| مقـالات
ومما يحدو على التساؤل ذلك الزخم الإعلامي المفتعل حول ظاهرة أو شخصية أو كاتب لا ينطوي أي شيء منها على كثير، حتى إذا فزع عن المشهد، وجد المتابع نفسه في قيعة سرابية، ووجد هذه المفردات بسبب هذا الزخم قد تحولت عند البعض إلى قدسية لا يمسها إلا متهم بعقله أو بدينه أو مواطنته أو بعلمه. وهذا التقول مع ما يؤدي إليه من تشكيل رؤية خاطئة ومفاهيم معوجة، يحجب الرؤية العامة، ويمنع التعامل الحضاري مع أي حدث، ولا يمكّن المشاهد العربية من التعرف على مزيد من المذاهب والتيارات والمبادئ والكفاءات العلمية والفكرية والأدبية التي تموج بها أروقة الجامعات وتزخر بها المشاهد الثقافية في الداخل والخارج. ومما يزيد الاستياء تعمد النيل مما هو قائم من الظواهر أو من الكفاءات، أو التواطؤ على تهميشها، لصالح فرد يستقيم أمره دون الحاجة إلى المساس بالآخرين. وقد فعلها البعض لغرض الاثارة ولّما يلتفت إليه، وحسناً فعل المعنيون بالتهوين، ولربما يظن أولئك أنه لا يتم حضور من يودون حضوره، وحضور مصطلحه إلا بموت ناجز لظواهر راسيات كالجبال أو بتهميش جائر للمشتغلين من خلال ظواهر ليست على هوى أنفسهم. وظاهرة "النقد الثقافي" التي سيئت من أجلها وجوه كثيرة، لم تعد جديدة لا على المستوى الغربي، ولا على المستوى العربي، فضلاً عن أن تكون جديدة على المستوى المحلي. ولأن المصطلح طارئ، والمفهوم قائم، فقد حاول البعض الإيغال في الوهم والامعان في التوهيم. ظناً منه أن المتابعين يجهلون المتداول في المشاهد الأخرى. واستمر تبعاً لذلك التنازع حول القول عن المنهج والآلية والمجال، كما أفسح المجال أمام المتعاضدين ليقولوا على بعضهم وعما يجهلون ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ومتكأ أولئك غياب الحقيقة، ومثل هذا الغياب يحال على اشكالية المفهوم المراد، وليس على المفهوم المعهود، اضافة إلى اشكالية المشروعية. و"النقد الثقافي" يقع تحت طائلة تنازع المفهومين، والاشكاليتان: - المفهوم والمشروع مثار خلاف عريض، وهو ما سنتناوله في بحث مستقل، وبخاصة فيما يتعلق باشكالية المفهوم، إذ كل متعامل مع مصطلح جديد لا يحدد مفهومه بلد المنشأ، أو تكون مقاصده المحددة متحفظاً عليها في بلد الاستهلاك يتعرض لتعويم ذكي، يخلص من تبعات المقاصد الأصلية، وقد حصل هذا مع كثير من المصطلحات الغربية ذات البعد الأيديولوجي المناقض ك"الحداثة"، غير أن الاشكالية تمتد لتأخذ أبعاداً أخرى، تُحال على الجهل، وليس على المكر ولا على المواطأة. فبعض الذواقين ينقصهم التأصيل الشرعي، ولا يعرفون حدود الحرية ومقتضيات الولاء والبراء، وهم بهذا الاقتراب من الحمى أو الوقوع فيه، لا يقدرون على كف الغيبة عن أنفسهم، وهكذا تكون الطوارق على غير المتابعين للمستجدات وعلى غير المستوعبين لها ولمآلاتها الفلسفية، هذا الالتياث يطال كل الأصعدة، ويمس مختلف العلوم والفنون، ومن جهل شيئاً أنكره أو هوّله أو حرفه. ولما لم نكن نجهل "النقد الثقافي" بوصفه معهوداً ومفهوماً بكل اهتماماته وتنوعاته ومجالاته وتصوراته، فإننا لا ننكره، ولا يستفزنا شيء منه، ولا نجد حاجة لتخلية المواقع من أجله، سواء اتخذ الثقافة مادة حديث أو مجال نقد، وسواء اشتغل بالمهمل والمهمش أو بالمتن والمعتنى به، فذلك كله قائم في الحاضر والباد، و"الجاحظ" خيرمثال على الاشتغال بما هو دون "البلوت" والمتابعون لأطروحات الغرب بثقة وصمت، لا يثور انتباههم، ولا يفغرون أفواههم، ولا يحملقون عيونهم لمجرد أن زيداً من الناس وضع آلية مكان أخرى، أو أحل منهجاً ليس له به علم مكان آخر أو اشتغل بما لم يشتغل به غيره من دقائق الأشياء ومهملها، وليس من الحصافة أن يأتمر البعض بسوء، فيتعمدون اختصار الكل في واحد: شخصية أو قضية أو فترة زمنية. لقد فرضت علينا عبر تاريخنا المعاصر أيديولوجيات ومذاهب، وطغت شخصيات تجاوزت حد التصنيم، وقامت في سبيلها العداوات، وانقسمت المشاهد على نفسها، وألهيت النخب عما هو أهدى وأجدى، ثم سحبت المذاهب وخونت الشخصيات، وأحل مكانها بدائل ليست بأحسن حال منها.
