|
| مقـالات
البيئات العلمية لم تنتظم العالم، فهي موزعة في مدنه وأقاليمه بقدر حظوظها، فإذا كانت الأنهار والرياض تستوطن صقعا دون آخر فكذلك البيئات العلمية. لقد حظيت بلاد الإغريق ببيئة علمية متقدمة منذ القرن الخامس قبل الميلاد، فقد ازدهرت فيها الثقافة من أدب وفلسفة وطب، وتقدم فيها العمران حتى إن (الأكروبول) الذي يطل على مدينة أثينا في زمننا هذا والذي يحظى بقدوم آلاف الزوار له من جميع أنحاء أوروبا وأمريكا واستراليا وبقية دول العالم إنما هو من بقية آثار الحضارة الإغريقية في أيام ازدهارها، وتلك الأبنية لا تزال قائمة تشهد بما كان للإغريق من مجد في الحضارة والبناء، وشهد (البارثنون) محاضرات أفلاطون وأرسطو وأريستو فان في القرن الرابع قبل الميلاد، وكان سقراط فيلسوف القرن الخامس قبل الميلاد قد مهد لهم الطريق، أما المنشدون وهم الذين يحفظون أشعار هوميروس وخصوصاً الإلياذة والأوديسا فلهم مهاراتهم الخاصة في الإنشاد، وهي لا تقتصر على (البارثنون) وإنما ينشد أولئك تلك الأشعار في الأسواق والتجمعات، فمدينة أثينا بيئة علمية متنوعة النشاطات، فمدرجات المسرح هي الأخرى أثر لتلك الحضارة، وقد يستغلق علينا استنتاج القوة العسكرية التي وجدت على يد الأسكندر المقدوني أهي من إفراز تلك الحضارة أم لا؟! فالأسكندر المقدوني تتلمذ على يد أرسطو، وهو الذي كون إمبراطورية شملت جزءاً لا يستهان به من العالم القديم، فقد خرج من بلاد الإغريق إلى بلاد الشام ففتحها، ثم انتزع مصر من الوالي الفارسي، وأسس مدينة الإسكندرية التي حملت اسمه في سنة (332 ق.م) ولم يمض نصف قرن على إنشاء المدينة إلا وهي مدينة مزدهرة تضم أكبر مكتبة في العالم، وتعد البيئة العلمية الثانية بعد أثينا، ومن البيئات العلمية المزدهرة في القرن الثاني قبل الميلاد بيئة برجامس في غربي آسيا الصغرى، فبها ثاني مكتبة بعد مكتبة الإسكندرية، وبيئة قبرص، فتلك الجزيرة بها حياة علمية مزدهرة ومكتبة عامرة في آخر القرن الثاني قبل الميلاد. وفي القرن الأول قبل الميلاد ازدهرت بيئة روما بالعلم والعلماء، وقلد شعراؤهم شعراء الإغريق، حتى إن (فرجيل) الشاعر الروماني عرفت قصيدته (الإنيادة) كما عرفت إلياذة هوميروس، وازدهار البيئة العلمية في عاصمة الروم الشرقيين (القسطنطينية ) معاصر لازدهار البيئة العلمية في عاصمة الروم الغربيين (روما).
وفي الحيرة ازدهرت الحياة العلمية في العصر الجاهلي فكان ملوك المناذرة يستمعون إلى الأشعار فإذا أعجبتهم قصيدة أمروا بطيِّها على عصا بعد كتابتها في رق ثم تعلق في مكتبة خاصة بالقصر، وقد آلت تلك المكتبة إلى بني أمية في العصر الأموي، ومن البيئات العلمية مكة، فقد اختارها الله مكاناً لبيته، فكانت مقصداً دينياً وأدبياً منذ زمن إبراهيم عليه السلام، فمنذ ذلك الزمن إلى عصرنا هذا وهي بيئة علمية مؤثرة، والمدينة المنورة هي بيئة العلم الشرعي، فمنها شع نور الإسلام إلى أنحاء المعمورة بعد أن قامت للمسلمين دولة، وأصبحت أمورهم بأيديهم، وقد ازدهرت البيئة العلمية في العراق، فمدينة الكوفة مدينة العلم والعلماء من أمثال الكسائي وابن الأعرابي وثعلب والفرَّا وحماد الراوية وغيرهم، وبيئة البصرة بيئة مزدهرة أيضاً بالعلم والعلماء وتنافس الكوفة، ومن علمائها وأدبائها أبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة والأصمعي وأبو زيد الأنصاري ويونس بن حبيب وغيرهم، وبغداد بيئة العلم الجامعة، وبيئة خراسان والمشرق الإسلامي بيئة علمية، وقد حوت مدناً عرفت بالعلم والعلماء مثل أصفهان وهراة وبلخ وبخارى وسمرقند، ومن علماء خراسان والمشرق البخاري والترمذي والغزالي والأزهري والجوهري والفارابي وعبدالقاهر الجرجاني والزمخشري، ومن البيئات العلمية الأندلس، فمدنها تزخر بالعلم والأدب والشعر، مثل قرطبة وإشبيلية وغرناطة وطليطلة وبلنسية وغيرها، وقد ورثت القاهرة البيئات العلمية في كثير من البلاد الإسلامية والعربية منذ قرون وإلى عصرنا هذا، ولا تزال المدينة بيئة علمية مزدهرة.
هذه لمحة موجزة عن البيئات العلمية في العالم القديم والعالم العربي والإسلامي.
|
|
|
|
|
