجدد ما فيش حاجة اسمها كتاب قصة، هناك مواضيع جئنا في الخمسينات طرحنا على الساحة موضوعا جديدا للقصة هو موضوعنا: موضوع فلاحنا وموضوع إنساننا وموضوع مشكلاتنا بشكل فني. الآن للأسف هناك كتاب جدد ولكن لا يوجد مواضيع جديدة.
يجب أن نستوحي الأشكال القصصية العربية القديمة كما نستوحي الأشكال التي أهملناها في المرحلة المعاصرة. في الشعر الحديث طوروا الشعر في التفعيلة. الشعر لم يكن لا قافية ولا تفعيله. الشعر موضوع يتركب بشكل موسيقي أثناء كتابته. فالشعر موضوع أساسا وليس شكلا ولكن لأنهم نحوا ناحية الشكل فقط من غير موضوع النتيجة كانت تعقيدا في تعقيد. أنا كاتب ومع ذلك لا افهم شيئا تقريبا من الشعر الحديث. فما بالك بالإنسان العادي؟ ما بالك اذا كان الشعر يُلقى كي يثير الوجدان والخيال والحكمة؟ الحقيقة أننا بحاجة إلى حركة نقدية كبيرة جداً تتناول موضوع التجديد في الأدب وكيف يكون: شكليا أو مضمونا، أو مضموناً جديدا يخلق لنفسه شكلا جديداً . وهذه المسألة عايزة نقاد كبار يخشوا المعمعة عشان يحولوا الانحراف اللي حدث في الحركة الشابة.
فالناقد فنان بكل معنى الكلمة وكل مافي الأمر أنه بدلا من أن يبني فنه مستوحيا الواقع، بنى عملا فنيا نقديا استنادا إلى عمل فني آخر. إنما الناقد فنان فالنقد تكوين وليس مسألة تصحيح. ليست مهمته أن يقول هذا صحيح وغير صحيح، إنه يمسك موضوعا فنيا يعجبه، يبني عليه عملا فنيا من ابتكاره يلقي على العمل الفني الذي تناوله ضوءا لم نره، أو لم نكن قد رأيناه. فالنقد عملية تكوين ولدينا نقاد كثر ناجحون وجيدون، لدينا الدكتور علي الراعي والدكتور لويس عوض ورجاء النقاش وأحمد عباس صالح وسواهم. إنما لا يعمل هؤلاء في النقد الآن مع الآسف.
|
|
|
|
|