| مقـالات
تحدثت في مقالة سابقة عن ظاهرة لجوء قلة من المؤلفين الى اغفال ثبْت تواريخ نشر كتبهم، طمعا من جانبهم في ابقائها في دائرة «الجديد» لأغراض مادية، استهلاكية. وقد اوردت بعضا من تبعات هذا النهج غير السوي علميا، من ضمنها احتمالية ان يصبح المنجز الانساني علميا ومعرفيا عرضة لاختلاط حابل ما تم نقضه بنابل ما تم اثباته، مما يؤكد بالتالي أهمية «تاريخ النشر» بوصفه معيارا لتمييز قِدَم المعلومة من حداثتها، وصحتها من خطئها، فضلا عن كونه ضمانا لتناسب الأشياء مع ظروف الزمان والمكان والانسان.
وبالاضافة الى هذه الآفة، فثمة آفات «تأليفية» أخرى، من ضمنها ما يتمثل في «انتفاخ» بنط حروف الكتاب بطريقة غير طبيعية، وغني عن القول ان ثمة مقاييس علمية محددة «للبنط»، اعتمادا على نوعية المادة المؤلفة سواء أكانت كتابا، أم مجلة علمية محكمة، أم رسالة أكاديمية عليا..، ورغم ذلك فانك تجد من المؤلفين من هو مصاب بهذا الداء الهرموني، «فينفخ» البنط الي ان تنتفخ «الأوداج» الى المقاس السطحي! غير المناسب.. والغرض من ذلك بالتأكيد لا يفوت ادراك القارىء الحصيف، حيث ان الهدف الرئيس من عملية «التسمين» هذه، مثلها مثل اغفال تاريخ النشر، لا يتعدى «النفخ للنفخ والمادة» فالمسألة تبدو عملية تجارية بحتة، والكمية لا النوعية هي المحك والمعيار، فلا فرق هنا بين «تسمين» الدجاج هرمونيا وتسمين هذه الكتب «بنطيا».
كذلك فلا شك في ان هذه الكتب مثل الدجاج المسمن هرمونيا ضارة للغاية صحيا، فقد تصيب القارىء «بانفلونزا الفكر»، مثلما يصاب آكل الدجاج المسمن هرمونيا بأمراض عدة، أقلها «انفلونزا الدجاج»، وفي حالة كهذه فمن الواجب ان يتم ايكال المسؤولية عن هذه النوعية من الكتب مثلها مثل المطاعم إلى البلديات اذ لا فرق هنا بين التسمم الغذائي والتسمم الفكري، او ان يكون مصيرها مصير الدجاج الهرموني، فيتم اعدامها حرقا، من حيث ان التوعك الفكري لأسباب هرمونية أخطر من ان يهمل، فالمسألة هنا تتعدى «أبو طبيلة» وان كانت هذه النوعية من الكتب مصابة اصلا «بأبو طبيلة»، بدليل انه ما ان تكاد تمسها يدك الا ويتساقط «ريشها»..، أقصد تتساقط أوراقها تساقط ريش الدجاج حينما يصاب بطيب الذكر «أبوطبيلة».
ولا جدال في ان مثل هذا الولع «بالكمية» له جذور ثقافية نفسية. فقد يكون نوعا من الولع المرضي المعروف ب(فيتشزم Fetishism).. وعلى كل فالتركيز على الكمية لا النوعية، هو ديدن مسلمي عصور الانحطاط، حسب التسمية التي أطلقها المفكر مالك ابن نبي، رحمه الله، على مسلمي العصور المتأخرة، حيث أضحت قيمة الاشياء بكميتها.. فالمهم، كما هو «معنى» قول ابن نبي.. ان يصبح بحر العلم غزيرا، بغض النظر عما اذا كانت مياه هذا البحر الغزيرة ملوثة.. آسنة.. او سطحية لا عمق لها.. اما النتيجة؟! فالنتيجة «نواتج» لا تسر البتة، من ضمنها وفقا لهذا المفكر العظيم، فقدان العلم لدوره الاجتماعي التطبيقي، اذ ان الكمية قد افقدته النوعية، مما افقده بالتالي معناه..(يتبع)
هامش:
انظر: مالك بن نبي. مشكلات الحضارة: وجهة العالم الاسلامي، «ترجمة : عبد الصبور شاهين»، دار الفكر: دمشق، ص 76، 1986م.
|
|
|
|
|