أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 4th October,2001 العدد:10598الطبعةالاولـي الخميس 17 ,رجب 1422

الثقافية

التغيير.. ونظرية«السلطة» 3/4
د. صالح زياد
للحكمة مدارها الساطع الوهاج الذي يؤلف الضمير على نقاء الفكرة ونزاهة القصد.
وذلك في المطلق ظمأ الإنسانية الذي لا تبرحه إلا وهي تتخيل وتحلم، أي عندما تتحرر من عقال واقعها ونسبية معقولها الذي لا يكتمل تكوينه طالما بقي هذا المعقول مفتوحاً على التجربة والعمل والنظر والتأمل. لكن الحكمة من منظور أخلاقي إنساني أفق لسؤال العدالة والمساواة، فالحكيم حكم وحاكم وصواب الحكم والحكومة العدل ولا عدل بلا مساواة. الحكمة هنا متكأ لنقض معاني التفرد والاستثناء والنفي وظروف الفوقية الظالمة، وبذلك تغدو مضمراً لمجادلة ما ينشئه مدير دونسكو في رواية القصيبي من تلك المعاني، وهو مضمر لا تستطيع الرواية أن تراقب صمته عن كثب، فعليها أن تنطقه وأن تخرجه الى ضوء البيان ليتحدث ويحكم على النحو الذي نقرأه في فصلها المعنون ب«مجلس الحكماء».
إن المجلس هكذا منعطف يرفد بنية الرواية بمزيد من الحوارية التي تنشأ عبر اختلاف الوظيفة والمدلول وتعدد الصوت. وهو اختلاف يؤسس للعقل مقابل الخيانة، وللعدل مقابل الظلم، وللاختيار مقابل الفرض، وللمحاسبة مقابل المجاملة، وللشفافية مقابل التعتيم، وللمصلحة العامة مقابل المنافع الشخصية.. اي اننا سرديّا امام ناتج لجدلية التضاد التي لا تخلص فيها المعاني والمواقف الى لونها الصريح الواحد، ولا تمحضنا بياضها المطلق أو سوادها الخالص، بل طيفها الذي لا يختصره لون ولا يوحده معنى . كأننا لا ننشئ المدونة السردية ولا نقرؤها إلا لنكتشف هذا الطيف البولي فوني polyphonic الذي يعذبنا ويلذنا، ويفرقنا ويجمعنا، وتبقى النصوص دونه سطوحاً بلا عمق، وعيوناً بلا نظر.
يخاطب رئيس مجلس الحكماء زملاءه الحكماء بشأن اختيار مدير جديد لدونسكو فيقول: «ولا اظنني في حاجة إلى التذكير اننا اقسمنا يميناً مغلظة عند انتخابنا بأن نصرف النظر عن اية اعتبارات قارية، او وطنية، او شخصية، وان ننظر إلى مصلحة العالم كله» هنا إعلان للحياد، والحياد هو منطق الحكمة الحكمة محايدة لان النقل مطلقاً كوني لا إقليمي. وإنساني لا عنصري، وكلي لا جزئي، الحياد منطق الحكمة ووظيفتها، بلا حياد لا ترى إلا ما يعجبك، بلا حياد كأنك لا ترى. هل يجوز للمواقف أن تكون أبطالاً؟ إذن، فلنعد الحياد بطلاً يصنع الرواية بقدر ما تصنعه، ويقف فيها وتقف به. إنه سقف الممكن وأفقة الشفيف الذي يعادل استقلالية القضاء وسادة النظام والقانون، حيث تتحرر الرؤية من الهوى والحاجة والضعف.. حيث تحايد لترى، وتستقل لتعدل. الراوي بالنتيجة لا يملك نسباً لقارة او وطن او شخصية تماماً كما هو حال رئيس مجلس الحكماء الذي يتولى عرفاً رئاسة المجلس لأنه «لم تنتخبه قارة بعينها».
الاستقلالية هنا على نحو ما ينهض بها درامياً رئيس مجلس الحكماء، وعلى نحو ما تنهض بها صيغة الخطاب الروائي، بالمفهوم الذي يستمد أساسه النظري ل«الصغية» من تودوروف حيث يعني بها« الطريقة التي بواسطتها يقدم لنا الراوي القصة». هذه الاستقلالية محك دلالي في سياق من طوفان التطويع والاكساح والإغراء وملك المعرفة واحتكار المعنى الذي تمارسه السلطة المتنفذة التي يغدو شخص المدير مركزاً لإنتاجها. هل جاءت الحكمة إذن من صفة الاستقلال؟!.
إن القاسم المشترك بين الراوي والحكيم«رئيس المجلس» يكمن في أن كلاً منهما ينظر إلى الحدث من موقع مستقل، ومن ثم يتبادلان المقومات ويفيدان وظيفياً من دلالة الحكمة، فيكسب الراوي حصافة الحكيم ويقبس من سلوكه الذي يعلو به عن الحدث، تماماً مثلما يستعير الحكيم عين الراوي ليرى الأشياء وقد احتفظ بمسافة معقولة لإمكانية النظر.
