| مقـالات
ألفاظ ومفاهيم تنطلق بين فترة وأخرى بعد أن اختمرت في أذهان مطلقيها وبعد أن أعدوا العدة لتسويقها وترويجها وجني ثمارها. بدأت بالحداثة مروراً بالنظام العالمي الجديد واتفاقية القات أو نظام التجارة العالمية وانتهاء بالعولمة. والحقيقة أنه عند إمعان النظر والتفكير بتأن فإنه يمكن القول إنه لا جدة ولا جديد البتة في هذه الألفاظ من ناحية مفاهيمها إلا عندما تدخل في جانب من الجوانب المعرفية ويتفرد به كما حصل في موضوع الحداثة الذي لوي عنقه على الأدب والتراث وتداخل مع النواحي العقدية وتبودلت الاتهامات بشأنه بين أطراف عديدة. وزاد من تأزم المواقف وخاصة في عالمنا العربي الاختلاف في فهم قراءة النصوص أو تأويلها وظهر لدينا تصنيف يتعلق بكتاب النصوص التي يشار إليها بالحداثة بينما أطلق على كتابها «الحداثيون».
دعونا من الحداثة التي ليست هي موضوعنا ولن أخوض فيها لعدم تعمقي فيها ولكنني وجدتها على قارعة طريق كتابتي عن موضوع العولمة فآثرت ألا أتجاهل الإشارة إليها لأنها من المفاهيم التي لاكتها الألسن والأقلام وإن تكن انتهت في اعتقادي كظاهرة ثقافية.
لم يكن من السهل علي أن أتجاوز لفظ النظام العالمي الجديد (New World Order) لأنه ارتبط ظهوره أو لنقل بالأصح شيوعه بكارثة على الوطن العربي شعوباً وبيئة وبالذات على دول مجلس التعاون الأخير.
ارتبط هذا الشيوع لهذا المصطلح بغزو النظام العراقي الأحمق للكويت، وعندما نقول كارثة فهو أمر حقيقي على المستوى التنموي لدول الخليج العربي بشكل خاص ومباشر حيث تراجعت التنمية بشكل كبير بسبب الصرف المالي الكبير على دحر العدوان العراقي. كما أن بيئة الخليج العربي وحياته البحرية لم تسلم من سموم النظام العراقي حيث انتشار البقع البترولية نتيجة لصبه البترول في مياه الخليج عامداً متعمداً.
وستظل تعاني البيئة البحرية وبخاصة الشعب المرجانية بشكل خاص وأنواع الحياة البحرية الأخرى بشكل عام ردحاً من الزمن من هذا التلوث، ولم تكن البيئة البرية بأسعد حظاً، فإحراق النظام العراقي لآبار البترول في الكويت جعل الناس يتنفسون اكسجيناً ملوثاً بثاني أكسيد الكربون لفترة طويلة وهذا يعني انعكاسات على الناحية الصحية على المدى البعيد، ولا شك أن الدول العربية الأخرى عانت كثيراً بسبب تناقص العمالة الوافدة التي تسبب في نقصها تباطؤ عجلة التنمية بعد العدوان العراقي كما أن القروض والمساعدات تناقصت لتلك الدول للسبب نفسه. على كل حال لقد رد الله كيد الأعداء في نحورهم، ومهما تكن الخسائر فالوطن غال ويستحق الذود عن كل قطرة دم أريقت دونه وكل غال ونفيس، ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر، وهل هناك أغلى وأثمن وأجمل وأحسن من الوطن؟
أما مفهوم العالم الجديد فإن شيوعه في تلك الفترة لايعني أن هذا المصطلح لم يظهر إلا في ذلك الوقت. يبدو لي والله أعلم أن هذا المصطلح ظهر في وقت أقدم من ذلك كما يبدو لي أيضاً أنه يرتبط دائما بالكوارث وخاصة الحروب وربما كان ذلك بعد الحرب العالمية الأولى وكذلك الثانية على اعتبار أنه سيكون هناك حقبة متغيرة وعالم جديد يعج بمتغيرات جديدة تشمل النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
على كل حال الرئيس السابق جورج بوش الأب أطلق هذا المفهوم في بداية التسعينات بعد التحالف لردع العدوان العراقي على الكويت. تناوله المؤولون والمفسرون في داخل الولايات المتحدة ونظر إليه بقية العالم خارج الولايات المتحدة بكثير من الريبة والحذر، ولكن هذا العالم لم يقف مكتوف الأيدي أمام هذا المصطلح وبالذات باستخدام أيديهم كما هو العبد لله الذي كتب هذه المقالة بإشارة محدودة إلى هذا المصطلح هنا. إن الرئيس الحالي للولايات المتحدة الأمريكية جورج بوش الابن قد يطلق هذا المصطلح بعد التحالف ضد الإرهاب وقد يكون له مصطلح خاص ولو أطلق نفس المصطلح فلا ضير عليه لأن المثل يقول (من شابه أباه فما ظلم). كما يظهر أن الرئيسين الابن والأب ارتبط اسماهما بالكوارث والحروب وربما هذا قدرهما الذي ربما كانا لا يستطيعان أن يفعلا أمامه شيئاً.