والغرب الذي يعول عليه البعض ليست له مرجعية، وليست له مسلمات، وهو مأخوذ بالمادية المستغنية عن مبدأ العلة والعقلية المتعالية على النص، ولهذا فهو على مبدأ التطور الدارويني، بحيث يراه قانون الأشياء والأحياء، وهو مع مطلق التجريب والتجريد، وهو مع المغامرة الأخلاقية والتساؤل والعبث والفوضى واليأس، وجميل لو قرئ مقال "رينيه ويليك" "خريطة النقد المعاصر في أوروبا" ومقاله "الاتجاهات الرئيسة في نقد القرن العشرين" رغم صغرها.
وكلما اشرأبت أعناقنا لطارق جديد مما يفرزه الغرب، مارسنا معه من الصدام والتنازع أو الارتماء في الأحصان ما كنا قد فعلناه مع ما سلف، وهكذا أضعنا الجهد والوقت والمال والسمعة، ولم نستقر على حال، ولم نؤسس لرؤية حضارية تذيب الأشياء ولا تذوب فيها، وتستتبعها ولا تتبعها، وتخضعها ولا تخضع لها.
وهذه الظواهر السيئة ليست وقفا على الأدباء ولا على المفكرين، وإنما هي نوابت سوء في كل الحقول المعرفية الانسانية، نراها عند بعض علماء النفس والتربية واللغة والتاريخ والاجتماع. والناقمون على تراثهم المحتفون بالطوارئ لا يلوون على شيء من التراث ولا يتقنون شيئاً من المعاصرة، فالعالم الرزين لا تستفزه البوارق بحيث يستخف بمن حوله من اللدات ويزهد فيما بين يديه من المماثلات.
وما بأيدينا من بوادر النقد الثقافي تنظيراً أو تطبيقاً على "لعبة البلوت" أو "الاستراحات" بوصفها من المهمل والمهمش، لا يكون فيه شيء غريب، لا في القول، ولا في الفعل، ولا حتى في المآلات، وأنصاف المتعلمين من خطباء الجمع يتناولون أشياء مماثلة، ثم لا يكون شيء مما يقولون مشروعاً ولا تجديداً، وحين لا يكون جديداً فلماذا كل هذه الضجة؟. يقال هذا على افتراض المضمر المعرفي والدلالي والمعهود الذهني لمفردات المصطلح.
على أن "النقد الثقافي" في النهاية حلقة من تلك السلسلة الصدئة، اندلقت أقتابه في مشهدنا على حين غفلة وتصوح معرفي عند الأكثرين، وانشغال مجهد في بقايا مذاهب مماثلة قيل في استقبالها ما قيل في استقبال "النقد الثقافي" ولأنه لم يأت بعد من ينقل المعلومة الدقيقة والأمينة والموضوعية عن هذه الظاهرة ومقاصدها الجديدة في الغرب أو في الشرق، فإننا سنظل معها في مفهومها التراثي، أما حين لا تكون تراثية، فإننا سنكون معها في أمر مريج، كما الطارق المجهول الذي أزعج سكون القوم، ولما خفوا إليه لم يجدوه، فانتابهم طائف من التساؤلات، فرق جمعهم. وأي قادم على مطايا التقنية محفوف بتظاهرة التبعيين يسد الأفق كما القتام. بحيث يحجب الرؤية.
