| مقـالات
الشيطان عدوّ للإنسان، وعليه أن يحتاط لعداوته، التي يسلك في سبيلها ألواناً شتى من الحيل والدسائس. يقول سبحانه: «إن الشيطان لكم عدوّ فاتَّخذوه عدواً، إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير» (فاطر:6).
إن الشيطان منذ امتنع عن السجود لآدم تكبّراً، ومعصية لله،. قد أخذ على نفسه العهد أن يغوي بني آدم، ويغرِّر بهم، ليضلهم عن الطريق السَّوي، الذي أكرمهم الله به، وله حيله العديدة، ودسائسه المتنوعة، يأتي الإنسان من يمين وشمال، ومن الأمام والخلف، ويدخل عليه عن طريق الطاعات والعبادات، إذا عجز عن طريق المعاصي والشهوات، والله يحذرنا في هذه الآية من عداوته بالتأكيد، حسب طرائقه، ويأمرنا جل وعلا بالحذر منه فمتى اعتبرناه عدواً، في مقابلة العداء بالعداء، اتَّخذنا الحيطة بالسلاح الإيماني والذّكريّ، من غروره وخداعه، فلا نركن إليه، ولا لأعوانه لأن العدوّ لا يسير في ركاب عدوه ولا يصغي بأحاسيسه لدسائسه ولا هواجسه التي يلقيها، أو لأعوانه الذين يزيّنون الأمور السيئة، ويسوّفون في الأعمال بتخفيف عواقبها.
إنها حكمة الله، والابتلاء في هذه الحياة الدنيا، بأن يكون خيراً وشراً، ولكل منهما طرقه ومسالك السّير فيه، وقد جعل الله للإنسان عقلاً يدرك به، وبياناً من الله جل وعلا عن الشرّ، وأن الداعي إليه هو العدو الأول لابن آدم، الشيطان الذي يدعو للمهالك مثلما هلك هو ويجذب أتباعه إلى الخسارة الأبدية، في عذاب الله الدائم، في الدار الآخرة مثلما وعد هو هذا المصير.. وما ذلك إلاّ أن من وقع في الشّر، لا يهنأ له قرار، حتى يجذب الناس معه لذلك الشر.
وفي الجانب الآخر ما بيّنه الله عن الخير، وأن الداعي إليه هو الاستجابة لأمر الله، بأخذ الحيطة عن هذا العدوّ، والتّسلّح ضده في معركة الحياة بما بان من شرع الله، وما وضّحه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو سهل على من يسّره الله عليه، لأن كيد الشيطان ضعيف، وحيله ودسائسه على المؤمن قاصرة.. والله وعد ووعده حق وصدق بحسن الجزاء والسعادة الأبدية في دار الخلود، لمن استجاب لأمر الله، وابتعد عن دسائس عدوّه.
يقول سيد قطب عندما مرّ بهذه الآية الكريمة: «إنها لمسة وجدانية صادقة، فحين يستحضر الإنسان صورة المعركة الخالدة، بينه وبين عدوّه الشيطان، فإنه يتحفز بكل قواه، وبكل يقظته، وبغريزة الدفاع عن النفس، وحماية الذات، يتحفز لدفع الغواية والإغراء.. ويستيقظ لمداخل الشيطان إلى نفسه، ويتوجّس من كل هاجسة، ويسرع ليعرضها على ميزان الله الذي أقامه له ليتبيّن، فلعلّها خدعة مستترة من عدوّه القديم، وهذه هي الحالة الوجدانية، التي يريد القرآن الكريم، أن ينشئها في الضمير، حالة التوفّز والتحّفز، لدفع وسوسة الشيطان بالغواية، كما يتوفّز الإنسان ويتحفّز لكل بادرة من عدوّه، وكل حركة خفيّة، حالة التعبئة الشعورية، ضد الشرّ ودواعيه، وضد هواتفه المتسترة في النفس، وأسبابه الظاهرة للعيان، حالة الاستعداد الدائم للمعركة، التي لا تهدأ لحظة، ولا تضع أوزارها، في هذه الأرض أبداً». (في ظلال القرآن 22: 106 107). والشيطان الذي جاء ذكره في كتاب الله بالاسم 88 مرة، وبالدلالة عن صفة من صفاته، وعمل من أعماله أكثر من ذلك، هو أخطر شيء على إيمان المسلم، حيث تغيظه طاعته لله، ويصيح ويدعو بالويل والثُّبور، إذا قرأ المسلم القرآن، ومرَّ بآية فيها سجدة، وسجد لله متعبداً بذلك ومستجيباً، فيقول عدو الله: واويلاه أمرت بالسجود فامتنعت وأمر ابن آدم بالسجود، فاستجاب طائعاً وسجد.. ويحثو على رأسه التراب، لما يرى من تنزّل الرحمة على عباد الله الحجاج يوم عرفة، غيظاً، وحسداً..
هذا الشّيطان بحيله وألاعيبه، ودسائسه ومغرياته، يتضاءل ويفرّ عندما يسمع الأذان، وينكمش عندما يسمّي المرء المسلم الله الرحمن الرحيم، بل لا يقرب شيئاً عليه اسم الله، أو ذكر معه اسم الله..ولكي يكون مع العبد سلاح قويّ، يطعن به الشيطان في المحزّ، فعليه أن يكون لسانه رطباً من ذكر الله، فكلمة الله أكبر هي من الأمور الحقيقية الملجمة للشيطان ودسائسه.. فالله أكبر من كل شيء، لأنه الخالق لكل شيء، والقادر على كل شيء، وفيها إسكات لمكائد عدوك أيها الإنسان وهو الشيطان، وإزعاج له. وما أعظم انتصار الإنسان عندما ينزعج عدوُّه. فهناك كلمتان صغيرتان، خفيفتان في النُّطق، عظيمتان في قوة أثرهما، وحصن حصين من الشيطان الرجيم: إنهما الله أكبر، وبسم الله الرحمن الرحيم.. ففيهما راحة القلب وحماية الله للمواظب عليهما من شر الشيطان ودسائسه وأعوانه.
وأوامر ديننا، وتأكيدات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، توكدان على أهمية تكرارهما، وإعادتهما في جميع الشعائر، وفي شؤوننا الخاصة كدخول المسجد والخروج منه، ودخول المنزل والخروج منه، وعند خلع الملابس والأحذية ولبسها، وعند تناول الطعام وغير هذا من المواقف الكثيرة.
وما هذه الملازمة، إلا لإزالة هذا الكيد الشيطانّي، الذي يعمل بالخفاء، ويوسوس في السّرّ، ويجري من ابن آدم مجرى الدم، ويزيّن مداخل الشرّ والفساد، ويخفف وطأتهما على الإنسان، ويثقلّ القلب الغافل عن طاعة الله: عملاً بدنيّا وذكراً لسانيّاً..
فجعل هذا السلاح الخفيف في محمله، صاعقة على دسائس الشيطان، لأنّ الإنسان بقدرته الشخصية ضعيف، وبقوته البدنية عاجز، علاوة على فكره المحدود، الذي ينير به الله حقيقة إيمانه، فيبرز أثر ذلك، أمامه بأثر ونور «بسم الله الرحمن الرحيم، ولا إله إلا الله والله أكبر».. حيث يطمئن القلب، وتنجلي المؤثّرات للدسائس التي عجز عدوّ الله، وعدوك يا ابن آدم، الشيطان عن تحقيقها، بهذا السلاح الذي أحاطك الله به، فكان حصناً منيعاً لا تؤثر فيه أعمال الشيطان، ولا حيله.. عندما يخاطب قلب المؤمن بالوسوسة، فيجد الأبواب موصدة دونه، ولا حيلة عنده بفتحها، والنّفاذ إلى القلب، إلا عندما يغفل المرء عن حمل هذا السلاح، وأخذ الأهبة لصدّ كيد الشيطان الضعيف، أمام قوة الله، وبما يجعله سبحانه في قلب المؤمن، ويفيض على لسانه، بهذه الكلمات السهلة في نطقها، العميقة في قوتها ومعناها.. وما تترك من اثر في مباعدة الشرور عن المؤمن العارف.