لن أتحدث عن نظام التجارة العالمية ومنظمة التجارة العالمية، لأن مركز التجارة العالمية انمحى ومات ولذلك سأنطلق إلى مفهوم العولمة (Globalization) لنخوض فيه قليلا كما خاض غيرنا من قبل. أصبحت هذه الكلمة منذ انطلاقها ربما مع نهاية الثمانينات واشتد توهجها خلال التسعينات الميلادية من القرن العشرين وأصبحت ضمن المدارات الساخنة في كل أنحاء العالم، أصبحت الشغل الشاغل للاقتصاديين والساسة والاجتماعيين والمفكرين والمثقفين. كل يتناولها ويفسرها ويستشرف انعكاساتها على المجال الذي ينظر إليها منه. ظهرت الندوات والمؤتمرات والمحاضرات العديدة في كل أنحاء العالم تتحدث عن العولمة بعناوين مختلفة كالعولمة والإنترنت والعولمة والاقتصاد والعولمة والثقافة والعولمة والتقنية وغيرها كثير. لا يخرج كثير من المسؤولين في تصريح علني في أي بلد من العالم إلا وشفاهه ترفف استعداداً لنطق لسانه بلفظة العولمة. أقول لكم أيها القراء الكرام مع احترامي الشديد لذوقكم اللغوي ومن دون زعل بأنها أصبحت كلمة مبتذلة وممجوجة. يروى أن أحد المذيعين في إحدى القنوات الفضائية العربية سأل فنانا ذا مكانة رفيعة ومتميزة في فنه عن ماذا تعني العولمة في رأيه. وبعد تمغط ومد للرجلين ومز للشفتين وشحذ للتفكير أجاب بالقول: العولمة هي مشتقة من العالمة وربما من المعلمة. العالمة والمعلمة يعرفان أمور كثيرة ويتعاملان في أمور كثيرة من جوانب كثيرة في الحياة تجعل لهما علماً شاملاً، ويمكن للعالمة أن تقول ما يجب على المرء الذي يتعامل به معها مايجب أن يفعل وما لا يجب أن يفعل، وتدعي أنها تستخدم أسلحة أقصد طرقاً ليس بإمكان أحد استخدامها لمعالجة القضايا المتعلقة بالناس وحياتهم، وعلى هذا فالعالمة تمارس الحق والباطل وتخلط بينهما في أمور كثيرة وتهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور لمن لا يوفيها حقها أو من ينعتها بالنصب والاحتيال وممارسة أمور غير شرعية كالسحر مثلا. بعد هذه الإجابة احمرَّ وجه المذيع وضحك ضحكة مجاملة وحاول أن يدخل الفنان إلى مفهوم العولمة بطريقة أخرى لعل الفنان يستدرك ويفهم ماذا يقصد المذيع، أو لعل الفنان فهم السؤال بطريقة خطأ وظنه عن العالمة حيث أعاد عليه السؤال بطريقة أخرى وقال: ألا ترى أن العولمة بمفهومها الشامل سيكون لها خطر على الضعفاء؟ أجاب الفنان بكل ثقة وصراحة قائلاً: بالطبع هذا أمر خطير جداً على الضعفاء بالدرجة الأولى حيث إن العالمة دائماً تستهدف الضعفاء وتزين لهم الأمور وتتحدث معهم بحسن القول وتعدهم بالسعادة في دنياهم إذا هم وافقوها على خططها وآرائها. ويتابع الحديث ويقول إن المشكلة أنها تأخذ مقابل ما تفعله للناس مبالغ كثيرة قد تقود إلى خراب البيوت ولذلك أرى أنه لابد من الوقوف صفاً واحداً لمنع انتشار ظاهرة العالمة. أدرك المذيع أن لا ثقافة لدى الفنان في هذا الجانب وغيّر بسرعة الحديث إلى موضوع الأفلام.
على كل حال قد نلتمس له عذراً لأن التشابه في الألفاظ قريب والخلط بين الألفاظ المتقاربة في الأحرف يحصل أحياناً حتى من أبلغ الفصحاء. أما الخلط في المعنى ومدى قرب العالمة والعولمة في المفهوم فهذا أمر أشك فيه. ولكن لا نستغرب إذا ما طرح هذان اللفظان ووضعا تحت المجهر مع بعض فما يدريكم أن يظهر مؤيدون كثر يؤكدون أن المفهوم للفظين واحد ويظهر مؤيدين لاختلاف مفهوم اللفظين. أليس هناك تشابه في اللفظ بين الإرهاب والترهيب؟ والذي قد يقترن بالترغيب مع الأخذ في الاعتبار تلاشي الخيارات هذه الأيام. لا أدري من أطلق لفظ العولمة أو من هم الذين أطلقوها ولكن الذي أعرفه أن بداية مفهوم كهذا ظهر في المكسيك في مؤتمر بين الفقر والغنى أقصد مؤتمر بين دول الشمال والجنوب في الثمانينات وهو مفهوم القرية الصغيرة التي هي العالم اليوم. إن من أطلقوا العولمة في البداية كان لديهم تصور وخطط لبلورتها وأعتقد أنهم في بلورتهم لمفهومها وما سيترتب عليها استفادوا من مناقشتها من قبل بقية شعوب العالم. ولكن بالتأكيد كان حال من أطلقها هو حال الشاعر المتنبي بالنسبة لقصائده الذي قال في هذا الإطار حول جدل الناس واختلافهم حول تفسير وتحليل قصائده:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الناس جرَّاها ويختصم
قد يكون هناك تقارب بين مفهوم العالمية والعولمة ولكن ليس بين مفهوم العالمة والعولمة بالتأكيد. لا أخفيكم وأنا أكتب هذه المقالة رغم قراءاتي عن العولمة واستمراري في القراءة إلا أنني كلما ازددت قراءة عنها كلما ازددت ريبة وشكا وتوجسا، لا للخوف من الجديد والتجديد ولكن الخوف من الملعوب وخاصة عندما لا أجيد اللعبة وأحسب أن هذا حال دول العالم النامي. العولمة الاقتصادية هي الهدف المنشود لمن يسعون إلى العولمة واتفاقيات التجارة الحرة بين الدول هي الجواز لتمرير هذا المفهوم كما أن الانضمام لمنظمة التجارة العالمية يعني قمة العولمة على الأقل ضمن الإطار النظري. أما الإطار التطبيقي فكما يقول المثل (التوالي لها والي). هناك العديد من الأسئلة التي يمكن إثارتها حول هذا الموضوع مثل: هل العولمة تعني التشابه في كل شيء بين الدول في النواحي الاقتصادية والنواحي السياسية والنواحي الصحية والنواحي التعليمية والنواحي الأمنية والنواحي الثقافية والنواحي التقنية... إلخ، أم أن الأمر كله يتعلق بهيمنة اقتصادية من قبل الأقوياء على الضعفاء اقتصادياً؟ كيف يمكن لدول مكبلة بالديون التي تبلغ بالمليارات لكل دولة أن تنضم لمنظمة التجارة العالمية وليس لديها الحد الأدنى من البنى التحتية؟ لماذا ترفض الدول الدائنة الكبرى أن تلغي الديون عن هذه الدول وتبدي حسن النية حول مفهوم العولمة ومنظمة التجارة الدولية خاصة وأن كثيراً من الدول الداعية للعولمة هي من تسبب في هذه الديون؟ هل من الممكن أن تقود العولمة إلى تناقص سلطة كل دولة في وضع وإدارة سياستها الاقتصادية؟ هل لدى الدول الغربية استعداد لتحريك رؤوس الأموال إلى الدول الفقيرة ووضع خطط للتدريب لتشغيل سكانها أم ستجلب رأس المال والعمالة المهيمنة وترك الأعمال المتواضعة للسكان المحليين؟ هل ستمكن الدول الغربية الدول النامية من ناصية التقنية وكشف أسرارها أم تحتفظ بسر المعادلات التصنيعية؟ هل يصبح العالم نسخة واحدة أم أن هناك نسخا كربونية بعضها قريب من النسخة الأصلية وبعضها باهت لا يمكن قراءته؟ هل هناك خيار للدخول للعولمة أم لابد أن تكون الإجابة أنت مع أو ضد العولمة؟
إن هذا السؤال الأخير طرحته الولايات المتحدة في حملتها العسكرية ضد الإرهاب؟ ولاشك أن العولمة العسكرية ستنفذ قبل العولمة التجارية. لقد أجابت كل دول العالم بالإيجاب في محاربة الإرهاب. لا شك أن محاربة الإرهاب مطلب تسعى إليه كل دولة ومن هنا فلا غرابة أن تسعى كل دولة إلى تلبية النداء. هل تنجح هذه العولمة العسكرية في القضاء على الإرهاب؟ لا شك أن العالم كله يترقب هذه الأيام ماذا سيحصل للإرهاب كمفهوم وكمنفذين له. لا شك أن من نفذ الإرهاب على المركز التجاري نسي أن لكل فعل رد فعل مساوٍ له في القوة ومضاد في الاتجاه. هذه النظرية تغيرت اليوم على الأقل فيما يتعلق بموضوع القوة لأنه لن يكون هناك تساوٍ!!! ولكن المؤكد أن ردود الفعل ستكون موجودة وعلم هذه الردود ونوعيتها يعلم بها الله وحده. الأمل أن تكون النتائج إيجابية تصب في مصلحة العالم أجمع، ولكن الذي لا يخفى على أحد هو الخلاف والتأويلات والتفسيرات لمفهوم النسر النبيل والعدالة المطلقة حيث بدأت تتناوله الألسن والأقلام. ولكن ليس ذلك غريبا فكل المصطلحات التي على شاكلتها والتي يلف الغموض أهدافها واحتمالية عدم ضمان نتائجها وبالذات الإيجابية تتعرض للجدل والنقاش رغم أن العمل جاد وحثيث على تنفيذها وتطبيقها. ألم يكن ذلك حال النظام العالمي الجديد وحال العولمة؟؟؟؟ ولكن هل العولمة العسكرية ستسبق العسكرية بغض النظر عما ستكون عليه النتائج فهل سيكون نجاح العولمة الاقتصادية في التطبيق وقطف النتائج؟ وإذا كان الأمر سيكون كذلك على الأقل في تطبيق العولمة العسكرية بغض النظر عما ستكون عليه النتائج فهل سيكون نجاح العولمة الاقتصادية مرهوناً بنجاح العولمة العسكرية ضد الإرهاب؟؟؟؟. إن على العولمة الاقتصادية أن تسعد لوجود منافسة من العولمة العسكرية والاستخباراتية والأمل كبير ألا تنافسها العولمة الإرهابية!!!
|
|
|
|
|