| مقـالات
حين كنت مع المشاريع الفكرية والأدبية المغاربية وأعمال المفكرين والأدباء الغربيين المترجمة بوصفها مرجعية لبعض مجلوب المشارقة، وذلك في سبيل استكمال متطلبات القول عن «النقد الثقافي» الذي قد يطول ويتشعب، فوجئت بما كتبه الأخ الدكتور عبد الله بن محمد بن حميد في «الجزيرة 28/6/1422ه» وفي «الندوة 3/7/1422ه» من قول مقتضب ذي بعد حكائي، وعلى شكل منشور احتجاجي موزع على وسائل الاعلام، مستكملاً به ما دار في احدى فعاليات تكريم الأمير الشاعر عبد الله الفيصل، وكنت أتوقعه منذ ان انفض سامر الفعالية التي اشترك فيها الحميد بوصفه متحدثاً عن «الشعر الشعبي» للأمير عبد الله الفيصل، من خلال ديوانه النبطي «مشاعري» وفي اطار الملتقى النقدي الذي نفذ على هامش تكريم دار سعاد الصباح لسموه. وكنت أحد المشاركين والدارسين لجانب من شعره الفصيح من خلال ديوانه «وحي الحرمان» و«حديث قلب».
ولما كنت بالصدفة من حضور الجلسة النقدية العامية، فقد فوجئت بالدكتور عبد الله الحميد يستهل حديثه بحملة تأنيبية لخصوم الشعر الشعبي، ممارساً اعتراضه بأسلوب مستخف، متوسلاً بمكانة المدروس وبمن حوله من الأبناء والأحفاد. ولربما كنت الوحيد من بين الحاضرين الذين تصيبهم دائرة تلك الحملة غير المبررة، ولم يكن بد من قمع هذا التطاول، ورد المتحدث الى موضوعه، دون ان ينال من فرصته خيراً.. فالموقف الاحتفائي لا يتسع للمناكفات، وليس من اللائق النيل من خصوم العامية في احتفالية فرح وتقدير، وفي ظل هذا التعدي كان من حقي بل من واجبي ان ألملم أشلاء السمعة التي تعمد بعثرتها، وألا أمكنه من التشفي في ظل مناسبة تستقطب علية القوم وكبار الأدباء والمفكرين، ولما اكن البادىء ومع انه البادىء فقد ضاق ذرعاً بالدفاع المشروع، ولم يحتمل رد الكرة الى شباكه، لاقتناعه بمشروعية اشتغال اساتذة اللغة العربية بالعاميات المحلية، ولعدم تعوده على مقارعة الحجة بالحجة في سبيل البحث عن الحق. لقد توترت أعصابه وانتابه الاضطراب والانفعال، حتى لقد حرصت على ان يتاح له الحديث، ولكن رئيسي الجلستين الأستاذ الدكتور عبد الله العثيمين، والأستاذ الدكتور محمد مريسي الحارثي استمعا لقولينا، ولم يكن في رغبة أحدهما امتداد الحديث، فالحميد وجه نقده لأنصار الفصحى، والهويمل رد النقد على أنصار العامية، وما بعد هذا يعد في نظريهما على الأقل من فضول القول، غير انه لم يحتمل هذا القرار، ووصف منعهما له من الرد بالظلم والقهر، لأنهما لم يرعيا مكانته العلمية والاجتماعية على حد قوله ومن ثم كظم غيظه. والأمر لم ينته عند هذا الحد بل طارد الأخوين: العثيمين والحارثي في أبهاء الفندق، واتهمهما برده عن حقه، وحاولنا جميعاً اقناعه، وافهامه ان الأمر لا يحتمل كل هذا الانفعال، ولا يتسع لكلمات الثورة والغضب والقهر والظلم وكظم الغيظ وجهل المكانة العلمية والاجتماعية مما أعاده في منشوره الذي وزعه على الصحف، ويعلم الله انني كنت أحرص الناس على ان يتخفف بالرد، فما كنت لأخاف من قول يقوله، وقد تلقيت من غيره من البذاءات والاساءات عبر الصحف والمجلات والمنتديات وعلى مدى عشرين عاماً ما لا يمكن تصوره، ولكن الأمر جاء على ما لم أرد، وكنت أظنه قادراً على احتمال تداول الرأي وتحرير المسائل التي بدأها.
