بعد ليل طويل دامس لفّ شبه الجزيرة العربية ذاقت فيه البلاد والعباد مرارة فقدان الأمن وتجرعت فيه ألوان الظلم والقهر والهوان، بدأت تباشير الصباح تلوح في الأفق معلنة ميلاد عهدٍ جديدٍ، عهد أمن وأمان وسلامة وإسلام.
لقد تدارك الله تعالى عباده في هذه البلاد برحمته ولطفه فأبدلهم بالخوف أمناً وبالفرقة والشتات توحداً واجتماعاً قيض لهم من يلم شعثهم ويوحد كلمتهم ويحكّم فيهم شرع ربهم يعلي بالحق رايتهم، ذلكم هو موحد البلاد ورافع لواء الإسلام، الرجل الصالح والملك العادل عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود صقر الجزيرة رحمه الله وطيب ثراه.
لقد شاءت ارادة الله تعالى برحمته وحكمته ولطفه ان يجعل هذا الرجل الصالح مفتاح خير للأمة الإسلامية عامة ولهذه البلاد السعودية المباركة خاصة حيث استجاب بفضله وكرمه لدعاء الداعين وتضرع المتضرعين من حجاج ومعتمرين بأن يعيد الأمن والأمان والراحة والاطمئنان إلى ربوع هذه البلاد الطيبة الطاهرة المقدسة، فقيض لهم بفضله ومنّه ورحمته ولطفه من عباده الصالحين من يحقق أمنيتهم بعد ان كاد اليأس يبلغ فيهم مداه فكان الملك عبدالعزيز آل سعود صقر الجزيرة، ومعجزة القرن العشرين.
يقول أحمد شوقي مصوراً حالة تلك البلاد قبل توحيدها على يد الملك الراحل عبدالعزيز آل سعود:
رب الجزيرة أدركها فقد عبثت
بها الذئاب وضل الراعي الغنمُ
ان الذين تولوا امرها ظلموا
والظلم تصحبه الأهوال والظُّلَمُ
في كل يوم قتال تقشعرُّ له
وفتنة في ربوع الله تضطرمُ
لقد كان الملك عبدالعزيز رجلاً صالحاً، سار على منهج أهل السنة والجماعة، أراد الرفعة والرقي لبلاده من غير إخلال بالعقيدة، بل نجده يشدد على التمسك بالعقيدة وأمور الشريعة فهو يقول رحمه الله في هذا الجانب:
«تفهمون ان جل مقاصدنا اظهار دين الله واتباع طريقة السلف الصالح على ما كان في كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام».
ويؤكد رحمه الله على التمسك بالشرع قائلاً «إن أفضل البقاع بقاع يقام فيها شرع الله، وأفضل الناس من اتبع أمر الله وعمل به».
كما أكد رحمه الله عقيدة البلاد ومذهب هذه البلاد قائلاً: «هذه عقيدتنا في الكتب التي بين أيديكم، فإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فمردنا إليه، أما أحكامنا فنسير فيها طبق اجتهاد الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله».
يقول أحمد عبدالغفور عطار في كتابه (صقر الجزيرة): «ولم يبلغ الملك عبدالعزيز رحمه الله ما بلغ إلا بالنية الطيبة والعمل الصالح وتوحيد الرحمن وإخلاص العبادة له».
ولم يكن الأمن في شبه الجزيرة العربية وخاصة في الديار المقدسة سائداً آنذاك قبل توحيد المملكة العربية السعودية على يد الملك عبدالعزيز آل سعود، بل كان السلب والنهب والقتل من أبرز مظاهر تلك الحقبة من الزمن إذ كانت الجزيرة العربية وخاصة منطقة نجد إمارات ومشيخات متناحرة تسودها الفوضى وعدم الاستقرار، لا يأمن الناس فيها على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم لكثرة السلب والنهب والسرقة وقطع الطرق ولم تكن الديار المقدسة بمنأى عن ذلك بل كانت أشد وطأة لاستغلال الوافدين إلى الحجاز وإلى مكة والمدينة من الحجاج والمعتمرين وما يتعرض له هؤلاء من سطو قطاع الطريق وسلب ما في حيازتهم من أموال وأمتعة.
ولكن بعد ان منّ الله على هذه البلاد الواسعة بهذا الرجل الصالح الملك عبدالعزيز آل سعود الذي صرف جل اهتماماته بمسألة الأمن ورفاهية المواطن، فعقد العزم على توفير كل ذلك في أرجاء البلاد، يلاحظ ذلك من خلال رسائله رحمه الله منذ توحيد البلاد حيث جعل مسألة الأمن أول أهدافه وعمل على تحقيقها يتضح ذلك من خلال كلامه رحمه الله الذي يقول فيه:
«إخواني: تفهمون اني بذلت جهدي وما تحت يدي في تخليص الحجاز لراحة أهله وأمن الوافدين إليه».
ولقد استشرف رحمه الله المستقبل وزف البشرى لأهل الحجاز بقوله: «واني أبشركم بحوله وقوته ان بلد الله الحرام في اقبال وخير وأمن وراحة وانني إن شاء الله تعالى سأبذل جهدي فيما يؤمن البلاد المقدسة ويجلب الراحة والاطمئنان لها».
