| اليوم الوطني
الأول من الميزان، وكأنه بذلك يوحي إلى الحق والعدل.
فسبحان الذي جعل اليوم الذي توحدت فيه الجزيرة أول الميزان.. إيحاء بالعدل والواقع والقبول.. وليس للناس أثرٌ في المسميات إنها أزلية تعارف عليها القوم منذ القدم وفي تاريخنا المعاصر منذ ألف وثلاثمائة وثمانين عاماً هجرياً شمسياً وبرج الميزان اسمه الميزان.
قاد الملك عبدالعزيز مسيرة الفتح والتوحيد منذ قرن من الزمان وسعى جاهداً لتوحيد أمة وبناء مملكة.. لا يعرف الفتور والكلل كلما فتح باباً وولج، فتح الله له باباً آخر فولج.
وهكذا دواليك كان يسابق الزمن من أجل ضم الجزيرة وتوحيد أجزائها تحت راية واحدة وقد قلت عن ذلك في إحدى قصائدي:
بطل لم يثن يوماً عزمه
في بلوغ المجد عن كرٍّ وفر
ملك لما بدا الصبح له
سابق الصبح ووالى وانتصر
ملك لما تلقّى صعبها
قهر الصحراء واليوم العسر |
لم تتوقف عزيمته ولم تكل خيله ومطاياه ولم تثلم سيوفه.. إلى أن كان التوحيد، توحيد الجزيرة العربية من سيف الخليج إلى سيف البحر الأحمر ومن مطلع الجدي على جبال أجا وسلمى في شمالها إلى مطلع سهيل على جبال فيفا وجازان.
عرعر ترنو لنجران هوىً
ومن السيف إلى أقصى هجر
وإذا حائل ليلاً من أجا
شاهدت فيفا فقد طاب السمر
ذاك برج الجدي في قمته
وعلى فيفا سهيلٌ قد ظهر |
إنه العزم الذي ورث النصر بإذن الله. لم يكن نصراً تصنعه الأبواق ولكنه نصرٌ صنعته الأفعال، نصرٌ يسير شامخاً على أرض الواقع الواقع الذي يزهو بذاته زهو الفخر والعزة والمنعة.
ويوم أن كان التوحيد مطلباً له استجابت الأرض والتف أهلها حول الراية وانبثقت أنوار الهدى بعد أن عم الأمن وبدأ الإصلاح واهتدى الناس إلى سبيل الرشاد. وكان التوحيد في مخيلة الملك وقد تم تطبيقاً على الأرض قبل أن يتم تسميته.. كانت سلطنة نجد ومملكة الحجاز جزأين ملتحمين لكيان واحد قبل التسمية. لأنه رحمه الله أراد أن يكون الرأي للأمة. التطبيق الواقعي حصل واجتمعت البلاد وبقي الاسم يترك اختياره لقناعة الإنسان في أرض الوطن وهو يعلم رحمه الله أن نفوس الناس بدأ يصوغها الحب وتسودها المودة ويقارب بينها الرحم وتجمعها المصاهرة. اندثرت الفرقة والثأر والحمية القبلية والمنازعة الإقليمية منذ أن وحَّد رحمه الله الجزيرة ورفع راية التوحيد، راية الوحدة الكبرى.
وكأن الناس قد قرءوا ما في خاطره وما يدور في خلده وكأنه رحمه الله قرأ ما في نفوسهم وما يدور في خلدهم فاجتمع أهل الرأي دون أن يدعوهم أحد لذلك ورفعوا إليه يطلبون توحيد البلاد تحت المسمى الواحد. فاستجاب لذلك، وأصدر أمره في الأول من الميزان.. اليوم الذي شاء الله أن يكون رمزاً للوحدة فكان رمزاً خالداً من رموز الوحدة الكبرى.
اجتمعت الجزيرة وتوحدت بعد الشتات. واجتمعت الأمة وتصاهرت بعد القتال. وأمنت البلاد بعد النهب والسلب وتم تحكيم الشرع الإلهي بعد الثأر الذي لا يعرف عدلاً ولا تقنيناً وحوربت البدع.. وبدأت الاستقامة بعد الاعوجاج وانصرف الملك إلى البناء فكان التوطين في الهِجَر. والتعليم والدواء والزراعة وفتح الله عليه خزائن الأرض فأتت نتاجها طيباً ليشمل البلاد كلها وامتدت يد العطاء فكان عصره رحمه الله عصر توحيد وبناء وتأسيس وعطاء، وأعطى بلاده وأهلها حقهم ولم ينس حق الله فأمن الحجاج وأغدق على القادمين على بيت الله الحرام ومدينة خير الأنام واهتم بالمسجدين عناية فائقة وبالمشاعر فأسس بنيان الطرق والمواني والمطارات وكأنه يعلم أن نسيج اللحمة في تداخل وتقارب مستمر يسابق الزمن حتى أضحت البلاد اليوم وكأنها مدينة واحدة تتواصل أحياؤها وهي في الواقع قارة عامرة.
