| مقـالات
كثيرا ما تفرز الأزمات والمنعطفات الحادة التي تعصف بالأمة، اتجاهات أو تيارات فكرية تهدف إلى البحث عن الذات ومراجعة ما حدث وإعادة تأهيل هذه الأمة لمواجهة المصير بروح جديدة وكفاءة عالية.
ولعل هذا ما يفسر تبوّؤ مفهوم التراث معظم ما أنتجه الفكر العربي الحديث منذ هزيمة حزيران يونيو 1967م وحتى اليوم، في إطار دراسته الثنائية المتداولة في الفكر المعاصر مثل «التراث والحداثة، الأصالة والمعاصرة، الشرق والغرب، نحن والآخر..إلخ».
وهنا محاولة، ليست للدخول في هذه الإشكاليات الثنائية، وإنما للتعرف إلى بعض التجارب الانسانية في موقفها إزاء تراثها وكيفية تعاملها معه. فالتجربة العربية الاسلامية والتجربة التركية وكذلك التجربة اليابانية هي تجارب تستحق الوقوف والتأمل، عسى هذا يعيننا في استخلاص إجابات مقنعة للسؤال الكبير والملح: لماذا تقدم العالم وتأخرنا؟!.
العرب وأزمة السؤال
يمثل التراث القيمة المرجعية للأمة وهاجسا إنسانيا يطال كل فرد يعيش في خضم هذا التراكم المعرفي والحضاري الذي أنتجه التراث الانساني عموما. ونحن العرب والمسلمين نعد من الأمم القليلة إن لم تكن الوحيدة التي أخذت تراثها كاملا غير منقوص وحافظت عليه حفاظا شديدا، ودافعت عنه دفاعا مستميتا ضد كل ألوان الغزو سواء الداخلي أم الخارجي. لكننا أيضا الأمة الوحيدة التي لم تستطع تكييف مخزونها الهائل لصالح تقدمها ونهضتها. لأننا لم نعمل على فهم واستيعاب هذا التراث وتحريره من الفهم أحادي الجانب، وحتى حين نادى وينادي مثقفونا بضرورة العودة إلى التراث وإعادة قراءته فإن العودة لم تخرج عن نطاق البحث عن شهادة حسن سلوك لتدعيم موقف ما على حساب آخر، مع الإقرار مسبقا بأن الدعوة للعودة إلى التراث هي نتاج أزمة معاصرة وعجز حقيقي عن فهم متطلبات المرحلة وعن تقديم الأجوبة الشافية للإشكاليات المطروحة على الأمة. كما أن محاولة البحث عن قراءة جديدة للتراث العربي الإسلامي في ظل ظروف عربية اسلامية عاجزة عن فهم الحاضر، لا تتعدى كونها محاولة للفهم من خلال هذا التراث. علما أن العودة هي ظاهرة صحية، إذا تمت في ظروف نهضوية.
لذا فإننا ، في كل محاولاتنا لقراءة التراث، لم نستطع الخروج من أسر الماضي الذي جهدنا في تقليده ولم نعِ أن الماضي لا يقلد. اعتمدنا على حسنا البدوي في القراءة فلم نستطع التمييز بين مكامن الاستلهام ومكامن التقليد وأين ينبغي التجديد. أردنا برغبة تلقائية ونية طيبة للتشبث بمثال الماضي، أن نكوّن مشروعات نهضوية حقيقية، ولم ندرك أن المسألة مسألة ثقافية بحتة وتتصل بالوعي أولا وان النيات الطيبة وحدها لا تكفي. نحن نقيم الصلاة ونؤدي الزكاة ونصوم الشهر ونحج البيت ونجوّد القرآن ونحفظ من أحاديث الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام الكثير الكثير وعن ظهر قلب، فحياتنا الدينية بأحسن الأحوال وللّه الحمد. أما حياتنا العلمية والعملية، فحدِّث ولا حرج، فنحن عاجزون عن تحديد شروط حياتنا وكيفية تقدمنا وسبيلنا إلى عيش أفضل، ولا زلنا نهرب إلى الماضي نفتش عن آية كريمة هنا وحديث شريف هناك وتطبيق عملي هناك ونستحضر أئمتنا وأبطالنا وقادتنا لنحقق لأنفسنا، ولو لوهلة، شيئا من التوازن الوهمي، وإذا ما خرج إلينا الغرب بنظرية علمية أو معجزة طبية جديدة تنادينا وأعلنا على رؤوس الأشهاد أن كتابنا العزيز فيه من المعجزات ما لا يعد ولا يحصى، وفي كل العلوم البحثية منها والتطبيقية، ولكننا فشلنا في اكتشاف معجزة طبية أو نظرية علمية واحدة. وكل ما فعلناه ولا نزال نفعله، هو تأييد الغرب بكل اكتشاف جديد، بآية من قرآننا أو حديث من سنة نبينا الكريم، ذلك أننا لا نقرأ تراثنا المتمايز قراءة متفحصة وكذلك قرآننا، وإن حدث وقرأناه فإننا نقرأه في كل عصر بناء على متطلبات المرحلة والظرف التاريخي، ولهذا جاءت هذه ا لقراءة محاولة لستر العجز والهروب إلى الماضي واللجوء إلى كتاب اللّه عز وجل ليرشدنا إلى حياة سوية.