ولما لم يزل الحدث يأكل معه ويشرب، فيما نسيته مع ما نسيت من سجالات حول قضايا الحداثة والمعاصرة والبنيوية والعامية وألوان المناهج النقدية، فقد وجد التخلص من معاناته بذلك المنشور الذي كان من الممكن المرور به دون اكتراث، لولا انه من أكاديمي يُشَرْعِنُ للعامية من خلال التأصيل للشعر العامي عبر دراساته التي يتابع نشرها، ويعد بإصدارها، ولأنه وصف مداخلتي بالغضب والثورة والحدة، ولأنه مارس الفوقية والتعليمية في توجيهه، ولأنه وقع في مغالطات لا يمكن السكوت عليها. وبما انه لم يكن لدي متسع من الوقت لبسط القول، وتفصيل ما حدث، ومع ان قول كل منا موثق بالصوت والصورة، فانني سأصرف أطرافاً من الحديث الموجز عن الحدث الى المشروع العامي وشرعنة الفكر العامي الذي تأتي ممارسات الحميد طرفاً فيه، مستدركا بما يلي:
أولاً: جاء تعليقي الهادىء في نظري دفاعاً عن أنصار اللغة العربية، وأنا منهم، ولم أكن اتصور انه قصدني، بل أكاد أجزم انه لم يقصدني بالذات، فهو لم يذكر اسمي، ولم يتوقع حضوري، ولكنه نال ممن اتخندق معهم، وأشاطرهم همهم، وقد سخر منهم، وأمعن في تخطئتهم، في سبيل تأكيد مشروعية فعله.
ثانياً: حاولت هنا وفي المداخلة تصحيح أخطاء وقع فيها، تمس معرفته وتصوره.
فأما خطؤه المعرفي: فقوله لا خطر على الفصحى ولا على الشعر الفصيح من الشعر العامي، وذلك ان اللغة محفوظة بحفظ القرآن الكريم، والله قد تكفل بحفظه، فاللغة محفوظة بذلك، وتلك مقولة اهترأت من الاجترار، وسئمنا من تكرار القول عن خطأ الاحالة على مدلولها والتوسل بها لتطمين المتوجسين خيفة من تفشي العامية، وفي هذا الفهم خطأ واضح، ما كان له ان يكون من أستاذ جامعي، فالحفظ واقع على اللغة تبعا لحفظ الذكر الحكيم، وليس حفظاً للناطقين بها. ومن ثم فان استفحال العامية ومناصرتها واتاحة الفرصة لها كي تكون لغة أدب وفكر بفعل الذين يشتغلون بالشعر العامي دراسة وشرعنة، وبخاصة ممن درسوا العربية وآدابها، وحملوا أعلى الشهادات، ثم اشتغلوا بالعامية، ومنهم الدكتور عبد الله الحميد بوصفه أستاذاً جامعياً يقترف دراسة الشعر العامي بآليات الفصيح، هذا الفعل وذلك الاستفحال سيحولان الامة الى عرب بالنسب لا باللغة، وقد نحتاج بعد أمة الى من يترجم لنا معاني القرآن الكريم الى عاميتنا التي قعَّدنا لها، وجعلنا منها لغة أدب وفكر بفعل الكفاءات الجامعية ممن يفترض فيهم اشاعة اللغة الفصيحة وخدمتها لا استدبارها والاشتغال بالعامية، مثلما يفعل صاحبنا، مدعياً غيرته على لغة القرآن، وهي غيرة كمونية، يناقضها فعله الظاهر.
وتأثير اللحن على الفصحى وتفشيه حفز العلماء منذ القرن الثاني على التدوين والتقعيد والتعليم وتحديد زمن الاحتجاج، واضطر الخلفاء والكبراء الى اخراج ابنائهم الى البادية للمحافظة على فصاحتهم، ومن قبل اولئك جميعا المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي قال: «وتربيت في بني سعد» ايماء الى فصاحته واليوم وبعد تحديث مناهج التعليم تنهض الدول العربية كافة بتدريس نظام اللغة الفصحى المتمثل بالنحو والصرف وتقريبها لهم بالنصوص وتعويدهم النطق والكتابة بالمطالعة والتعبير، وكل ذلك لوقاية ابنائها من اللحن، وحمايتهم من العامية التي يمارس تأصيلها من يمارسون اعمالهم النقدية من خلالها، ولو لم يكن هناك فساد في اللسان لما اضطرت الأمة الى تعليم اللغة العربية لأبنائها في سبيل محاولة جادة ومضنية لعودة الأمة الى لغتها لغة القرآن المحفوظة بحفظ القرآن، فالضياع واقع علينا، ونحن نعمقه ونشرعنه باشتغالنا بأبرز مجالات العامية وهو «الشعر العامي» وباصدار المجلات الشعبية وحشد الطاقات