صيغة لخطاب في «دونسكو» إجمالاً يغلب فيها العرض لا السرد ، فيستبد العرض بمساحة الرواية تاركاً أسطراً متناثرة وقليلة لسرد يأخذ هو الآخر بطابعه التسجيلي منحى العرض ويمعن في تأكيده. ومع أن الراوي يتخذ صفة« العارف بكل شيء» إلا أنه لا يقتحم القصة بل يتراوح دوره بين الحياد والانتقاء والشكل المسرحي والكاميرا بحسب تسلسل تصنيف نورمان فريدمان لعلاقة الراوي بمادة الرواية. وبذلك تبدو تلك المادة من خلال الحوار بين شخصياتها، أو الحوار الذاتي والتداعي الحر الذي يرتاد مستوى ما قبل الكلام من الوعي وهو المستوى الذي يصفه روبرت همفري بأنه:« لا يخضع للمراقبة والسيطرة التنظيم المنطقي» واستقل بذلك مثلاً الفصل السادس من الرواية. بالإضافة إلى صيغة العرض للأخبار والإشاعات التي رافقت الحملة الانتخابية فيما يشبه توليف القصاصات وجمعها تحت عنوان« الحملة الانتخابية» في الفصل الخامس. هذه الاشكال المتعددة لصيغة الرواية «دونسكو» تحمل بشكلها وبمضمونها وبالرؤية التي تصحبها دلالة ذات خصوصية مائزة في تأدية الحدث والكشف عن أعماقه وإعادة إنتاجه على المستوى الرمزي، ويمكن ان نقف على ابرز جوانب تلك الدلالة فيما يلي:
1 تركيب دلالة ذات شكل درامي وبانورامي يحمل إيحاء الإجراءات القضائية وشفافيتها. حيث تتجه الدول إلى تحقيق معنى «العدالة» سواءً في التقنين لإجراءات الترشيح لمنصب المدير«على نحو مادار في الحوار بين أعضاء المجلس»، أو في الكشف عن فساد الإدارة الحالية بدخول المحسوبية والعلاقات الشخصية في إدارة برامجها وتعيين موظفيها وصرف ميزانيتها« على نحو ما دار في الحوار بين رئيس المجلس وسونيا والمدير التنفيذي» او في الملفوظ الذي يحدد العلاقة بين الإدارة من جهة والعالم من جهة ثانية وبين مجلس الحكماء. حيث يرد قول رئيس المجلس:« انا رئيس مجلس الحكماء. ومجلس الحكماء ضمير العالم» وقوله:«مستقبل الإدارة امانة ثمينة في يد مجلس الحكماء، امانة لن يفرط المجلس فيها».
2 هتك السر، ونقض ما تمتلك به السلطة« او تعد لامتلاكه» من الاستثناء والثبات في الموقع. فالسر، هنا، بوصفه قدرة خاصة على امتلاك مفتاح المعنى وصياغة شكل الحقيقة، يتعرض لاقتحام جارف من المعرفة الشاملة التي يغدو الراوي زاوية تسجيلها او الاطلاع عليها وراء الابواب المغلقة والشفاه الصامتة، في كل مكان وفي كل زمان. على ان السر هنا بكيفيات متعددة لا ينحصر في مكان لا يتعداه، لان له اكثر من جهة ويدخره اكثر من موقع وشخصية وحدث ودور.. هل نقول: ان في كل رواية قدراً من البوليسية؟ وإن كل راو هو محقق من طراز خاص؟. للمدير سره الذي يتشاركه مع كبيرة مستشاريه «سوينا»، ولكن للمدير بعد ذلك سراً من نوع يخصه دون غيره، تماماً كما هي سونيا، وكما هو رئيس مجلس الحكماء، وكما هم الحكماء، وكما هم المرشحون.. ولذلك تنتهي الرواية بلغز واضح ومبهم وسطحي وعميق وأحادي ومتعددة الجهات وملتبسها في وقت معاً، وأعني به خلوص نتيجة الانتخاب إلى «سونيا» حيث تعيد دائرة السلطة إنتاج ذاتها في تبادل بين المركز ولوازمه، والسلطان وبطانته، ليستدير المعنى، وتستحيل شحنته إلى السلب المساوي لدرجة الصفر. هكذا تتحاور العدالة والخيانة، والإيثار والأثرة، والحكمة والحماقة، والدور والشخصية، والرغبة والواجب... ليس، فقط، من خلال تعدد الشخصيات، بل ، أيضاً ، من خلال تعدد مواقف الشخصية الواحدة « قارن مثلاً موقف المدير بين الفصلين: الأول والسادس، ورئيس مجلس الحكماء بين بداية الفصل الثاني ونهايته... الخ». وذلك للشفافية عن سخرية مريرة، تغدو كل شخصية دليلاً عليها فيما تمثله، من موقف ومدلول، بإزاء غيرها وبإزاء الموقف القانوني والأخلاقي لدورها من جهة، وفيما تحتضنه من معان متضادة من جهة ثانية.. ما ينتج فنياً ما يعادل واقعاً إنسانياً يلهث في ظمأ الضرورة وقيد الغريزة، ولكنه بخبث لا يكف عن الحلم بحكمة وعدالة لا يلوثهما التراب.
zayyad62@hotmait.com

أعلـىالصفحةرجوع

















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved