| الاولــى
*
اليوم الوطني معلم من المعالم ذات المعنى العميق، يلتفت الناس فيه الى مصدر من مصادر تاريخهم المضيء، يسجل انتهاء حقبة سلفت، وبدء حقبة أقبلت، تتعلق الآمال فيها بالنجاح في كل حقل من حقول الحياة، وتبرز التنمية عملاقة في هذا المجال، يقارن ما مرَّ منها في عام بما يليه، مما يكون مدعاة للفخر بالانجاز إن كان، وبالتدارك لما قصر فيه إن لم يكن.
ويُتطلع فيه بأمل وطيد الى المستقبل، السلاح في الإقدام فيه للإنجاز الرغبة الأكيدة في دفع عجلة النمو، والاستفادة من التجربة، والغوص على درر إنجاز التقنية التي يلهث المرء اليوم لمتابعة تطورها، وإعجاز انجازها، وشموخها سلم المعرفة بكل جوانبها، بسرعة فائقة، وطرح باهر.
وقد قطعت المملكة شوطا بعيدا في سيرها نحو اللحاق بالأمم التي سبقتنا إلى تعميم التعليم، وارتفاع الدرجات في سُلّمه، وبلوغ الغاية فيه للوصول إلى اهداف طموحة، ورؤى بعيدة.
وقطعت مسافة واسعة وبعيدة في مجال الصحة، ورعاية الفئات المختلفة في المجتمع، وأبعدت في نجاح البحوث ومراكزها، وحظيت بقسط وافر من ايجاد المناعة الصحية في المجتمع، وعينها في الوقت نفسه على أمور العلاج والادوية، ودرجت المملكة في طريق الرعاية الاجتماعية، والامور المالية والاقتصادية ووصلت في كل هذا إلى محطات على الطريق هي راضية عن نفسها في الوصول إليها، في ضوء ما في الحياة من عراقيل وصعوبات، تحدّتها بجهد الواثق، وبعزم المؤمن.
للمملكة العربية السعودية منهج ثابت لم تحِد عنه، ولم تَسْتَبدلْه بغيره، ولم تهتز إرادتها تجاهه. لقد جرّبته سنين طويلة، وحقب عديدة، فحمدت نتيجة هذه التجربة، وزادها مرور الوقت، وصحة الخطو، ثباتاً، من أبرز جوانب هذا المنهج سيرها في ضوء الدين الاسلامي الحنيف، وإصرارها على ان تكون كل خطوة تخطوها ثابتة في ظل تعاليم القرآن الكريم والسُنّة المحمدية الشريفة، والدين الاسلامي خير نظام، وخير هادٍ إلى الهدف النبيل في الطريق المستقيم.
حرص الملك عبد العزيز رحمه الله منذ أن بدأ خطوه لتوحيد المملكة أن يكون الدين الاسلامي هو حاكمه، وفي ظل هديه يسير. أرسى قواعد الحكم على هذا الأساس، وأقبل يبني جوانب المجتمع، وهو واثق من أن الطريق الذي اختاره هو الطرق الأوحد الموصل الى خيري الدنيا والآخرة.
كانت أجزاء المملكة المتباعدة الأطراف متباعدة بأناسها وكانت تعمها الفوضى والتنازع والتطاحن، وهو ابن البيئة، ويعرف دواءها لما يرى من دائها الماثل أمامه. وكان لابد له من امتشاق الحسام، لإيقاف التطاحن القائم حينئذ، والذي جاء نتيجة عدم وجود قيادة يمكن أن يعترف بها على أسس يقبلها المجتمع حينئذ، وهو مجتمع مَرَّ بظروف قاسية شكلته بصورة كان لا بد من إحلال خيرٍ منها محلها. وما إن بدأ السير في خطة توحيد الأجزاء المتعددة المتنافرة، وهو في كسب نصر إثر نصر، وما كان عدم نجاحه في معركة، لم تكن استعداداته لها متكاملة، أو أن خطأً في حساباته أوجد الخلل، أو أن ظرفاً غير متوقع برز أمامه في وقت لم يكن بإمكانه التغلب على الصعوبة فيه، لم يكن ذلك ليُثني عزمه، أو يثبط همّته، بل كان ينظر إلى ذلك أنه جزء من تجربة الكفاح، ودرس يفيد فيما هو آت، وسرعان ما انتهى دور السيف والبندق، وبدأ دور الاصلاح، والبناء. استجمع رحمه الله قوته بعد أن أزاح عن كتفه عبء المعارك والاستعداد لها، ومعاناة لظاها، ومكابدة نفقاتها، وهم مفاجآتها.
لقد وجد بثاقب فكره، وعبقريته الفذة، واستقرائه لما حوله من الأمم والبلدان أنه لابد من الالتفات، التفاتة كاملة لتقوية الأواصر بين الأجزاء المختلفة من مملكته، والاستفادة من هذه اللُّحمة القوية، المبنية على أسس عربية لها إشعاعها، ولها مراميها في الخلق والطموح، والرغبة إلى بلوغ درجة من الحضارة تعيد لها أمجادها. رأى أن المرتكز الاساس لكل تقدم هو نشر التعليم، وتعميمه في أنحاء المملكة، فالنور في العلم، وسوف بهذا يدرك الناس فائدته في أنفسهم، ولمواطنيهم، وأن التكاتف في حمل العبء يأتي بالنتيجة المتوخاة.
لم يكن الأمر سهلاً، فالمال لم يكن متوفراً بالحد الذي يسمح بتحقيق الأهداف في ظل الطموح الذي في الأذهان، ولم يكن الوعي تجاه التعليم مساعداً في اختيار بعض الطرق الممكنة، ولكنه استطاع ان يجعل من بعض المتعلمين أداة للتهيئة لما هو أفضل، وشجع القائم من المدارس، وفتح مراحل لما وجد أنه في تطلع الى مراحل اعلى. خطوة هنا وخطوة هناك، نوع من التعليم هنا ونوع هناك. مدارس تفتح، ومعاهد تقام، بعثات تذهب، ومتعلمون يجتذبون من البلدان المجاورة، بعضهم للتدريس، وبعضهم للإدارة.
وسرعان ما آتت هذه الجهود ثمارها، وبدأ العلم يعمُّ بنوره أرجاء المملكة. وقد واكب التفاته رحمه الله للعلم حرصه على ما يحتاجه المجتمع في مجال الصحة، ومجال الطرق، وتسهيل أمور الحج، ورعاية ما تحتاجه المدن، وما تحتاجه البادية.
وهو في معمعة الاصلاح هذه قامت الحرب العالمية الثانية، وكانت عسرة فوق عسرة، وأصبح الاهتمام بالغذاء، ومراقبة توزيعه بين المناطق، وتلمُّس مجالات مصادره، في مقدمة ما يشغل ذهن الملك عبد العزيز، ولكن ذلك لم يمنعه من أن يتابع الخطوات التي بدأها في المجالات الأخرى، مما يصلح المجتمع ويقوي أسس الوحدة والتلاحم بين فئات المجتمع في المناطق المختلفة، بادية وحاضرة.
كان توطين البادية من الأمور التي وجد أنها تحتاج إلى الالتفاتة، لأنه لم يعد بالامكان ترك البادية في صحرائهم، يتنقلون من مكان إلى مكان، وإذا كان هذا ممكناً في الماضي فلم يعد كذلك الآن، في الماضي كان الحل لمقابلة الجفاف لجوء القبائل إلى المدن، مهاجرين أو مجاورين، أو غازين على مدينة أو على قبيلة. هذا يتنافى مع الأمن الذي أراده الملك عبد العزيز لبلاده يريد للمدن والقبائل أن تتجاور بالاحسان، وأن تأمن السبل، وأن توجد الوسائل التي تتكفل بالعيش المنتظم للجميع. وكان إنشاء الهجر، والتشجيع على بثها خير سياسة اختيرت لتقابل الحاجة في هذا المجال، فتوطنت البادية، وصارت هذه الهجر نواة لبلدان وقرى ومدن، ولا تزال تُنشأ، لأن هذا العمل فَتْحٌ محمود، وُضع على أساس سليم، وغُذِّي مع الوقت بالتطوير بأسباب التنمية المختلفة.
بعد أن انتهت الحرب، وتنفس العالم الصعداء، بدأ الملك عبد العزيز متابعة البحث عن مصادر الثروة، وباكتشاف البترول انطلقت عجلة الاصلاح في المجالات المختلفة، بسرعة فائقة، فلم يعد هناك عائق أمام الرغبة في الاصلاح والتطوير، فما لم تسمح به البلاد مما ليس متواجداً جُلب من خارجها، وما كان متواجداً استغل استغلالا ملحفا.