وتعاقب الظواهر يحملنا على الاحالة إلى المجانس في تراثنا، نتصورها وفق معهوداتنا الذهنية، حتى يأتي من نثق بعلمه وأمانته ليقطع قول كل خطيب. ف"النقد الثقافي" إما أن يكون اشتغالاً في الثقافة أو نقداً لها، وحين لا يكون إلا كذلك، لا يكون هناك مجال للادعاء ولا للجنائزيات. أما حين يكون الأمر غير هذا، فإننا بانتظار من يحدد المفاهيم، ويقدم النماذج والمناهج التي تحرر المسائل وفق نظرية معرفية معتبرة، تحملنا على القبول بإزهاق الأرواح. على أن الربط بالثقافة أو الاحالة إليها مصير إلى ما لا ينضبط، فالثقافة باتساعها تكسر الحد، وتظل الاحتمالات والتوقعات قائمة.
و"النقد الثقافي" حين يتخذه مبتدر أو مقلد، آلية أو مادة، لا يستحق كل هذه الاحتفالية، إذ هو خيار وسط زحمة من خيارات كثيرة، فحين يكون بديلاً كما يحلو لجالبيه أو رديفاً كما يجب أن يكون، يتشايل مع "النقد الأدبي" الذي يشتغل في "مكونات النص: - ذاتاً وثقافةً" أو في "ذات النص: بنيةً وشكلاً"، أو "فيما بعده: - تعاطفاً أو مثاقفةً"، متوسلاً بأطراف من فلسفة الجمال أو علم النفس أو الاجتماع أو اللغة، وقد تتنازعه اضافة إلى كل ما سبق أيديولوجيات متعددة، تتوارث، أو تتنازع، أو تتصالح. وما من أحد من المنظرين المبادرين حاز شيئاً من ذلك لنفسه، وخولها الاجهاز على الغير. ومن أراده بديلاً لكل هذا، فليستعد لتصريف الكم المتراكم عبر مئات السنين من مخرجات "النقد الأدبي"، ومصادرة عدد من مناهجه وآلياته عبر تحولاته في القديم والحديث، وتدريب النقاد ليستأنفوا حياة جديدة. ولن يدعي هذه القدرة إلا مدخول في فكره أو في تصوره. ومن قال بالموت فتلك أحلامه. وهذه المغامرة تذكرني بمقولة عبدالعزيز فهمي بعد طرحه لمشروع الحرف اللاتيني، يوم سئل عن امكانية تحويل التراث الإسلامي من الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني، قال بكل فجاجة: "ننقل ما نحن بحاجة إليه مما كتب بالحرف العربي"، ونسي أو تناسى لريبة في قلبه ملايين المطبوعات والمخطوطات، وفوق كل ذلك نسي الذكر الحكيم والرسم العثماني واشكاليته مع الرسم الإملائي.
والمشهد المتصوح يجتاحه نزف مسرف للأحبار إزاء أي عارض لا يمكن تصوره، والذين يفاجؤون ب"التقليعات" وهم خاليون من المعرفة ومن المهمات، تطول معهم فترة الاندهاش، ويرتبكون في تحديد مفاهيم تلك الطوارق ومقاصدها. ولو أن ما يقال عن وافد الآخر دولة شفهية داخل قاعة مؤصدة، بحيث لا يقرؤه المتمرسون والعارفون في الوطن العربي لكان الخطب يسيراً، لكن ما يكتبه أولئك عما طرأ أو عمن احتفى به أو عمن صدّ، يطرق المشاهد العربية، ليكشف عن هشاشة فكرنا وتهويلنا لما هو دون المألوف، مما تجاوزه الآخرون، كما أنه يعري بعدنا عن المتناول والمتداول في المشاهد العربية. والذي يخرج من بيته مشاركاً في المؤتمرات والمهرجانات في الداخل والخارج، ويلتقي بالعمالقة المبتدئين، ويأخذ معهم بأطراف الأحاديث ينتابه الخجل حين يرى ما هو مبهر عندنا عادياً أو دون العادي عند الآخرين، والذين يواطئون مثل هذه المجازفات من أدباء المشاهد العربية ومفكريها إما: مجاملون أو قابضون أو مقايضون. إذ هم قد أخذوا بأطراف من تلك الطوارئ، ولكن أحداً منهم لم يعلن موت النقد الأدبي ولا موت النحو العربي، ولم يستخف بلداته، ولم يتخذ كتبة يتفانون في تلميع صدئه وتوصيل أصدائه. ولسنا فيما نقول ضد من يسخن ما غبَّ من طبيخ الفرنسيين أو المصريين، وإنما نرثي لحالة من يعيشون حالة من الاندهاش، ملقين بما في الأيدي بانتظار ما لا يأتي سوياً على صراط مستقيم. والاستعانة بمنهج أو بآلة أو بفكر استفاض شيء منها في مشاهد الغرب أو الشرق لا يحملنا على التخلص مما توارثناه أباً عن جد بدعوى الموت، ولا على التقليل من شأن النقاد الذين عرفوا تلك المذاهب، ولم يحفلوا بها. ومعاذ الله أن نكون مقموعين في أطر "الوِجادة" بحيث لا نستشرف الآتي. وفي سبيل قطع الطريق على المفترين أؤكد بأن المكبلين بعقد الأبوية كالنابذين للتراث سواء بسواء. والمثقف السوي لا يرضى لنفسه أن يكون من دعاة التقوقع ولا من محبذي الانحباس الحضاري. ومن الحيل التي سمجت عند البعض التعويل على التخلص من مجادليه بالإحالة الجماعية على الماضوية الجمودية، متصوراً أنه بهذه الإحالة قد فرغ من خصومه، وما أكثر الذين يجازفون بالتصنيف، ثم لا يتجاوزون تلك الغنيمة الباردة، وحين لا أكون متقوقعاً، فإنني لست من المشرعنين لأي فوات، ولا من المبررين لأي تقصير، حتى ولو كان من عند الأقربين، ولكن المحظور ألا نقدِّر الأمور قدرها، نقترف إلغاء الأشياء الثبوتية والأناسي الفاعلين، لتكون شيئاً واحداً لم يتقرر وإنساناً واحداً لم يستقر.
وهذه الدعاوى العريضة ألفناها، وتأذينا منها، لتعويقها تحقيق الندية ولاعطائها صورة غير سوية لمشهد عربي غير ذي عوج، تصدَّر المشاهد، وأمدها بالعلوم والمعارف، وهل أحد من مفكري العالم العربي والإسلامي لا يهفو فؤاده إلى تلك المسارح يوم كانت عربية خالصة وإسلامية نقية، تستقبل فيوض الحضارات كما البحر في استقبال السواقي.
لقد جاءت "الحداثة" بوصفها أيديولوجية انقطاعية تصفوية متقنعة بالمعاصرة والتجديد، وما هي منهما في شيء، فالغي كل شيء في سبيلها، وحمّل المصطلح ما لا يحتمل. وجاءت "البنيوية" بوصفها آلية تختصر الكل في اللغة، فاستخف ذووها بكل منهج من أجلها. وجاء "النقد الثقافي" متفلتاً من: أدبية النص، وآلية اللغة، ومحدودية المجال. فحكم على ما سواه بالموت. وجاءت "التحويلية" مؤكدة على الغريزة نافية للمفاضلة فأميت النحو. ولسنا متقولين على أحد، فتلك وثائقهم تشهد عليهم، كما البعرة تدل على البعير، ولم نر في المشاهد العربية من يحكم بموت شيء من تراثه مع أن فيهم من يملك طرح المشاريع والتواصل الندي مع الآخر. ولو كان المتلقون لهذه الطوارئ على شيء من تراثهم العميق الشامل، أو على إلمام متمكن بالطرح الفكري العالمي أو العربي الجديد، أوكانوا على شيء من فقه الأولويات، وبخاصة عند تعدد الخيارات وتتابع المستجدات، لكانوا كقواصد البحر يستقلون السواقيا، ومن ثم يمرون بها مرور الواثق الممتلئ، تاركين الطريق أمامها لتصب في بحر الثقافة العربية اللجّي، قائلين لمثلها ما قاله الرشيد لسحابة مرت ولم تمطر :- "أمطري أنَّى شئت فإن خراجك عائد إلي". ومع هذا يجب أن نفرق بين العزة التي أقرها الله لنفسه ولرسوله وللمؤمنين وجنون العظمة التي يقع فيها العائل المستكبر.. ومن باب الاحتراز نقول: إنه ليس من مصلحة الحضارة الإسلامية أن توصد الأبواب، ولا أن تغلق النوافذ، وفي الوقت نفسه ليس من مصلحتها أن تسمح للرياح باجتثاث أشجارها. والذين صنموا لحظة الانعطاف من علم الأدب إلى مشمولات الثقافة أو اثارهم الانحباس داخل شرنقة البنائية، أو ادهشهم التنفس في فضاء التكوينية بشقيها:
- الأدبي.
- والبنيوي.
هم الذين يجلهون التحولات اللغوية والنقدية والفنية، ولما يتمكنوا من تصور التعايش في العملية النقدية بين التراث والمعاصرة والمراوحة بين التاريخية والفنية واللغوية والفكرية والثقافية، والقارئ لتاريخ النقد منذ الجاهلية حتى اليوم يقف على التحولات الانسيابية وتداول العملية النقدية بين المذاهب والآليات والأفكار، ولا يحس بموت ناجز، ولاحياة غريبة، والتعجب مما ليس بمعجب مؤشر تخلف وبدائية، والأذكياء هم الذين يتحولون من الصدمة المركبة إلى المواجهة المتوازنة ومن الدونية إلى الندية، ومن الخنوع إلى الحوار. والذين استمعوا إلى قول المبشرين بالفتح المبين، أو قرؤوا ما يعدون به ويمنون لم يضعوا أيديهم على حقائق تتكافأ مع هذه الضجة الكبرى، ولم يكن فيما وقفوا عليه متكافئاً مع جناية الحكم بالموت للسالف، وقضايا الفكر والأدب والسياسة لا تعالج بهذه الاندفاعات العاطفية، فالحكم بالبدلية لا يكون إلا بعد استقرار البديل وشيوعه وقبول الكافة به، ونهوضه بكل متطلبات المرحلة، والتمكن من مناهجه وآلياته، أما تداول الموت عند كل طارئ فلوثة طائشة لا يقول بها إلا مبهور أو مستبطئ للانسلاخ الاستغرابي، أو جاهل لمقاصد الموت عند متداوليه الغربيين. إن لكل ظاهرة أو مصطلح غربي فلسفة والتقاطهما دون وعي دقيق لفلسفتهما يحولهما إلى عدو وحزن، ولن نعرض لفلسفات المصطلحات المتداولة في مشرقنا المنتهك، وإنما نحيل إلى السمة المادية التي تنفي مبدأ العلة، وهذا بحده كاف لأخذ الحذر الذي ندب إليه الإسلام.
وبتجاوز الايغال في قراءة المضمر الفلسفي، نجد أن التدافع المنفعل للإشادة بممارسة نقدية تجاوزها الزمن عند غيرنا، يعني أننا في مؤخرة الركب، وأننا نعيش فراغات معرفية، ويقيني أن التسامي فوق أجواء الجعجعة الفارغة أفضل من المسايرة، ولا سيما أن هذه الجعجعة إزاء طارئ لم يكن بمفاهيمه وضوابطه ومقاصده الجديدة من عند أنفسنا، ولم نفاجئ العالم العربي به، ولم نقدم من خلال آلياته ومقاصده قولاً معرفياً يحمل على التقدير، وكيف يكون التعويل على الشرعنة والفحولة والإحالة على الحكاية الخرافية منطلقاً معرفياً، مع أنه لم يكن بمفهومه القديم غريباً على الثقافة العربية، فالاشتغال بمفردات الثقافة على أوسع تعريفاتها، وعلى أي شكل يعدُّ نقداً، بوصف النقد وسيطاً أو حكيماً أو تنظيراً أو رديفاً، واتساع مشمولات الثقافة وتعدد أساليب النقد وآلياته، يجعل الكتّاب والدارسين والنقاد يلمون بالنقد الثقافي، وهم في سبيل النقد الأدبي، من حيث لا يشعرون، ومن حيث لا يقدرون.
غير أن الذي أتوقعه من هذه الاحتفالية أن الذين خرجوا فينا لن يزيدونا بما نريد وبما نفتقر إليه، إذ أن الثقافة في اطار هذا المشروع ليست كماً معرفياً يحملون من أجله هم التصفية والتنمية والتربية، وإنما هي سلطة قائمة مهيمنة تشكل سلوك الأمة ووعيها ونظرية المعرفة عندها، ونحن إذ لا نزكي أنفسها لا نبيح للآخذين بالمستجد الغربي افتراض وثائق الإدانة وتحميل التراث جريرة الضعف والانحراف. ولو أن الذين ملوا من "الحداثة" و"البنيوية" و"لغة الفحولة" و"النحو والصرف" و"النقد الثقافي" دخلوا في "النقد الثقافي" أو "التوليدية" دون تسلط على مفردات حضارتهم، ودون تطاول على من غردوا خارج السرب، ودون نية مبيتة لضرب مصدر مهم من مصادر التراث وهو "الشعر" و"النحو والصرف"، كما كان في الأمر من بأس. إلا إذا كان "النقد الثقافي" بطرحه الجديد، يرمي إلى مقاصد أخرى، اكتسبها من انعطافه المضموني، لتكون حاجة ذويه متجهة صوب تصفية ما سلف والدخول في الاستغراب كافة.
|
|
|
|
|