| الثقافية
المدير التنفيذي لدونسكو الذي تجعله رواية القصيبي بؤرة التحول ومقصد التغيير لا يستسلم لهذا التحول ولا يذعن للتغيير، وذلك أمر معتاد في أفق التلقي، لكن عادية هذا المعنى هي ما يغدو عبء الرواية التي تتضافر أدواتها على تحطيمه ممثلا في شخص المدير التنفيذي واللعب بأعصابه وإثارته والعبث به. رفْضُ المدير التنفيذي لتغييره هو ما يجسده رمزاً للاستبداد، ويحيله الى مثال للسلطة التي لا تستمد معناها من موقعه بل من ذاته، ومن مصلحته لا من وظيفته ومن الأنا التي تتضخم فلا ترى غيرها إلا هامشا على مركزها وفرعا لأصلها. إنه لا يرفض فقط هذا التغيير، بل يحزن وينكر ويحتال ويأتي من الأقوال والأفعال ما يمعن في رسم صورة كاريكاتورية له، وبذلك تبدو العلاقة بين المنصب وحامله، والوظيفة وشاغلها، علاقة درامية متوترة ومرشحة لصراع يستبدل الشك باليقين، والخطر بالأمن، ويمضي بخيوط الموقف الى تشابك وتجادل باتجاه التقطير لمعنى غائب يزرع الفضاء باحتمالات لا يجهضها يقين.
إن البداية التي تتحدث عن «البروفيسور روبيرتو تشاينتي» منفردا وهو يتقلب في مشاعر تؤكد أساه وخوفه من أن يُسْرق منه منصب المدير التنفيذي، لا تلبث أن تنكسر فرديتها بدخول كبيرة مستشاريه «سونيا كليتور» التي تغدو مثالا على المنتفعين بشكل مباشر أو غير مباشر، حيث يصبح التغيير تهديدا لمصالحهم، لأنه بمعنى ما تغيير لهم. هنا يغدو للرواية قدرة على الشفافية والبصر الذي يجاوز سطوح الأشياء بحثا عن معناها، وهو معنى لا يتشكل في الأشياء مفردة ومعزولة عن سواها، فالأشياء هكذا لا معنى لها، ان معناها في علاقاتها المختلفة مع غيرها. وهكذا لا يغدو لفردية البورفيسور روبيرتو معنى نترجمه في: سلطة المدير التنفيذي - إلا باستحضار علاقاته التي تبدأ من سونيا ومن يحيط بها ولا تنتهي عند الرؤساء والوزراء وأصحاب النفوذ. سونيا، الآن، وجه من وجوه السلطة، وهي إذ تقوم بوظيفة كبير المستشارين فإن علاقتها المعرِّفة لها والمحددة لدورها عمليا لا تصدر عن موقعها في سلم السلطة بل عن علاقتها بشخص المدير وبشكل ذاتي وليس موضوعي، ونفعي وليس عملي، ومن ثم لا يغدو حرص البروفيسور على البقاء مديرا أكثر من حرصها. ويبدو الحوار الذي يدور بينهما دالا على نموذج المناخ الذي يصنع فردية السلطة، ويبني هرمها المقلوب، ويمكن ان نلمس من خلال هذا الحوار أبرز معينات تلك الدلالة:
1- لا تُبْدي عبارة البروفيسور وثوقية مطلقة في ثباته رأسا لهرم السلطة، إذ هي عبارة استدراجية تحمل الريب والتشكك، وتركن الى بعض الاساغة والتعزية والتهوين في أن يترك موقعه، ووظيفة ذلك، في سياق الحدث، تأتي من تجديد بناء السلطة عليه، ليغدو منتوجا متجددا في ثباته عبر ردود الفعل النقضية المستبسلة من قبل سونيا.
2- التأكيد على مجد السلطة وأبهتها، فالحوار يرينا من السلطة التشريف والتكريم والراحة والاطمئنان والعز والقوة والحرير والنعيم والأضواء والجماهير والهدايا والاستقبالات والميادين المسماة باسمه والطائرات الخاصة والبساط الأحمر في كل مطار ورؤساء الدول والوزراء والحاشية المحيطة وآلاف الرسائل التي تلتمس عملا.. الخ وهو جانب نراه فقط من أجل حجب الدلالة الجارحة الغائبة وراء ذلك والتي يلخصها التساؤل: لماذا؟ لماذا كل هذا؟ من يصنعه؟ ولمن؟.