إن أساس الدولة والقيادة والريادة الذي بناه الملك العظيم رحمه الله بناه على أساس سليم فلما ورثة الأبناء البررة الأوفياء ساروا على النهج واستمروا على الطريق يذودون عن الراية ويحكِّمون الشرع ويفعِّلون العقل ويديرون الأمر بحكمة وروية فاستمرت المسيرة المعطاءة تؤتي ثمارها البانية ونتاجاتها اليانعة حتى سبقت هذه البلاد حضارياً الزمن وكأن الذي حدث ضربٌ من الخيال ففي نصف قرن من الزمان بعد وفاته رحمه الله قامت دولة قوية الدعائم متواصلة العزائم تبنى وتشيد وتواصل العطاء في مزيد حتى أصبحت اليوم في الصدارة بين دول العالم لها ثقلها تباهي بمكانتها ووزنها.. انتشر التعليم وتنوع فأصبحت الجامعات ثمان باسقات، والتف ملايين الطلاب والطالبات في مراحل التعليم المختلفة في يسر وعطاء مميز ووصل أبناء الوطن إلى الدرجات العليا من المكانة في قيادة بلادهم في كل الميادين يحملون أعلى الشهادات ويتصفون بالمعارف الزاهيات وليس ذلك مقتصراً على التعليم فحسب، بل في ميادين الطب والصناعة والزراعة وهندسة البناء بشتى أنواعها وتكنولوجيا العصر بكل أبعادها.. فهذه المصحات العالمية.. والمصانع الوطنية.. والمطارات الدولية.. والطرق البرية.. والمواني البحرية.. وتطورت مفاهيم الحياة لدى الناس فأصبحوا قدوة في المخبر والمظهر وتحول المجتمع إلى مجتمع يماثل أرقى المجتمعات حضارة وزاد على ذلك فحفظ الدين والعقل والتقاليد فكان مجتمعاً نشأ في ظل وحدة وبناء ووعي ورقي ولبس ذلك كله زيّاً يميزه عن سواه ويطاول به من تحداه حتى أصبح أبناؤه سفراء العلوم والمعارف والإرشاد في كل بقاع الأرض.
لقد سار أبناء الملك عبدالعزيز رحمه الله على نهجه وطريقته فأعملوا البناء حتى ارتقت البلاد كما أسلفنا ووصلت إلى ما وصلت إليه من تطور مذهل يُعدُّ من المعجزات.. بل أصبحت البلاد ترفل في خير ونعيم وفضل مقيم وأمن وأمان.. وعطاء وإتقان فلا يجد السائر في أرجائها سوى البناء العامر والخير الزاهر والأمن الوافر وهذا أعز مطلب موجود وأغلى شيء مفقود.
وإذا نظر العقلاء إلى هذه النهضة الزاهية والمظاهر الباهية أيقنوا أن الأساس المتين لهذا البناء الفريد. والتوجه الحكيم إلى هذا التوحيد. والعزم الصادق لدى الحكام النبلاء والإخلاص والوفاء لدى أبناء هذا الوطن المعطاء هو بعد فضل الله وتوفيقه السبب في ما وصلت إليه البلاد من خير ونعمة لا يضاهيه في زمانها وما حولها شيء أبداً.. فالسّير السّير على هذا النهج السليم..
فها هي البلاد في مسيرتها الناهضة الشاملة تسير إلى الأمام وترقى مدارج الإقدام بعزم أبنائها وتآلفهم وتآخيهم وترابطهم والتقاء المواطن بالحاكم والمتلقِّي بالعالم مما جعل الأمة جسداً واحداً لا تدب فيه فرقة ولا تشتته أهواء.
حفظ الله هذه البلاد وولاة أمرها وأهلها من كل سوء وأدام على الخير والعطاء والنماء سيرها وخُطاها ورحم الملك الموحِّد الذي أحسن العطاء وأشاد البناء رحمة الأبرار الصالحين.. إنه سميع مجيب.
أستاذ النقد بجامعة أم القرى.. فرع الطائف
|
|
|
|
|