| عزيزتـي الجزيرة
حقيقة لا أعرف كيف أكتب وبأي كلمات أعبر عن تلك المصيبة والفاجعة الكبرى الذي حدثت لنا بانتقال والدنا الكريم فضيلة الشيخ علي بن صالح العلي الرجيعي إلى رحمة الله تعالى، وذلك مع بداية الأسبوع الحالي، كل شيء حدث أمامي سريعاً دون أن أتمكن من معرفة حقيقة وأبعاد ذلك!!
وقد كنت خلال الأعوام والأيام الأخيرة إلى جانب الوالد الفاضل محاولاً عمل كل ما أستطيع من أجل راحته والتخفيف من آلامه، ولكن قضاء الله وقدره شاء أن تكون آخر أيامه في الحياة الدنيا. والدي الجليل الذي ربّانا ورعانا إخواناً وأخوات بالمشاركة مع الوالدة الفاضلة الحنون، وبذل كل ما يملك من أجلنا، وخلال جزء من الثانية، تركنا ورحل عنا إلى الدار الآخرة، (لن أنسى ما حييت تلك اللحظة المهيبة الفاصلة بين الحياة الدنيا والآخرة، فلن تتكرر أمامي أبداً). وبدون وداع على أمل اللقاء لاحقاً والاجتماع من جديد في جنات الفردوس؟!
لم أفهم حقيقة ما يجري امام ناظري، وأنا أشارك في عملية غسل جسده الطاهر، ابتداء بورق السدر والكافور، وتعطيره بدهن العود والعنبر والمسك، فكان يبدو عليه انه في نوم عميق، ووجهه السمح الطيب مشرق ولامع جدا كالبدر، وبشرته كالحرير، وسبابة يده اليمنى بقي مرتفعا في اتجاه السماء رمزا للشهادة «هنا قبلت جبهته الزكية ثلاث مرات، تلك الجبهة التي طالما ركعت وسجدت خضوعا وإجلالا للخالق القهار سبحانه وتعالى» وانتهاء بلف الكفن الناصع البياض ذي الثلاث طبقات، ومن ثم وضع المشلح الأسود حوله، استعدادا لنقله للمسجد للصلاة عليه، يا للحظات رهيبة تمت بهدوء واحترام تام ومتكامل، والتي لم أكن أفكر بها أو أتخيل حدوثها مطلقا من قبل!!
هنا حملتني الذاكرة إلى فترة الطفولة، ورعايته المستمرة الحانية، ومتابعته الدائمة لنا منذ سنوات التعليم الأولى، وحتى الدراسات العليا، وأتذكر أنه بعد حصولي على شهادة الدكتوراه بالإعلام في فرنسا وعودتي للرياض، وبعد تخلي الجهة المبتعثة عني «وزارة التعليم العالي»، حاول ولفترة طويلة مساعدتي للبحث عن عمل يتناسب مع تأهيلي العلمي والعملي ولكن دون جدوى. وما زلت أتذكره وهو يحمل حقيبتي ويمسك بيدي مشياً على الأقدام حتى بوابة المدرسة، ثم يواصل طريقه للعمل في كليتي الشريعة واللغة العربية بالرياض، وعند المساء يسألني عن الدروس المختلفة، وإذا ما كنت في حاجة إلى شرح أو توضيح لمادة معينة، وهكذا كان حتى التخرج في الجامعة ومن ثم الدرجات العلمية العالية اللاحقة، وكان يتبع نفس الأسلوب مع جميع الإخوان والأخوات.
وأيضاً من خلال عمله الأكاديمي عمل على تقديم المساعدات المالية والخدمات الجامعية المختلفة للطلبة سواء المنتظمين منهم أو المنتسبين، وذلك يتم أثناء الدوام الرسمي أو خارجه، وجميع المتخرجين من الكليتين خلال فترة عمله الطويلة التي استمرت حوالي 40 عاماً، لا يزالون يتذكرون ذلك جيداً، ونادراً ما أكون في جهة حكومية أو خاصة في جميع مناطق المملكة، إلا وأجد من يعرفه جيداً ويسألني عنه وعن أحواله، ويطلب كيفية الاتصال والالتقاء به من جديد.
وحقيقة فقد كانت حياته زاخرة بالكفاح والصبر والإصرار منذ طفولته ومساعدته لوالديه في مزرعة الأسرة في مدينة بريدة بمنطقة القصيم، حتى قراره الهجرة والانتقال للعمل في معهد شقراء العلمي، والدراسة منتسباً، ومن ثم الانتقال للرياض والعمل في كليتي الشريعة واللغة العربية، والدراسة أيضاً منتسباً حتى حصوله على الشهادة الجامعية، ونظراً لانشغاله المكثف خلال العمل الرسمي، وحضوره للدوام كأول الموظفين وخروجه آخرهم، فقد كان يجتمع يومياً مع زملائه من الطلبة المنتظمين مساء سواء في منزله أو في أحد المساجد، وذلك للتدارس والحوار حول المواضيع الخاصة بالدروس والمحاضرات المختلفة.