ودسائس الشيطان كثيرة، ومتشعّبة، وهكذا نجد أصحابه البارزين أمامنا في الدنيا من الإنس، لهم طرقهم التي يزينون بها باطلهم، وعندهم مغريات وأساليب تفتن القلوب، ولديهم ذكاء خارق وحيل، كل هذا من أجل تثبيت الشر، وتكثير الأعوان عليه، ولا يكلّون ولا يملّون، من إعادة الكرة عدة مرات، ولا ييأسون من عدم الاستجابة لهم، والسير في ركابهم.. بل يغيّرون الاسلوب، ويزيدون المغريات.. حتى تستجيب بعض النفوس الضعيفة لما يراد منها: مشاركة وعملاً..
والشيطان الذي هو قرين مع كل واحد منّا معاشر البشر، له أسلوب مماثل أو أشدّ في الإغواء والدسائس، بل هو أشد في المتابعة والرغبة في تغفيل القلب عن ذكر الله. لأنه لا يتسلط إلا على القلب الغافل، واكثر الغفلة عن ذكر الله تكون في الصّبيان والنساء وأهل المعاصي..
لأن الصبيان لم يعقلوا بعد، ويهمل بعض الأولياء عن ربطهم بالله جل وعلا: تسميةً وتكبيراً وتهليلاً فهم في حاجة الى من يذكّرهم، ويسمي عليهم، اجتناباً للشياطين ومردتهم.. والنساء أكثر غفلة في الغالب، وأقل اهتماماً بالأذكار والتسمية.. أما العصاة فقد أخبر الله عنهم بقوله جل وعلا: «كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون» (14 المطففين).
فتكون دسيسة الشيطان في هذا المثل: الحريص على غفلة القلب، فإذا غفل القلب ضعف اللسان عن الذكر والتسمية، فيكبر حجم الشيطان، ويزداد نشاطه شيئاً فشيئاً، حتى يجر المرء إلى ما فيه خسارته وهلاكه..
أذكر في هذا تصويراً قاله الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله في احدى محاضراته قال: إن الإنسان مع الشيطان شبيه برجل يشوي لحماً، فإذا وضعه على النار، شمّت القطط رائحته، فجاءت طامعة فيه، وصارت تختلس النظر لمن يشوي وتقترب شيئا فشيئا لعلها تجد فرصة، تنقضّ معها على هذا اللحم، لتأخذ منه، ما استطاعت، فإذا رآها هذا الرجل قد اقتربت منه، هاش عليها بعصاه، أو رماها بحجارة فتنفر وتبتعد مسرعة، خوفاً من هذا السلاح الذي في يده وهو العصا أو الحجارة.. فإذا ابتعدت عن متناول ما في يده من سلاح، وقفت تترقب ثم بدأت تعود شيئاً فشيئاً كحالتها السابقة.. وهكذا هو وإياها في صراع.. فإن غفل عنها ولو لحظة اغتنمت الفرصة وسرقت ما تهيأ من لحمه، وإن طالت الغفلة أكلت لحمه كله.. ولم يبق له شيء.. وإن استمر في طردها سلم لحمه كله من الاعتداء.
وهكذا الإنسان مع الشيطان، فإنه اذا سمع: الله أكبر، والبسملة وذكر الله، عندما يأتي المسلم لصلاته فإن الشيطان يبتعد عنه، ثم يعود عندما يسكن عن التكبير وذكر الله، ليوسوس له، ويضع دسائسه، فيذكّره ما كان ناسياً، ويكثر عليه الخواطر والوساوس، فإذا ذكر الله، شعر بالراحة، لأن عدو الله قد ذهب عنه ليعود مرة ثانية وثالثة وهكذا في غير كلل ولا ملل، حتى يفسد عليه صلاته.. لأن عدو الله يدرك مكانة الصلاة في أعمال المسلم. ويدرك مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم: بأن الانسان ليس له من صلاته إلا ما عقل منها.. فقد يأخذ منها النصف أو الثلث أو الربع.. وقد تلفّ كما يلفّ الثوب الخلق فيرمى بها وجهه، وتقول له: «ضيّعك الله كما ضيعتني..»
من هذا ندرك الأسرار الكثيرة وراء الأدعية، فمثلاً أخبر صلى الله عليه وسلم: بأن الانسان إذا دخل بيته فلم يقل بسم الله قال الشيطان لأعوانه أدركنا المبيت، فإن جاء لطعامه، وأكل وشرب ولم يسم الله قال: أدركنا مع المبيت العشاء.. وإن ذكر الله وسمى قال الشيطان لأعوانه لا مبيت لكم عنده ولاعشاء..
