| مقـالات
الدنيا مليئة بالأكدار والأيام حبلى بالمصائب والآلام.
طبعت على كدر وأنت تريدها
صفواً من الأقدار والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها
متطلب في الماء جذوة نار |
ويتفاوت الناس باستقبال المصائب بحسب قوة إيمانهم وعظم توكلهم، فمن الناس من تنزل عليه مصائب تهد الجبال ويبقى ثابت الجنان قوي الأركان لتُمحى ذنوبه وتكثر أجوره.
قال صلى الله عليه وسلم: «عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن اصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له».
فمفهوم المسلم للمصيبة يختلف عن غيره لأنه يرجو الحياة الأخرى ويعلم أن الابتلاء على قدر الإيمان كما جاء ذلك في الحديث «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب».
فقد جعل الله تعالى هذه المصائب الدنيوية من مُكفرات الذنوب كما قال صلى الله عليه وسلم.. «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه».
ومما يساعد المسلم ويقويه على تحمل المصائب التي تحل به.. أن يتفكر أن هذا أمر قُدر عليه وهو واقع عليه لا محالة فإن رضي فله الرضا وإن سخط فله السخط وحزنه وتضجره لا يرد القضاء ولا يرفع البلاء بل يزيد المصيبة ويعظم الفاجعة ويضاعف الألم.
ومما يعينه أيضاً على تحمل المصائب أن يقدر أسوأ الاحتمالات التي قد تنتهي إليها المصيبة وهي قضية يستعملها الأطباء النفسيون وقد استخدمها رسولنا صلى الله عليه وسلم قبلهم كما جاء في حديث خباب رضي الله عنه عندما كان الصحابة رضي الله عنهم يعذبون ويضطهدون في مكة فجاء خباب رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متوسداً بردة في ظل الكعبة فقال له خباب: يا رسول الله ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم.. «قد كان من قبلكم يمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه ولكنكم تستعجلون» ، فالذي يصاب مثلاً بأحد أبنائه يتذكر من أصيب بجميع أبنائه ليتسلى بذلك.
وقد روي أن الوليد بن عبدالملك استدعى عروة بن الزبير واستضافه فأصيب عروة رحمه الله بجرح في قدمه فاستفحل حتى قرر الأطباء بترها ففعلوا فشق ذلك على الوليد أن يصيبه ذلك وهو في ضيافته ثم وقعت مصيبة أخرى على عروة إذ أصابت خيل ابنه بحافرها فمات فغم لذلك الوليد فسمع أن أعرابياً نزل عليهم ذهب بصره وماله وأهله في ليلة واحدة ففرح به وأدخله مجلسه واستمع إلى مصيبته ليسلي بذلك ضيفه وقال: ليرى عروة أن في الناس من هو أكبر منه مصيبة فتهون مصيبته عليه.
وقد قالت الخنساء قبل ذلك في رثائها لأخيها:
يذكرني طلوع الشمس صخراً
وأذكره لكل غروب شمس
ولولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن
أسلي النفس عنه بالتأسي |
والمسلم مطالب أن يقف مع أخيه في المصاب وأن يسعى لتخفيف آلامه وتسليته عن أحزانه وهذا من حقه عليه، وليست التعزية لضعف المصاب أو جزعه إنما هذا حق الأخوة والتذكير بالمصير.
عزى الوليد بن عتبة عمر بن عبدالعزيز بابنه عبدالملك فقال له: يا أمير المؤمنين لو أن رجلاً ترك تعزية رجل لعلمه وانتباهه لكنته ولكن الله قضى أن الذكرى تنفع المؤمنين.
لكن التعزية الشرعية تحولت عند بعض المسلمين إلى مظاهر وطقوس أشبه بالأفراح منها بالأحزان.
إن المصيبة الكبرى عند من هذه حالهم ما يترتب عليها من جهود بدنية وخسائر مالية واجهاد ذهني هو نصيب المصاب في هذه الأيام «أيام العزاء».
فما أن تقع المصيبة حتى ينشغل عنها بالإعداد لها فالأنوار التي تعلق على البيت والفرش التي تفرش خارجه مع الولائم اليومية التي تزيد حزن المصاب وتثقل كاهله.
حدثني ذات مرة أحد الجيران الذين أثقلهم المجتمع بهذه الطقوس وقال لي: والله إن تكاليف العزاء المالية والبدنية أشد من تكاليف الزواج وذلك أن الزواج يُعلم به ويستعد له والمصيبة تقع فجأة.
فالمصاب قد ينسى مصابه أيام العزاء لانشغاله بالاستقبال والتوديع والضيافة فإذا انصرف الناس وتفرغ من الشغل تذكر مصابه فتجددت الأحزان ولم يجد بعد ذلك من يواسيه.
وهذه عادات لاشك دخيلة على بعض مجتمعاتنا ويخشى من انتشارها واستفحالها فلابد من محاربتها واجتثاثها وأشقى الناس بها هم أهلها.. ورفقاً بالمصاب فكفاه ما دهاه.
amrrsa@hotmail.com
|
|
|
|
|