للاشتغال بالعامية عبر مظاهرها، والشعر العامي من أبرز مظاهرها. وأرجو ان يفهم الدكتور مقاصد آية الحفظ، وانه ليس للانسان العربي الذي عق لغته، وفرط فيها بالاحتفاء بالعامية، وكنت أود من مثله، وهو الاستاذ الجامعي ان يعرف مجال الحفظ وموطن الشاهد واسلوب الاستنباط. وقد قلت في ردي الذي أثاره، وكشف عن فهمه الخاطىء: ان الهنود والباكستانيين أسهموا في تعلمنا ترتيل القرآن وتجويده، ولم تنفع طائفة منا عروبة الأرومة مع التفريط باللغة. والجناية التي لا تغتفر تحول حماة الفصحى الى مناصرين للعامية، وذلك بالاشتغال النقدي في نص عامي لا ضابط له، وسواء كان النص لأمير او وزير او سوقي، وتخويف الدكتور لنا بأنه يشتغل بنص للأمير تخويف لا محل له، فالموقف ليس من الشاعر وموهبته وانما هو من الشعر، ولا يتبدل بتبدل الأشخاص، وكان عليه ان يتوسل في تقربه بمشروع الأمير خالد الفيصل المتمثل بحرصه على اشاعة الفصحى في أوساط المعلمين والمتعلمين والزامه بتطبيق النطق بها في المدارس والقاعات، وهو مشروع لم يسبق اليه، ومع أهميته فقد استدبره الأخ الحميد، واشتغل بالعامية. وشاعرية الأمير لا خلاف حولها، ولا احسب سموه يود ان يفرغ اساتذة الجامعات لدراسة ابداعه العامي، كما انه لا يود ان يقدم للمشاهد الفكرية بوصفه شاعراً عامياً، وهو رائد مؤسسة الفكر العربي ورائد مشروع المحادثة بالفصيح وشعره العامي ليس مشروعا، بل هو ابداع يفضي به لمن يطربه الشعر العامي ويفهم العامية، ونحن منهم، والدخول بالشعر العامي الى سدة الفصحى انتقال به من محيطه الطبعي ومن ذويه الذين يفهمونه بالسليقة الى آخرين لا يجدون لذة السماع له الا بالصوت العامي وبالرسم العامي وبالتقريب العامي، وممارسة الحميد تشكل تراكمات من الأخطاء والتجاوزات والاساءات، كنت أود لو عرفها، ولم يحتج الى من يعرفه بها، وقد سمع من غيري كلاماً موجعاً، حمله على التوقف عن نشر دراسته العامية، او انه أكره على التوقف، واذا كانت دراساته تلك بحوث ترقية ولا احسب ناصحا لله ولقرآنه يقبل بها فان الجامعة التي ينتمي اليها تسن سنة سيئة.
ولست أشك انه مما يسوء الأمير خالد الفيصل حصر فعالياته واسهاماته بالشعر العامي وتقديمه في المشاهد الفكرية بوصفه شاعراً عامياً، في حين تكمن عظمته في مواقف متعددة أشرت الى طائفة منها. والأمير خالد الفيصل يملؤني اعجاباً واكباراً ومن أعز الناس عندي، وهو يعرف موقفي من الشعر الشعبي، ولا أحسبه يستاء من ذلك، وأثق تماما انه يتفق معي. وموقفه المشرف من الفصحى ينسجم مع موقفي، وممارسة الدكتور عبد الله الحميّد مخالفة لموقف الأمير خالد الفيصل، وان تزلف بدراساته النقدية، وبالغ في وصف شعر الأمير، بقوله «لم تستخرج حتى الآن من كنوزه ودرره وجواهره الا اليسيراليسير لأنه كالبحر الغزير المتلاطم الذي لا يدرك ساحله»، وفات الدكتور اننا في مجال جدل معرفي اكاديمي، لا تجوز معه المجازفات في المدح المتزلف، الأمر الذي يضطرنا الى حثو الاحبار في وجهه أملاً في ان يتحسس موقعه المعرفي ورسالته العلمية. وما قلته من تعليق في منتدى التكريم الممتلىء بالأمراء والأدباء والمفكرين لا يعد مساساً بأدبيات هذا المحفل، فهو قول علمي وفي سبيل الحق «والمجمع الاحتفالي الذي له وزنه واحترامه» لم يسأ اليه مما قلته، وكيف يساء اليه بقول ينتصر للحق، ويدافع عن حوزة اللغة، ولست بهذه السن وبتلك التجارب بحاجة الى من يعلمني أدبيات مجالس علية القوم، انني احترم نفسي وأعرف أدبيات المجالس وأوزانها، ويؤسفني جر الموضوع الى أدبيات المجالس والغضب والعنف والثورة، وكان الأجدر قصره على جدله العلمي المعرفي.
