أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 28th September,2001 العدد:10592الطبعةالاولـي الجمعة 11 ,رجب 1422

شرفات

شخصيات قلقة
إليزابيث باريت براوننج «1806 1861م» أرجوحة من الحزن والحب
في قصر ريفي قرب عاصمة الضباب لندن يعيش مستر باريت مع أبنائه خلف سور كبير. فهو يخاف على أبنائهم من الآخرين ومخالطة الناس، ويفرض عليهم أن يتعرفوا على من يريد.. أن يحبوه وحده ولا يشركوا في حبه أحدا! يفرض عليهم أن يعيشوا تحت عينيه دائماً.. وبعينيه يرون الحياة.
لكن قسوة هذا السور لم تمنع الصغيرة إليزابيث من أن تهرب إلى الخيال، وتختبىء في عالم خاص بها تغني أشعاراً ساذجة وجميلة.. وانتبه الأب إلى شرود ابنته وانطوائها كعلامة غير صحية وتعبير عن رفض سطوته؛ وهو وإن كان قاسياً بعض الشيء لا يريد لأبنائه سوى تربية سليمة بعيداً عن تأثيرات المجتمع الضارة. وإليزابيث بدلاً من أن تتفهم أسباب حزمه وشدته تنطوي على نفسها وتبدو كفتاة مقعدة مريضة!
تأخذ الأب الحيرة.. لقد وفر كل شيء.. الطعام والملبس والمدرسين والمربيات.. ووفر ما يكفي من الأسوار لحماية أبنائه.. ثم إذا به يفاجأ بابنته عليلة دون علة ظاهرة، وأكد له جميع الأطباء المهرة أنها لا تشتكي أي مرض.. فلماذا تستسلم للمرض ولا تقوى على المشي؟
لماذا تقتل بداخلها إرادة الحياة؟
نصحه البعض بأن يترك الصغيرة تلقي بعض الأشعار على رهط من الأقارب، فلا ضير في هذا.. بل ما المانع في أن يطبع لها قصائدها تلك؟!
ورغم أنه فعل هذا مرغماً، ظلت إليزابيت على حالها. تنتابها نوبات حادة، آلام في الرأس، آلام في المفاصل، وتمضي أياماً طويلة في الفراش، ويعود الأطباء ليقولوا نفس الكلام وأن علتها نفسها، ويتعجب الناس من حولها إذ كيف تنشأ ضعيفة البنية هكذا رغم كل هذا النعيم والثراء؟!
تقول إليزابيث: «كثيراً ما تاقت نفسي إلى الانطلاق بينما الناس كلهم نيام، وطالما تاقت روحي إلى الهرب من سجن الجسد، فأتخطى المروج وأسير على الدروب إلى أن أبلغ قمة الجبل، فأرتع عليها ساعة أو أكثر، أسامر النجوم ثم أعود إلى البيت قبل أن يصحو أحد»!.
إنه الخوف من العزلة.. من الأغلال.. أو التوق إلى مكان أجمل وراء أسوار الأب، ورغبة من الأب في تلهيتها بأي شيء سمح لها بالاطلاع في المكتبة، وبحضور دروس الأدب مع أخيها إدوار الذي انتظم في إحدى المدارس مؤخراً. كان الأستاذ رجلاً ضريراً يسمى «بويد» ورغم أنه حبيس آفته ولا يغادر سجنه مثلما لا تغادر هي قصر الأب، إلا أنه كان رجلاً ذا خيال خصب، محباً للشعر والأدباء الإغريق، ومن خلاله انفتحت أمام عيني إليزابيث نافذة سحرية وعوالم غامضة وجميلة. تستمع إليه بشغف وتناقش أخاها بالساعات الطوال، فيشجعها الأستاذ ويشجعها الأخ على كتابة الشعر، وعلى الاستماع إلى قصائد بايرون وشيلي وغيرهما. كما عرفها الأخ على أشعار شاب يُدعى روبرت روبرت براوننج.
وعندما أصيبت بالتهاب رئوي حاد أنهك قواها أشار الأطباء على أبيها بإبعادها عن رطوبة لندن، فذهبت إلى الشاطىء الجنوبي للاستشفاء في مكان دافىء، برفقة أخيها إدوار الذي تعتمد عليه لمعرفة ما يدور في العالم الخارجي. وأثناء استمتاعهما بأمواج البحر ودفء الشمس فقدت إليزابيث أخاها الذي غرق أمام عينيها في لحظة وغاب عن الوجود. فسقط جسدها الواهن في انهيار تام من هول الصدمة، وبدلاً من أن تشفى من الالتهاب الرئوي عادت في حالة هستيرية، تعاني الكوابيس والنوبات المتلاحقة، فاضطر الأطباء إلى استخدام المورفين في علاجها حتى تهدأ أو تنام.
لقد فقدت السند الوحيد لها في الحياة، في الوقت الذي كانت تحتاج إليه بشدة.. تماماً مثلما فقد الأم وحضنها الدافىء في لحظة الاحتياج إليها! وخيم على القصر جو من الكآبة والتشاؤم فحمل الأب أولاده إلى مكان آخر، أو إلى سجن جديد، وضاعف من قسوته عليهم، باستثناء إليزابيث التي بدت ككائن هش لا يحتمل أبسط وخزة.