ومن الأسباب التي ساعدت الملك عبدالعزيز على توحيد البلاد وتحقيق الأمن فيها بعد توفيق الله له هو تطبيقه لأحكام الشريعة الإسلامية تطبيقاً كاملاً لا استثناء فيه على جميع أرجاء المملكة، ولم يكن تطبيق الشريعة عند الملك عبدالعزيز شعاراً يرفعه في المناسبات وقولاً يردده في المجالس، بل كان منهجاً سعى بحزم على حمل رعيته عليه.
كذلك رؤيته الثاقبة بأن الأمن لا يمكن له الاستتباب في هذه البلاد ما لم يتم اصلاح شؤون البادية فأرسل لهم الدعاة والمرشدين لقصد تعليمهم أمور دينهم، يقول محمد أسد في ذلك: «وأرسل الملك المعلمين الدينيين يفقهون البدو في الدين ويبشرون بالفكرة الجديدة التي لاقت نجاحاً لم يكن يتوقعه لها أحد».
ومن ذلك إشهاره السيف في وجه العصاة والمخالفين من أهل البادية بقصد اخضاعهم وكسر شوكتهم.. كما لجأ رحمه الله إلى توطين البدو عن طريق بناء الهجر التي زودت بمقومات الحياة يعتمدون في معيشتهم على أنفسهم للحيلولة دون اللجوء إلى السلب والنهب وقطع الطريق وتعريض الناس للأخطار، فكانت تلك تجربة ناجحة خاضها الملك عبدالعزيز في بلاد نجد اثمرت انتشار الأمن في البادية والحاضرة وسهلت له تحقيق الأمن في ربوع البلاد حتى وصف ذلك بالمعجزة.
ولقد أكرم الله تعالى الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه وأقر عينيه بمشاهدة الأمن الذي جاهد من أجل تحقيقه، فبذرة الأمن التي بذرها في بداية عهده نمت في فترة وجيزة وغدت شجرة باسقة تظلل هذه الأرض المباركة، ويتفيأ ظلالها الحجاج والمعتمرون وكل من وطئت قدماه هذه الأرض الطيبة، ينعم هؤلاء جميعاً بنعمة الأمن والأمان.
وكان من كلام الملك عبدالعزيز رحمه الله المتلألئ الوضاء هذه الكلمات القليلة العدد الكبيرة المعنى.. يقول: «إنني وأسرتي وشعبي جند من جنود الله نسعى لخير المسلمين ولتأمين راحة الوافدين إلى بيت الله الحرام وأداء مناسكهم».
وكان من تمام نعمة الله على هذا الرجل الصالح أن رزقه الله أبناء بررة سلكوا مسلكه وترسموا خطاه، وشجرة الأمن التي زرعها والدهم كانت عهداً مقدساً يتوارثونه كابراً عن كابر، فتحقيق الأمن والمحافظة عليه كان هاجس الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه ولم ينتقل إلى جوار ربه حتى حقق الله أمنيته فرأى الأمن يظلل هذه الأرض المباركة وجاء بعده الملك سعود رحمه الله فحافظ على هذا الإرث المقدس، ثم تلاه الملك فيصل رحمه الله ثم الملك خالد رحمه الله فكانوا جميعاً رعاة للأمن الذي ورثوه، ثم جاء بعدهم خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود حفظه الله فكان كإخوانه الأبرار راعياً للأمن والأمان في هذه البلاد الطاهرة المباركة، يقول شكيب أرسلان وهو ممن عاصر الملك عبدالعزيز بعدما شاهد الأمن والأمان يسودان البلاد ونقل مشاهداته قائلاً: «أما الأمان فقد توافر في أيام ابن سعود إلى حد لا يتطلع فيه متطلع إلى مزيد وانما نرجو دوام هذه النعمة».
ويضيف قائلاً: «وانك لتجد هذه الأمن ممدود الرواق على جميع البلدان التي ارتفعت فيها راية ابن سعود، راية التوحيد ولو لم يكن من مآثر الحكم السعودي سوى هذه الأمنة الشاملة الوارفة الظلال على الأرواح والأموال التي جعلت صحارى الحجاز وفيافي نجد آمن من شوارع الحواضر الأوروبية، لكان ذلك كافياً في استجلاب القلوب إليه واستنطاق الألسن في الثناء عليه».
ويقول موريس جارنو: «إذا كان ابن سعود قد نجح في لمّ شعث الجزيرة العربية تحت لوائه، وإذا كان قد جعل من بلد مضطرب آهل بالعصابات، البلد الأكثر أمنا في العالم فمرد ذلك ليس للقوة والسيف فحسب، بل لأنه سكب في أعماق الأمة الناشئة أقوى عوامل التراص والتماسك، أي التقيد بأحكام القرآن، فالجرائم التي كانت ترتكب حالياً في المملكة العربية السعودية خلال عام كامل أقل مما يرتكب في باريس خلال يوم واحد، ويعود السبب في ذلك إلى ان الحياة كلها تسير بسرعة استتباب القرآن والقرآن مجموعة شرائع تحسبت لكل شيء».
رحم الله الملك عبدالعزيز وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.