تركيا .. الغراب الذي نسي مشيته
التجربة التركية جاءت على النقيض من التجربة العربية في تعاملها مع تراثها الاسلامي. فبعد وصول مصطفى كمال «أتاتورك» بطل تركيا القومي إلى الحكم، نسفت تركيا تراثا حضاريا ممتدا لآلاف السنين، وتراثا إسلاميا حملت الخلافة العثمانية لواءه لأكثر من أربعمائة عام.
فمنذ عام 1923م وباسم العلمانية بدأ أتاتورك وجماعته حربا شعواء على التراث الاسلامي بدأها بالقضاء على الحرف العربي واستبداله بالحرف اللاتيني، فقطع بذلك كل أشكال التواصل والارتباط الفكري والحضاري بين الأجيال وطمس كل المعالم الثقافية الأصيلة لهذا الشعب. ثم قام بسلخ الشعب عن كل ما هو إسلامي فحذف المادة القائلة «إن الإسلام هو دين الجمهورية التركية» من الدستور وألغى بذلك وزارة «مشيخة الإسلام» التي تبعها إلغاء للمحاكم الشرعية وإلغاء العمل بالشريعة الإسلامية عامة.
ليس هذا وحسب، بل وإمعانا منه في نبذ كل مظاهر الإسلام، وبمحاولة مستميتة لإقناع الغرب أن تركيا «تأوربت» ولا بد أن ينظر إليها بعين العطف وإدخالها الحظيرة الأوروبية، فقد أمر «أتاتورك» جميع الأتراك بلبس القبعة الغربية تشبها بالأوروبيين.
وبالرغم من ذلك كله وغيره من محاولات قامت بها الأنظمة المتعاقبة بعد «أتاتورك» إلا أن تركيا لم تفلح في أن تكون دولة أوروبية تحظى باعتراف ومباركة الغربيين، فأصبحت مثل الغراب الذي حاول تقليد مشية الطاووس، فما استطاع تقليدها وفي ذات الوقت نسي مشيته الأصلية.
فأوروبا «المسيحية» لم تكترث كثيرا بكل قيم التغريب والحداثة التي تبنتها تركيا، وظلت في نظرها دولة «مسلمة» وفي الوقت نفسه خسرت تركيا الدول الاسلامية، التي أخذت عليها أنها دولة علمانية و«متأوربة» . هذا إلى جانب أن العلمانية التي تبنتها تركيا لمساواة الغرب تحولت إلى أيديولوجية قمعية على الصعيد الداخلي، فكل شخص تسول له نفسه الخروج عن مبادئها فإن مصيره السجن والتوقيف. فلم تحقق بذلك شيئا ملموسا للمواطن التركي سوى انها مزقته بين تاريخه الاسلامي والحضاري وبين قيم غربية مفروضة عليه.
وكذلك على المستوى الاقتصادي فلم تنجز العلمانية التركية ما أنجزته الأنظمة المماثلة في الغرب بالنسبة لمواطنيها، فعلى المستوى المعيشي لا يزال المواطن التركي يعاني البؤس والفقر بجانب تغلغل «المافيا» وتزاوجها مع الفساد في معظم الأجهزة الأمنية والمؤسسات في الدولة.
وغير هذا وذاك فإن تركيا أمست ذيلا تابعا لأوروبا وأداة أمريكية لملء الفراغ في المنطقة، بعد أن كانت امبراطورية قوية ذات وزن في التوازنات والمعادلات الدولية. فالسنوات الطويلة من العلمانية وقطع الصلات مع الجذور لم تحقق لها شيئا سوى كثير من العزلة وكثير من الضياع وتمزقا مجتمعيا صارخا، فتركيا اليوم لا تعرف تحديد وجهتها الصحيحة وهي تقف على أرض هشة بعد أن فقدت هويتها الاسلامية والحضارية وتحولت إلى «رجل أوروبا المريض».
اليابان وثقافة التفوق
اليابانيون بخلاف العرب والأتراك، فقد أخذوا من تراثهم كل ما يساعدهم على حياتهم العملية ويساهم في تطويرهم وتقدمهم. وإذا كانت «الشنتو» هي ديانة وثقافة معظم اليابانيين، فهي تمثل حالة من التراكم التراثي الحضاري للأمة اليابانية، ومعنى «الشنتو» باللغة اليابانية «طريق الإله» وتعتبر الشمس الركن الأهم في هذه العقيدة بجانب تقديس الأسلاف والعائلة الامبراطورية، باعتبارها من سلالة الشمس حسب اعتقادهم.