وأما خطؤه التصوري لموقفي المتمثل بدعوى منعي للشعر الشعبي ومنع الشعراء من ابداعه ومنع العامة من سماعه وتذوقه وسخريته بقوله: «ولا يمكن بأي حال من الأحوال الغاؤه او تهميشه بجرة قلم من الدكتور الهويمل أو من غيره». فالحق انني لا أمنع الشعر الشعبي ابداعاً وانشاداً وإطراباً وتذوقاً، ولا أجهل مضامينه ومشروعية الاستمتاع بنوادره وعيونه، وأنا ابن العامية، اسمعه وقد أتمثل به، وأطرب له، وأتذوق الجيد منه، ولكني لا اسمو به الى أروقة الجامعات، ولا أتدنى بآليات اللغة والنقد اليه، وموقفي منه يتمثل بضرورة محاصرته في مجاله الشفهي العامي، وعدم التخطي به إلى مجالات الفصاحة، وعدم تناوله بالدرس النقدي بآليات اللغة الفصيحة ومناهج النقد الأدبي من قبل حماة اللغة العربية، لأن في ذلك شرعنة له وتمكيناً للازدواج اللغوي الذي يعتبر من أخطر الممارسات على الأمة. فالازدواج اللغوي يعني ان تكون العامية لغة فكر وأدب بإزاء الفصحى، وان تدخل قاعات المحاضرات في الجامعات. وهذا ما يمارسه الأخ الحميّد، فهو أستاذ جامعي متخصص في علوم اللغة العربية، والأدب العربي القديم، ومنهج الأدب الاسلامي يدرُسه ويدرِّسه لطلابه على حد قوله. واشتغاله بلغة عامية، وسحبها من المجتمع الى الجامعة جناية لا تغتفر ومناقضة للتخصص. واذا كانت الجامعات تحارب العامية، بتعليم ابنائها اللغة الفصيحة فان ممارسة اساتذة الجامعات لدراسة العامية بآليات الأدب الفصيح مخالفة واضحة لأهداف الجامعات التي هي بالضرورة اهداف الدولة، وكيف نتخطى بالعامية الى حصون اللغة، ثم نقول: بأننا مع الدولة في محاربة العامية ومع الغيورين على الفصيح. ولو ان المشتغل بالشعر الشعبي من المتخصصين بالاجتماعيات او بالتاريخ لقلنا: انه يبحث عن مضامين اجتماعية او تاريخية. اما استاذ اللغة العربية فانه يشتغل بلغة النص، وهي عامية. وتلك قاصمة لا يعصم منها الا المواجهة، وخطأ الدكتور انه لم يفرق بين الاعجاب والطرب والدراسة، فأنا أعجب وأطرب ولكني امارس ذلك خارج تخصصي، أما حين أكتب أو أحاضر أو أنقد أو أؤلف أو أمارس مهمات الأستاذ الجامعي المتخصص باللغة العربية فانني أتلبس بتخصي، ولا اناقض نفسي. وتعاملي مع العامية اضطرار لا اختيار، وشفهي لا تحريري، واستماع لا إسماع، واستمتاع لا تعلُّم ولا تعليم. واذا كان من مصلحة الدكتور العاجلة ان يقدم بين يدي نجواه صدقة الدرس لعاميات الكبراء فليفعل، ولكن عليه ألا يجعل المنافحين عن حوزة اللغة جسوراً يعبر من فوقها الى مآربه، كان عليه ان يباشر الدراسة والنقد دون النيل من انصار الفصيح، اما وقد نال منهم، وسخر بهم، وحط من قدرهم، وصوَّب فعله في المجمع الاحتفالي الذي له وزنه واحترامه، فان من حقي ان ابدي رأيي في ذلك المجمع الاحتفالي، وليس في ذلك تجاوز مني، وليس فيه اساءة، بل القول عند المجمع الاحتفالي من كلمات الحق التي لا يجرؤ هو وأمثاله على قولها، واذا كان يشعر بالدونية في هذا المجمع فانني أتمتع بالندية، فكلنا سواسية كأسنان المشط. وتكسير البيض والبطيخ الذي أحاله الدكتور الى الدعابة، قلته على حقيقته، وليس من باب الدعابة، فالدكتور بنيله المتعمد من أنصار الفصحى لا يقل اساءة عن تكسير البيض على الرؤوس.