جاء أبناء عبد العزيز بعده، فأخذوا يُعلون البناء، واحداً بعد آخر، حتى وصلت بلادنا إلى ما وصلت إليه اليوم. هذه الخطوات السريعة، في النمو والتطور، جعلت الجيل الناشىء يظن أن المملكة وما هي عليه في حاضرها كان هذا شأنها منذ قرون. لا يتصور أن أداة الحمل والركوب والسفر في أيام قريبة كانت الجمال والحمير، ولا يتصور ان الكهرباء لم تكن معروفة، وأن الناس كانوا في وقت يسرجون بسراج الودك، ثم بعد أن تيسر البترول بالقازولين. لا أحد منهم يتصور أنه لم يكن هناك الا مستشفى واحداً في مكة. ثم لما بدأت السيارات تستقدم كانت الرحلة من الرياض إلى مكة قد تأخذ أسبوعاً، وقد تأخذ أكثر، وكان هذا يعتبر كسباً مقارنة بسفر الجمال الذي قد يأخذ شهراً. وكان السفر بالسيارات شاقاً، فالطريق صعب المسالك: أرض غير متساوية، وحزون متتالية، يقطعها المسافر طلوعاً ونزولاً، ورمال ممتدة غزيرة، يقضي المسافرون وقتهم في إخراج السيارات التي تغرز عجلاتها في الرمال. هذا إلى كثرة الخلل الذي تسبَّبُ به الطرق للسيارات وقلة عبور السيارات للصحراء تجعل من ينقطع يجلس أياماً ينتظر فرج الله بمجيء سيارة تسعفه، أو تُخبر عنه.
لهذا أخذ تمهيد الطرق من أبناء الملك عبد العزيز جهداً في إيجاد شبكة تصل أجزاء المملكة بعضها ببعض، حتى تحقق ما تحقق اليوم من الطرق، تساندها خطوط الطيران للرحلات الداخلية والخارجية. ولم تقل العناية بالموانىء، ومن صفاتها أنها وسيلة من وسائل المواصلات المهمة، وقد تعددت هذه الموانىء ولبَّت حاجة المملكة، ولا يزال التطوير مستمراً، ومذهلاً في سعة الخطو، وقطع المسافة في السير في خطط التنمية المرسومة.
ومن الصعب في هذه العجالة ان يُلمَّ المرء بكل إنجاز، وأي صورة ترسم هي قاصرة عن الحقيقة، التي يعرفها المخضرمون بين عهدين. ولا يوفي الأمر حقه الا التبصر والتدبر فيما أُنجز، والنظر إلى متابعة التحسين، واليوم يدخل عنصر جديد في شموخ درج السلم، وهذا يتضح في تخصيص المرافق التي يتلاءم معها التخصيص، وهي التفاتة تقدير من الدولة للقطاع الخاص في أنه أصبح من النضج والاستعداد ليساهم بدور فعَّال في بناء الوطن. والقطاع الخاص سوف يسهم ويكون له باع طويل في الاستثمار، والمشاركة مع الراغبين من خارج الوطن، وسوف يساير هذا، ويباريه في بعض المجالات، ويعضده في مجالات أخرى فتح باب السياحة المنظمة، مما استدعى التفات القطاع الحكومي والأهلي للمجالات التي يمكن أن تكون محل جذب للسيَّاح، مما تنفرد به بلادنا، سواء كان ذلك في الآثار، أو في المناظر في الطبيعة.
وهذه الأمور لا تزال في أوائلها، وعندما تدرج على طريق الانجاز يبدأ تفاعل العناصر بينها، فيتولد أمور أخرى تساهم في التطوير، ورفع البناء، وتحسين الأداء، ورفع مستوى المعيشة.
ونسأل الله أن يجعل الخير متوالياً، في جميع جوانبه، من أمن ورخاء وازدهار، وإبعاد للشح، وتعميم للوُجد، وأن يحفظ هذه البلاد وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز، وصاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز، ولي العهد، نائب رئيس مجلس الوزراء رئيس الحرس الوطني، وصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز، النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع والطيران والمفتش العام. وأن نرى الانجاز يتوالى في السير إلى الأمام عاماً بعد عام.
وبالله التوفيق..
|
|
|
|
|