لقد بقيت اليابان في عزلة عن العالم الخارجي حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وقد ساعدت عزلتها هذه، على تكون أنماط ثقافية ودينية واجتماعية تخص اليابانيين وحدهم. ومن أبرزها «ثقافة التفوق» التي يبررونها بمقولة «ما دام الامبراطور هو سليل الآلهة فهذا وحده كاف لتكون اليابان متفوقة على بقية الأمم والشعوب».
هذه النزعة وهذا الاعتقاد المتوارث، ولّد لدى اليابانيين روح المقاومة وروح الالتزم والجدية في العمل بهدف تحقيق انجازات تدعم هذا التفوق.
ولعل هذا ما يفسر اليابان عصية لم يدخلها محتل الا عند هزيمتها في الحرب العالمية الثانية بعد قصفها بالسلاح الذري من قبل الأمريكان.
ونزعة العنفوان وعدم الاستسلام أو التسليم بالأمر الواقع التي تقوم التربية اليابانية على أساسها حالت دون استخدام اليابانيين، شعبا وإعلاما وسياسة، أية مفردة من مفردات «تسليم أو استسلام أو جيش الاحتلال أو غيرها». بل كانت مفرداتهم تأخذ شكلا آخر مثل «انتهاء الحرب بدلا من التسليم والجيش المعسكر في القاعدة ا لأمامية بدلا من جيش الاحتلال»، وفي تلك الظروف الصعبة التي لم يعتد عليها الشعب الياباني أو امبراطوره، فقد تعاطوا جميعا مع هزيمتهم بعدم الخضوع، ومن ضمن كلمات الإمبراطور في تلك الأزمة قوله: «من الحكمة أن نتحمل ما لا يمكن احتماله، فإن ذلك أفضل من سفك المزيد من الدماء» فهو لم يذكر كلمة هزيمة. أن هذا التعاطي بروح المقاومة وعدم الرضوخ للأمر الواقع هو الذي ساعد اليابانيين وحفزهم على بناء نهضتهم. هذا بالإضافة إلى التربية اليابانية التي استيقظت مع ثورة التجديد في ديانة «الشنتو» مع الإمبراطور «ميجي 1867 1912م» حيث أيقظ اليابانيون خلالها الشعور الوطني فباتت ديانة «الشنتو» الوجه الآخر للوطنية اليابانية، فالقصر والمعبد أصبح لهما ذات الدلالة.
يضاف إلى ذلك قاعدة مهمة في المجتمع الياباني والتي استمدها من تعاليم «الشنتو» وهذه القاعدة تتمثل في الروح الجماعية التي تحكم قناعات الشعب وتتحكم بمسلكه. فالأنا غير موجودة في الثقافة الوطنية والفردية أمر مرفوض بل يصل إلى حد الأمر الشائن. لذلك فإن سعادة الفرد هي في انخراطه ضمن الجماعة، وهذا يخالف معظم الشعوب والثقافات التي تعزز نزعة الفردية والتمايز.
والشعب الياباني يؤمن اليوم بأن أي قرار يصدر يجب الا يصدر عن شخص واحد، مهما كانت قوة هذا الشخص وسلطانه، فالقرار كي يحظى بمباركة الشعب لا بد أن يصدر عن أغلبية وبعد مشورات جماعية، فالقرار بالإجماع هو هدف بحد ذاته حسب أعرافهم. هذا المنهج الجماعي ولّد انسجاما قوميا نادرا بين شعوب الأرض وعزز التعاون وتكامل الجهود مع المنافسة في الإطار العام.
واليابانيون عموما ليسوا متذمرين أو ساخطين على تماثلهم في الملبس والسلوك وطريقة العيش، بل حتى في تفكيرهم في معايير الجماعة. وهذا المنهج التربوي الجماعي الأبعاد يعتمده اليابانيون انطلاقا من مفاهيم «الشنتو» في إعداد أولادهم فالطفل ينشأ على تقبل الانخراط في جماعة ويتمرس على قبول سلطة المجتمع عليه ويخاف النبذ الاجتماعي والعزلة، فهي أقسى عقوبة قد يتعرض لها.
وهو بذلك متوحد بمجتمعه وأهله ووسطه الاجتماعي، وهذه دلالة حضارية أدت إلى أن اليابان على امتداد تاريخها الطويل لم تشهد حربا أهلية واحدة ولا تصدعا في وحدتها الوطنية حتى بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، واستطاعت خلال فترة وجيزة أن تكون في مصاف الدول المتقدمة والثقيلة في الحسابات الدولية.
إذن فاليابان أخذت من تراثها وأهملت، حددت ما يدعمها فأخذته وتقدمت به. وتركيا تنكرت لماضيها وأنكرت تراثها كله فتمزقت.
أما نحن فقد أخذنا تراثنا كاملا وأودعناه مخازن التاريخ. ومنذ نهاية عصر التدوين ونحن نسأل الأسئلة ذاتها ونجتر المقولات ذاتها ولا زلنا نفتش عن هويتنا وعن موقع خلفي لنا في قطار النظام العالمي الجديد.
|
|
|
|
|