لقد تحدث غيره عن الشعر العامي ممن كانوا عن يمينه وشماله، ومع انني لا أتفق معهم الا انهم احترموا خصومهم، ولم ينالوا منهم على مسمع ومرأى من المجمع الاحتفالي حسب تنبيه الدكتور وتذكيره بمتطلبات هذا المجمع، والمحفل الذي له وزنه يعي اللعبة، ويدرك منطوياتها، ويعرف المتحدث من لحن القول، ولأنني لم أشأ تعكير صفو المناسبة السعيدة فقد اكتفيت برد الكرة الى مرماه دون غضب او ثورة أو صخب.
لقد أحسست ان الدكتور بانفعاله وتأثره ولومه للأخوين العثيمين والحارثي لم يكن قد جرب الحوار والأخذ والرد، فما قلت يقع في اطار الحوار المشروع، وما زال اتهامي له قائماً، وما زلت أضرب المثل بما تنفقه الدولة من المليارات لتعليم اللغة العربية في المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية والجامعية، وفعله هذا مواجهة صريحة لمشروع الدولة علم ذلك أم جهله، قصده أم لم يقصده، اذ الأمور بمآلاتها، ولم أبعد النجعة كما يقول، ولم أزعم، والزعم مطية الكذب. فالأستاذ الجامعي المتخصص في اللغة العربية والمؤتمن على تعليمها واشاعتها حين يدع تخصصه العربي ليشتغل بالعامية يعد مخلاً بالمصداقية والأمانة مواجهاً لمشروع الدولة.
والدكتور في منشوره يعتقد انني سوف أرفع راية الاستسلام أمام العمالقة من الشعراء العاميين، وأحب ان أؤكد له خيبة أمله، اذ لم يحن بعد رفع راية الاستسلام أمام هؤلاء العمالقة من الشعراء الذين ضرب بهم المثل، واعتقاده الاستسلام أحلام يقظة. وان كان يسألني عن هؤلاء العمالقة مثل خالد الفيصل ومحمد السديري وابن لعبون والقاضي والعوني وابن سبيل والهزاني فانني قد أجبت على سؤاله في كتابي «الابداع الأمي: المحظور والمباح» الذي نشر تباعاً في ملحق «الاربعاء» على شكل مقالات، أعجب بها المتابعون، وأعادوا نشر بعضها في صحف ومجلات أخرى.
والدكتور يمتد خلل فهمه الى الخلط بين «الموهبة والوسيلة» اذ اختلافي حول الوسيلة، وهي اللغة، أما الموهبة فلا خلاف حولها، والشعراء العاميون الموهوبون يبدعون قصائد عامية جيدة، ولا خلاف حول براعة الابداع، ولا على جودة المضامين عند بعضهم، الخلاف حول لغة الابداع، اذ هي عامية سواء قال بها كبير او صغير. وكل الذي أتمناه ان يكون الدكتور قد فهم موقفي من الشعر العامي. وتصور الفرق بيني وبينه، فأنا كغيري اسمع وأطرب، ليس الا، أما هو فيشتغل بالابداع العامي من خلال لغته. واتهامي بالغضب والثورة والصخب ان كان قد حصل فهو من أجل لغة القرآن ووحدة الأمة، ولم يكن تزلفاً ولا استرضاء للآخرين ممن أبادلهم الاحترام رغم اختلافي مع بعضهم فالرجال لا يرضيهم المدح وان قبلوه، والمعهود فيهم احترام أصحاب المواقف.
وقبل رفع القلم وتجفيف منابع الاشكالية أود ان يجيب الدكتور الحميّد على التساؤل عن طبيعة فعله: هل هو مناصرة للعربية او للعامية، او هو جنس ثالث؟ وهو في فعله هذا: هل يعد فعلاً عامياً او فعلاً عربياً؟ والمشروع العامي الذي تمتد جذوره منذ المناديب الاستعماريين الى الآن، من منا يتهم بالانتماء اليه أنا أم هو؟ مجرد سؤال. وسؤال ثان: أليس هناك صراع بين العامية والفصحى، فأين موقعنا في جبهتي الصراع؟ وسؤاله الاستنكاري : لماذا افرض نفسي وصياً على أذواق الناس؟ مؤشر جهل ذريع، فهو بتساؤله لا يفرق بين منع التذوق ومواجهة المشروع العامي. والدفاع عن الفصحى ومواجهة العامية لا يكون وصاية على الذوائق، على ان ذوائقنا ليست سليمة، ومرد عطبها فساد ألسنتنا الذي تسعى مناهجنا لعلاجه، ويسعى المشتغلون بالعامية لبقائه. وبعد: ثق أنني أمتلىء بالود والاحترام وأتطلع الى مزيد من الحوار.
|
|
|
|
|