ورغم حصوله على فرص متعددة لمناصب أعلى للعمل في جهات حكومية مختلفة، إلا أنه فضل البقاء في عمله ومرتبته المتواضعة حتى التقاعد، فالحياة المادية لا تهمه مطلقاً، ولذلك كانت حياته في منتهى البساطة والتواضع والكفاف.
ونظراً لأخلاقه الجمة الحميدة، وشخصيته المتميزة البشوشة الفريدة، وتعامله المتواضع، فقد كان محبوباً ومقدراً جداً من الجميع، ابتداءً من والديه اللذين كان إلى جانبهما وبارّاً بهما وعطوفاً عليهما، وأشقائه الكرام وشقيقته الكريمة، وانتهاءً بجميع أعضاء الأسرة، فكان دائماً ما يجد التقدير والإشادة، وذلك سواء من أقاربه، أو أصدقائه، أو جيرانه أو محبيه في جميع مناطق المملكة، كما يقدم المساعدات المختلفة للمحتاجين، ويتحمس لفعل ومتابعة الأعمال الخيرية والإنسانية بشكل دائم ويجد في ذلك الاطمئنان وراحة البال.
وقد كان حريصاً جداً على تربية أبنائه تربية دينية متكاملة، وأداء الشعائر المختلفة، والصلوات في أوقاتها، وخاصة صلاة الفجر (وبعد رحيله بحوالي ثلاث ساعات، أديت صلاة الفجر في مسجده ولم استطع مقاومة البكاء من بدايتها حتى نهايتها) وكان يؤدي الحج والعمرة مع والديه أو أسرته، وقد قام بأداء العمرة قبل فترة وجيزة رغم مرضه، وكنت أحب دائماً مرافقته للصلاة في المسجد وخاصة صلاة الجمعة (سأكون حزيناً جداً عند أداء صلاة الجمعة القادمة، فسأكون وحدي، وسأفتقده كثيراً كثيراً) وقد قام خلال فترة زمنية طويلة بالعمل مؤذناً وأحياناً إماماً للمسجد القريب من منزله، والذي قام شخصياً بتمويل الحصة الكبرى لبنائه، ولم يتوقف عن الأذان أو الإمامة إلا بعد اشتداد المرض عليه، حيث اضطر للصلاة في المنزل، كما أنه لا يرغب أداء الصلاة على الكرسي، رغم أنه في فترة من الفترات كان لا يستطيع الوقوف لفترة طويلة.
والدي الفاضل: إن قلبي يتفطر ألماً وحزناً عظيماً ليس له حدود. إن لديّ الكثير والكثير من التساؤلات والمساءلات الموجهة إليك، فأنا لا أزال اطمع في سماع ومعرفة الكثير منكم، كوالد مربٍ عطوف وموجه حكيم تضع الأمور في نصابها، فنحن جزء منكم وأنتم جزء منا، إننا نجد اليوم أنفسنا وحيدين في هذه الحياة الصعبة المعقدة، وذلك بعد رحيلكم المفاجئ من الحياة الدنيا الفانية بعيداً عنا إلى الحياة الحقيقية إلى دار الخلود والقرار، فقد كنتم إلى جانبنا أباً رحيماً حنوناً ودوداً مثالياً، وصديقاً عزيزاً وفياً، ومرشداً ودليلاً للدين والدنيا، فليس للحياة قيمة أو معنى بعدك، إنما ستكون عبارة عن ساعات وأيام خالية ومجردة من المعاني الإنسانية العميقة، فشمعة الأسرة انطفأت، وشمس الأسرة الساطعة غابت، والوردة الشذية العبقة رحلت، ومع ذلك فأنتم لا تزالون موجودين بيننا، في كل زمان ومكان، في الذاكرة الجماعية، ذاكرة الصغير والكبير، القريب والصديق، إنكم رحلتم لتولدوا من جديد في آفاق الذاكرة والتاريخ تشكلون رمزاً خالداً يتذكره ويستعين ويهتدي به الجميع من أجل حياة أفضل، ومثالاً حقيقياً للإنسانية بكافة صورها، صلة القربى، العصامية، الحكمة، التواضع، البساطة، التربية النموذجية، الرحمة، الرأفة، الكرم، العطاء، البذل، التضحية، الشهامة والنبل، والأعمال الإنسانية.
وفي ختام تلك الكلمات المتواضعة، أتوجه لله العلي القدير أن يتغمدكم بواسع رحمته ورضوانه، وأن يدخلكم فسيح جناته، وأن يلهم الأسرة الكريمة الصبر والسلوان، «وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون»، «يا أيتها النفس المطمئنة. ارجعي إلى ربك راضية مرضية. فادخلي في عبادي. وادخلي جنتي»، صدق الله العظيم.
والدي الجليل الفاضل ليس لديَّ ما أتواصل به معكم سوى الدعاء الدائم لكم بالمغفرة وحسن المآب، والأمل الكبير بتجديد اللقاء بكم قريباً في جنات الخلد إن شاء الله تعالى.
د. خالد العلي
Email:drkhaledalali@yahoo .com
|
|
|
|
|