| محليــات
قال خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكرَّم وجهه: «لولا تكرار الكلام لنفد»... وهي مقولة لها من الأبعاد ما لها، بعضها لغويّ، وآخر اجتماعي، يجعلها موضوعاً لدراسات في فقه اللُّغة، والاجتماع وغيرها من العلوم ذات العلاقة...
إنَّها زاخرة بفوائد صريحة واضحة قريبة من الفهم والتناول، وبعيدة تتضمنها دلالات يلتقطها الفاحص المدقِّق...، فهي لاتشخّص لنا سرَّ عدم نفاد الكلام فحسب، بل إن سياقاتها الناطقة/ الصامتة مليئة بما هو مفيد أيضاً، يمكن من هذا المنطلق القول على سبيل المثال إنَّ في استخدامها لمفهوم (التكرار) إشارة ضمنية إلى ما يعرف في فقه اللُّغة وكذلك الاجتماع بالتفاعلية الرمزية: (Interactionism Symbolic)، وهي نظرية من مجموعة ما في علوم الاجتماع من نظريات تبحث في كنه تكوُّن الحياة الاجتماعية بكافَّة مظاهرها وظواهرها من خلال التَّفاعل الاجتماعي لأفراد المجتمع،...
ولأنَّ أظهر وأقوى الوسائل لهذا التفاعل هي اللُّغة، فإنَّ تكرار الكلام عملية اجتماعية لا تحدث عند فرد واحد فقط، ذلك لأنَّها من خصائص، بل سمات المجموع المتفاعلِ والمتعارِف، في فئات، وجماعات، بل في شعوب، وقبائل، ممَّن هم على (المتفق فيما بينهم) من الحياة اجتماعياً.
من هنا تأتي أهمية هذه المقولة في بعدها الإنساني/ الاجتماعي، وإلاَّ فإنَّ أيَّ باحث لغوي يتصدَّى لأبعادها الأخرى فإنَّه يمكنه أن يسبر مالها من أبعاد لغوية (سيكلوجية) نفسية، ولغوية/ سياسية، وسواها من الأبعاد الدلالية ذات التَّوجهات الإنسانية الأخرى في حياة الإنسان صاحب اللُّغة، المتعامِل مع اللُّغة وسيلة للحياة...
ولعلَّ من يتساءل في هذا الاتجاه من السَّبر الدلالي لها عن الحيثيات النَّفسية لتكرار الكلام، وعمّا تكون عليه السِّمات الثقافية للمجتمع المعهود عنه (تكرارالكلام).. سيجد لها من الدلالات مايكشف عن بلاغتها.. بل يقود ذلك للإفادة عن حقيقة ضمنية مفادها أنَّ التأريخ هو مجرد عملية إعادة إنتاج، أي تدوير للكلام، ويتَّضح ذلك من متابعة عملية تكرار (الصواب والخطأ) في تجربة الإنسان القولية والفعلية من ثمَّ بما تؤكده مقولة (التأريخ يعيد نفسه) إن عُرف أنَّ التأريخ ما هو إلا أفعال البشر، فهل هناك أفعال دون أقوال؟... وهل القول/ المفرد، والأقوال/ الجمع، إلاَّ اللُّغة؟!...، يقودني هذا السؤال إلى مقال كنت قد نشرته في هذه الزاوية حول اللُّغة (الكلام) في حياة الإنسان من حيث إنَّه بدأ رحلة الحياة بدءاً بالقول ومن ثمَّ الفعل، منذ أن أُمر بالقراءة (اقرأ) فقرأ، (صلِّ) فصلَّى، (صُمْ) فصام، (حج) فحجَّ، ومن قبل ومن بعد (آمنْ) فآمن، وتحوّل إيمانه عقيدةً تؤكدها أفعاله؟
ومثل هذا التفسير يقود إلى إثبات أنَّ الأقوال هي منطلقات الأفعال وهي تمثُّل قبلاً طرائق التفكير التي هي اللُّغة،... أوَليس قول الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم (من تعلَّم لغة قوم أمن مكرهم) دليلاً في وجه من وجوهها على أنَّ لغة التفكير، هي لغة الإفهام، هي لغة الفعل حين يتحصّن الإنسان دليلاً عمَّا يعلمه، وأنَّه يعلمه عندما يعرفه، ويعرفه عندما يُتقن لغته، فيدركه ويعيه، ويفكّر فيه؟!
فالتَّفكير لغة، وهي تتكرَّر في صور عدة وبطرائق مختلفة تنتهي في مطافها عند نتيجة، ماكان لها أن تثبت وتتحقَّق لولا التكرار كما قال البليغ علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه....
وخلاصة القول: إنَّ (لغة) الفهم والإفهام هي الكلام...
وإنَّ كلام العرب هي العربية...، هو اللُّغة...
وإنَّ تكرارها على الألسنة يستوجب فهمها في أشكالها، وخصائصها، وسماتها، ولكي نضمن ثراءها واستمرارية شحذها فلابد من التأكيد عليها في كلِّ (موقف) تعليمي ضمن (منهج) يراعي عند تكرارها عنه طرائق لاتخلط غثها بسمينها، كما لابد أن يتحقَّق تكرار الصّواب (الصّالح)، وليس الخطأ (الطالح)...، ومن ضمن ما لابد أن يتحقق لها هو وجوب (سدّ الفجوات) بين رسمية واقع ما يتلقّاه الدارسون من المثالي اللُّغوي في قوالب اللُّغة (المُتَعَلَّمة) في المؤسسات التعليمية، وبين (عامية) أو دارج الحياة اليومية في البيت، وفي الشارع، وفي المتجر، وفي كلّ مكان خارج أسوار هذه المؤسسات. كما أنَّ طرائق إيصال (الرسالة اللُّغوية) التي تسمَّى في هذه المؤسسات (طرائق التدريس) تحتاج إلى (فحص) ما فيها من التكرار الذي يعين على نفاد اللُّغة (الكلام) دون البقاء الأجدى منها...، فالممارسة، الممارسة هي محك الرّحى في هذا الشأن... فأين الإتقان فيها ؟! وكيف يتحقَّق ذلك...؟
وقد ملَّ القلم تكرار ما لاينفد من تكرار هذه الآمال، والأحلام...
ولم تنفد هذه الأحلام، والآمال، لأنَّ (الكلام) في هذا الشأن لايزال يتكرّر، ويتكرّر... والمتوقَّع أن يشحذ الجميع الهمم في صالح توظيف هذه الخصائص للكلام فيما يفيد العربية، بوصفها اللُّغة التي يدور حولها الكلام.
|
|
|
|
|