لم يبق لها سوى أستاذها الضرير بويد الذي استمر في تشجيعها على كتابة القصائد ونشرها، حتى غدت معروفة الاسم في الأوساط الأدبية، وإن كان الجميع يتساءلون: من تكون هذه الشاعرة الفذة والغامضة في نفس الوقت؟!
إنها شابة مقعدة، عاشت حياتها وراء الأسوار مسكونة بالحزن والصمت.. شاردة بين الأحلام والكبت وشطحات الخيال.. فقد أصبحت تخشى النور والضجيج ووجوه الآخرين، وتكتفى من الحياة بأقل المفردات، حتى عندما اعجبتها قصائد روبرت براوننج، فصلت القصائد عن صاحبها، ورفضت أن تقابل هذا الشاب الذي جاء يخطب ودها وأرسل لها العديد من الرسائل وأيضاً القصائد التي تشي بأنه يحبها من قصائدها.. يحبها من أحزانها الدفينة حتى قبل أن يراها ويتعرف عليها.
ربما تكون قد أعجبت بهذا الشاعر الناجح لكنها لا تسمح لنفسها أن تعيش قصة حب، ولو عن طريق المراسلة.. فهي فتاة محبطة ومقعدة، ذوى شبابها بفعل المرض والكآبة.. ولولا إصرار براوننج وعناده لقتل هذا الحب قبل أن يولد.. فقد نجح في اقناعها بأن يزورها من وقت لآخر في حضور إخوته (وفي غياب الأب بالطبع) وشيئاً فشيئاً سمحت لقلبها أن يدق وينبض لعاطفة الحب.
تقول إليزابيث: «كانت حياتي منتهية عندما عرفتك (تخاطب براوننج في إحدى الرسائل) ثم كان البعث وعدت إلى الحياة من أجلك وحدك إلا أني أخاف ألا أكون قادرة على اسعادك». ليس هذا هو خوفها الوحيد، فهناك أيضاً سطوة الأب إن علم بقصة الحب هذه. وبراوننج الذي يستطيع بأشعارها أن يحرك ثلث النجوم في السماء لن يستطيع أن يقنع أباها بالزواج.
وذات يوم ساءت حالتها الصحية وأشار الأطباء على الأب بضرورة السفر لكنه رفض بحزم. في تلك اللحظة أيقنت إليزابيث أنها لن تشفى ولن تتزوج من تحب إلا إذا قفزت من فوق السور، إنها عبد لأبيها المتسلط كما أخبرها براوننج متذمراً.. وأخيراً قررت أن تعتق ذاتها من ربقة العبودية، وأن تغادر باب السجن لأول مرة غير آسفة على شيء.
لأول مرة تأخذ قراراً بمفردها وتتزوج من روبرت براوننج وتسافر معه إلى إيطاليا، وهناك تبتسم لها الحياة وترزق بطفلها الوحيد، ولأنها لا تعتبر نفسها جاحدة لأبيها حاولت مراراً أن تسعطفه وترسل له العديد من الخطابات كي يتفهم ما حدث، لكنه بدا كحجر أصم كعادته وأعاد إليها الخطابات مغلقة كما هي. ولا يتردد أن يكرر أمام معارفه: «إن ابنتي في قبرها الآن.. فلننس الأموات..» تُرى ماذا كان يريد هذا الأب من ابنته المريضة التي ظلت دون زواج حتى بلغت الأربعين من عمرها؟! إنها القسوة التي أعمته حتى مات دون أن يغفر لها الهروب من المنزل.
وحين عادت إلى لندن مرة أخرى بعد أن أصابت الكثير من المجد والشهرة، لم تجد حناناً من إخوتها وداهمها المرض مرة أخرى، يضاف إليه حساسيتها الزائدة بسبب الشيخوخة حيث بلغت الرابعة والخمسين وبراوننج ما زال في التاسعة والأربعين وما تزال أمامه حياة عريضة ومليئة بفرص النجاح والشهرة.
تحمل زوجها المرض وسافر بها إلى باريس وإيطاليا مراراً.. وتحمل حساسيتها تجاه شهرته، فكان يعتذر عن الحفلات العامة حين تعتذر هي مواساة لظروفها الخاصة.. إنها تتهرب من صخب الحياة العامة لتجلس بمفردها تجتر أحزانها في صمت، وتبحث عن الخلاص في ينابيع الشعر التي تتدفق على شفتيها إلى أن رحلت في الخامسة والخمسين من عمرها تاركة توأمها في الحياة والشعر يمضي في طريق المجد وحده. وعنه تقول:


«وجئت إليّ بعد ما خانني الزمن
وجدتُك، وها أنا قوية، محبوبة، وفيّة.
كالروح الآمنة في جنات الخلد،
التي تستعيد مآسي الماضي، من غير ألم ولا ندم.
وإني لأشهد، وقلبي طافح بالفرح
أن الحب في دنيانا، كالموت تماماً،
يستطيع إنقاذنا من اليأس والألم».

شريف صالح

أعلـىالصفحةرجوع















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved