لم تكن الوجوه، ولا الحياة النيويوركية باهتة، بل كانت مليئة بالضجيج والعنفوان، كان الكل في سباق يومي مع النهار.. ينتهي عند خط الليل، الذي يمضي كله استراحة للمتسابقين والتقاط أنفاسهم، قبل ان تستأنف المرحلة التالية من السباق عند الصباح، انه سباق حتى الموت من أجل الحياة!!.
«شيء واحد هو الذي كان باهتاً في نيويورك: المشاعر، فلم يكن أحد ليلتفت إليك لو سقطت أثناء السباق، لأنه لا أحد يريد ان يتأخر عن السباق من أجل ان يطمئن على تعثر أحد المتسابقين(1).
تحضر المدن في ذاكرة البشر، كأنها ألوان الحياة المختلفة، فهذه باردة، وتلك تثير، وثالثة تتعب، ورابعة مملة، والحركة في المدن، ترسم أبعادها.. وتحدد أطوالها، وسمك اسمنتها..
فهذه «بلا قلب» وتلك بلا جدران، وثالثة بلا عواطف ولا مشاعر ولا حقائب!!.
غير ان ما حظيت به نيويورك من سخط الشعراء وهجائهم وشعورهم بالخوف والنقمة يفوق بأضعاف ما حظيت به مدن العالم الأخرى!!.
ونيويورك هذه «تتأسس فوق صفيح هائل من المشاعر المتخثرة والهندسة الحيادية المرعبة، والجشع الذي لا تحده حدود، في تلك المدينة المسحوبة العصب لم يكن ثمة مكان للعواطف الفائضة أو الرحمة المجردة من النفع أو الترجيع الاستعادي لبهاء الماضي، كل شيء هنا يتحول إلى وثن أو تمثال، أو نصب للحياة التي تطل من جهة المستقبل (2)!!.
عندما زار الشاعر الكبير أدونيس مدينة «نيويورك» ارعبه هذا البناء المتعدد الأبعاد والاتجاهات ولم يستوعب مدينة بهذا الخوف والهلع والصخب فكتب قصيدته: «قبر من أجل نيويورك» يقول فيها:
«لم أرك في منهاتن
ورأيت كل شيء
القمر قشرة تقذف من النوافذ
والشمس برتقالة كهربائية
وحين قفز من «هارلم» طريق
أسود يتوكأ على أهدابه
كان وراء الطريق قمر
يتبعثر على مدى الأسفلت»
ومن قبل أدونيس جاء الشاعر لوركا ليكتب عن «نيويورك» ذات الكتابة التي تصور المدينة الجائرة المرشحة للدمار.. قال ذلك قبل سبعين عاماً.. يقول في قصيدته: «شاعر في نيويورك» مخاطباً جرح نيويورك:
«الدم الذي يؤكسد الريح التجارية المستهترة بأثر قدم
ويذيب الفراشات على زجاج النوافذ
انه الدم الذي يجيء
وسيجيء من الأسطح والشرفات
على الإنسان أن يهرب إلى الزوايا
ويحبس نفسه في الغرف»!!
هنا يقف لوركا، ولكن أدونيس يواصل قصيدته قائلاً:
«تفتتي يا تماثيل الحرية
أيتها المسامير المغروسة في
الصدور بحكمة تقلد حكمة الورد
الرياح تهب ثانية من الشرق
تقتلع الخيام وناطحات السحاب»!!
«إن جميع الذين بهرهم جمال نيويورك وصعقتهم عظمتها المستجدة وأبنيتها الأسطورية العالية ما لبثوا ان رأوا تحت تلك الغلالة الواهية من العظمة والسحر بذور التسوس والانحلال التي تقضم أمعاء المدينة وتنخرها من الداخل»!!.
إنها العواصم والمدن الكبرى، تثير هؤلاء القادمين من الريف والمنتسبين إلى تراث زراعي، وعاطفة مشحونة بالفطرة القروية.. انهم بشر يرون في هذه المدن ما يهدد أمنهم الداخلي وقيمهم المثالية وطفولتهم التي لا تفيد ولا تغني.
انه التوجس من الجمل والليل وناطحات السحاب.. وحسبك هذا يا نيويورك.. انهم أناس لا يتصالحون مع الأشياء!! ولا مع المدن.. ولا مع الانماء!!.
هامش:
1 راجع مقالاً للاستاذ/ زياد الدريس عن نيويورك/ مجلة المعرفة عدد رجب 1421ه.
2 راجع جريدة «الحياة» بتاريخ 1/7/1422ه مقال للشاعر شوقي بزيع.