3- صناعة الوعي الذي يولد الفردية والاطلاق فيبني للسلطة مداراً مطلقا لا نسبيا، ومغلقا لا مفتوحا، وجاهزا ونهائيا لا تمحصه الظروف، ولا تختبره وتصوغه وتصيره الوقائع الفعلية. إن البروفيسور/ المدير «موصوفا من قبل سونيا»: انسان غير عادي، انسان عبقري، ليس كالإمعات الذين سبقوه، مكانه الطبيعي في هذا المقعد، مكانه الطبيعي عند دفة قيادة العالم، هذه ادارته، كل المنجزات منجزاته، كل المسؤولين مخلصين له.. وهذا الخطاب الزائف المنافق أساس جوهري في تزييف وعي التسلط وتبريره وصياغته مفردا.
4- ثلب التغيير والقدح في التجديد..«فالدماء الجديدة هذه الأيام لا تحمل سوى فيروس الايدز» و«من يحتاج الى دماء جديدة إذا كانت الدماء القديمة تعمل بكل حيوية؟». و«الملل طبيعة البشر الغادرة». هنا تثلب سونيا التغيير من أجل تبرير الثبات، وتعيب الدماء الجديدة لتسوغ القديمة، وتنكر الملل الذي يقترن في عبارتها بالغدر لتجعل الوفاء قانون علاقة أخلاقية للثبات. أي أننا أمام منطق عكسي لعلاقات الجدة والتغيير بما يناقضهما بحيث يتأسس في الوعي - مطلقا- قاعدة الأصل للثبات والقديم والفرع للتغيير والجديد، بما يحجب حقيقة أننا لا نعرف ثباتا ولا قديما إلا بالتغيير والتجدد، وهما الحركة التي يستطيع الوعي أن يجتلي فيها حقيقته التي لا تتحقق في السكون المطلق.
5- التأويل لمواد القانون وبنود النظام والقرارات، فسونيا تقرر، في مواجهة أحد القرارات، أنه:«لا يوجد قرار غير قابل للتأويل والتفسير» والمستشار القانوني يقول:«أعددت مذكرة قانونية وافية أثبت فيها بما لا يقبل الشك ان هذا القرار لا يسري على السيد المدير التنفيذي الحالي، لأنه صدر خلال ولايته، ولكنه يسري على أي مدير تنفيذي قادم. ولو قلنا بسريانه على المدير التنفيذي الحالي لكان معنى ذلك أننا نجري النص بأثر رجعي... الخ».
إن التأويل هنا بما يعتمده من لعب بالدلالة وتصريف للقول واستثمار للمساحة التي تفصل بين اللغة والواقع، والصور الذهنية والأشياء، والمجاز والحقيقة، والرسالة والسياق - هو انشاء لمنطقة «السر» التي تقود الى ما هو معتاد من حساسية تجاه السر ومن يملكه، ولهذا يرى أمبرتو إيكو، في اطار حفره عن جذور خفية لأشكال التأويل:«أن تلاشي النموذج الهرمسي قد قاد الى الاعتقاد بأن السلطة تكمن في جعل الآخرين يعتقدون في أن جهة ما تمتلك السر السياسي. والسر- ينقل عن جورج سيمال- يمنح من يمتلكه موقعا استثنائيا. فالسر شبيه بجاذب مغناطيسي له محددات اجتماعية خاصية».
هكذا يغدو التأويل فعل صياغة للمعنى وتشكيل للمعرفة مثلما هو امتياز سلطوي، فالمؤول «اسم فاعل» يملك حقا يستمده من سلطة ما، ويملك وصاية على المعرفة بمعنى من المعاني، لهذا كان التأويل - في هذه الوجهة وبشروطها- مستوى باطنيا ومجازيا في دلالة النصوص، أي انه خاص وليس عاما ومحتكر وليس مشاعا، وايديلوجي وليس معرفيا، وهو أداة مثالية لفرض الذات واقصاء الآخر.، ومن المؤكد ان فتراته الخصبة تاريخيا ستكون في لحظات التحول التاريخي وفي لحظات الانغلاق وانسداد مجرى الزمن، ففي الحالتين تغدو المعرفة وسيلة تكييف تاريخي أكثر من كونها وسيلة تنوير وتحرير من عقال الجهل.
نخرج من الحوار - إذن - وقد تشخصت السلطة في دونسكو، فلم يعد المدير العام نتاج المؤسسة بل أصبحت المؤسسة نتاج المدير العام/ البروفيسور، أو هكذا يريد لها أن تكون.
Zayyad62@hotmail.com
|
|
|
|
|