وعند دخول بيت الماء.. الخلاء أو الحمام.. نهينا عن ذكر الله فيه، وعن قراءة القرآن، بل عن الحديث عند قضاء الحاجة، لأنه هو مأوى ومسكن الشياطين، وحتى يتّقي الإنسان منهم أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الدعاء عند الدخول أو قبله: بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث.. يعني ذكورهم وإناثهم، لأن اسم الله جل وعلا إذا استحضره الإنسان في كل موقف: حماية له، ووقاية من الدسائس الشيطانية..
ويأتي من دسائس الشيطان: وسوسته للإنسان، حتى يقوى عنده عدم الاعتراف بالتقصير، فيخفف عنه ما ارتكب من معاص، بل يحسنّها في قلبه، ويعظّم ما قدّم من حسنات، وما قام به من عبادة، غروراً واستحساناً لكي يسد عليه طريق الاستغفار، والاستعاذة بالله من شره.
لأن هذا مدخل من مداخل الخيلاء والكبر، حيث يخف ميزان الخير في القلب، ويتعاظم ميزان الشر الذي ترجح كفته، والغرور يسبب الاحباط عن مواصلة عمل الخير، والتكاسل في العبادات، فكأن هذا بعمله متعالٍ على الله، ليثير عنده الشيطان أنانية النفس، فتحاجّ مدافعة عن ذاتها، كما يدافع المحامي عمّن وكْله بكل ما يستطيع حتى يكسب القضية، وما وراءها من مادة.. وبذا يتوقع حججه منزهة عمله عن كل نقيصة.
إن المجرم عندما يعد المحامي بمال كثير، إذا هو كسب القضية يحرص على أن يفتح له مجالات في قضيته، تبعد عنه الإدانة كلية، أو جزئية.. ويلقّنه الحجج التي تبعد عنه مبررات الإدانة في قضيته، وكذلك الشيطان مع الإنسان فالنفس التي تصغي للشيطان، لا تحب أن تظهر عيوبها ولا تقصيرها، وحتى اذا رأتها، فإنها تؤولها بتأويلات تخفف وخز الضمير، وألم العيب.. كالنعامة التي تدسّ رأسها في التراب هروباً من الصيّاد، لأنها لا تراه.. بينما جسمها الكبير بارز..
وما ذلك الاّ أن النفس تنظر لذاتها وأعمالها بعين الرضا، خاصةً عندما يزيّن ذلك الشيطان بدسائسه، فلا ترى في عملها عيباً، ولا تقصيراً، فينقلب الى الغرور والغرور من أحابيل الشيطان، ليثبط عن العمل النافع، ومن ثم فلا يأتي لله ذكراً، ولا عن الذنوب والشيطان استغفاراً، ولا من الشيطان وهمزه ونفثه استغفاراً وتعوّذاً.
وهذه كما قال ابن الجوزي: هي النفس الأمّارة بالسوء، التي يضحك منها الشيطان فرحاً، ذلك ان النفس على أنواع: منها الأمّارة بالسوء ومنها اللوامة، والمطمئنة: فالامّارة بالسوء: هي الكثيرة الأمر لصاحبها بالسوء، أي الفاحشة وسائر الذنوب، وهذه مركب الشيطان، ومنها يدخل دسائسه على الإنسان، ويزين له القبيح لعمله، ويهون عليه أثر الخير ليخف وزنه عنده، فلا يبالي ما خسر في هذا السبيل، الا من يرحمه الله ويبعث اليقظة في قلبه ليدرك خطر الشيطان عليه فيستعيذ بالله من شره، لتكون نفسه مطمئنة إلى ربها، منيبة إليه، منقادة لداعي الهدى، متغاضية عن داعي الردى فذلك كما قال ابن سعدي في تفسيره «ليس من النفس، بل من فضل الله ورحمته بعباده» أما النفس اللوامة: فهي التي تلوم صاحبها ليحاسب نفسه، على اعماله الخيرية وغيرها، فالمؤمن العارف بالله، الحريص على محاربة الشيطان: يحاسب نفسه ويلومها: ما أردت بكلمتي، ما أردت بأكلتي، ما أردت بحديثي، فهو يعاتبها، أما الفاجر اللاّهي الخاضع لانقياد الشيطان، فإنه لا يبالي، بل يمضي قدماً في أعماله، ولا يعاتب نفسه، ويولجه الشيطان باب الشرّ.
ولذا فإن الواجب على من اعترف بتقصير نفسه ان يستغفر ربه، لأن من يراقب نفسه وأعمالها فسوف يرى عيوبها ونقصها ويبحث عن المخرج من ذلك، وهو قريب منه: أن يستغفر الله جل وعلا ويستعيذ من الشيطان الرجيم، الذي أمرنا الله ان نستعيذ منه إذا مسّنا منه ضر، أو أدخل علينا وسوسة، ومن يغفر الذنوب إلا الله، وألاّ نصرّ على العمل ونحن عالمون بذلك وآثره.
ذكر الله حرز عن الشيطان:
حدّث جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. كما جاء في جامع الأصول لابن الأثير «إذا دخل الرجل بيته، أو أوى الى فراشه، ابتدره ملك وشيطان، يقول الملك: افتح بخير، ويقول الشيطان افتح بشرّ، فإن ذكر الله طرد الملكُ الشيطانَ، وظل يكلؤه، وإذا انتبه من منامه قالا ذلك، فإن هو قال: الحمد لله الذي ردّ نفسي إليّ بعد موتها، ولم يمتها في منامها، الحمد لله الذي يمسك السموات السبع، أن تقع على الأرض إلا بإذنه، فإن خرّ من فراشه فمات كان شهيداً، وإن قام وصلى صلىّ في فضائل». أخرجه رزين (9: 515).
وهذه قصة عجيبة، أوردها ابن كثير رحمه الله في تاريخه البداية والنهاية نقلاً عن ابن أبي الدنيا، في كتابه (مكائد الشيطان)، يناسب ذكرها في هذا الموقف، قال ابن أبي الدنيا، في كتابه المذكور مكائد الشيطان: «ذكر لنا أن رجلاً من أهل الشام من أمراء معاوية، غضب ذات ليلة على ابنه، فأخرجه من منزله، فخرج الغلام لا يدري أين يذهب، فجلس وراء الباب من خارج، فنام ساعة، ثم استيقظ وبابه يخمشه هرّ أسود بريّ، فخرج إليه الهرّ الذي في المنزل أي منزل والد الغلام فقال له الهرّ البريّ: ويحك افتح.. فقال: لا أستطيع. فقال: ائتني بشيء أتبلّغ به أي آكله ليسدّ جوعتي فإني تعبان، وأنا جائع.. هذا أوان مجيئي من الكوفة، وقد حدث الليلة حدث عظيم.. قتل علي بن أبي طالب.
فقال له الهرّ الأهليّ: والله إنه ليس ها هنا شيء إلاّ وقد ذكر اسم الله عليه، غير سفّود وهو الحديد الذي يشوى به كانوا يشوون عليه اللحم: فقال الهرّ البريّ: ائتني به، فجاء به، فجعل يلحسه حتى أخذ حاجته وانصرف.
وكان ذلك بمرأى ومسمع من الغلام، فقام إلى الباب، فطرقه وخرج إليه أبوه، فقال: من؟، ثم قال له: ويحك ما لك؟. فقال: افتح وعندي لك نبأ جديد. ففتح فقصّ عليه خبر ما رأى، فقال له: ويحك أمنام هذا؟ قال: لا والله بل يقظة. قال: ويحك، فأصابك جنون بعدي؟. قال: لا والله، ولكن الأمر كما وصفت لك، فاذهب إلى معاوية الآن، فأتخذ عنده بما قلت لك يداً. فذهب الرجل، فاستأذن على معاوية فاستيقظ من النوم، فأخبره خبر ما ذكر له ولده. فأرّخوا ذلك عندهم، قبل مجيء البريد، ولما جاءت البُرُدُ وجدوا ما أخبرهم الرجل مطابقاً لما جاء به الرجل عن الغلام ابنه.. ثم قال ابن كثير: هذا ملخص ما ذكره (البداية والنهاية 8: 20).
|
|
|
|
|