| الثقافية
تغطية تركي إبراهيم الماضي
أقيمت مساء الاثنين الماضي بمركز الملك فيصل للدراسات والبحوث الاسلامية محاضرة بعنوان «المكون اليهودي في الثقافة المعاصرة» ألقاها أ.د. سعد البازعي وأدارها د. ميجان الرويلي.
لماذا المعرفة باليهود مهمة!!
بدأ المحاضر بمقدمة قال فيها:
فئتان يصعب التعرف عليهما تعرفا نقديا مدققا: من نحبهم او نعجب بهم كثيرا ومن نكرههم او لا نسيغهم كثيرا، المعرفة لا تستقيم بلا مسافة، كما انها لا تستقيم على القرب الشديد. لابد من مسافة ولابد ان تكون المسافة وسطى لا هي بالقصيرة ولا بالطويلة وفي الحب او الاعجاب تقصر المسافة بيننا وبين الآخر حتى تتلاشى، حتى لا يعود هناك مسافة، بينما هي تمتد في حالة الكراهية حتى تغيِّب الآخر او الشيء فلا نعود نراه أو لا نرى إلا وجهه الذي لا يعجبنا.
بالطبع ليس هذان هما العائقان الوحيدان امام المعرفة، فثمة عوائق أخرى منها الالفة ومنها المعرفة المتوهمة، أن نألف الشيء حتى نظننا نعرفه او تنخلق بيننا وبينه معرفة هلامية تحل محل المعرفة النقدية. وحين تتضافر هذه العوائق كلها او بعضها، امام محاولة التعرف على انسان او شيء فان محاولة التعرف تتجاوز الصعوبة الى الاستحالة او شبه الاستحالة.
اشير هنا الى اليهود محور هذا الحديث، والى التجربة الصعبة التي واجهتُها في محاولة الاقتراب منهم والتعرف على ما اسميه المكون الذي قدموه للثقافة المعاصرة «وهي ثقافة غربية في المقام الاول، لكن انتشارها وهيمنتها يجعلها جديرة بأن نكتفي بوصفها بالمعاصرة». اليهود هم الذين تجتمع معظم العوائق امام محاولة التعرف عليهم: الكراهية والالفة والمعرفة المتوهمة. واذا كان من غير الضروري ان نفسر الكراهية، فان الالفة والمعرفة الوهمية ليستا بالغريبتين ايضا. كثيرون يعتقدون انهم يعرفون اليهود، وكثيرون لديهم معلومات تقل او تكثر عنهم، لكن من هذه المعرفة وتلك المعلومات ما يحتاج الى تمحيص، لا الى بعض التمحيص وانما الى الكثير منه. غير انه لو قدر لنا ان نتجاوز الالفة والوهم، فكيف لنا ان نتجاوز الكراهية ونحن نرى اسبابها، بل يرى العالم اسبابها معنا وإن عمي بعضهم وتعامى بعضهم الآخر؟
قد لا نستطيع تجاوز الكراهية ولسنا مطالبين بذلك، فالعلاقة باليهود قديما وحديثا لا تغري باعادة النظر في مشاعرنا تجاههم، وان تفاوتوا في الموقف بين متعصب وغير متعصب. لكني ازعم ان تجاوز الالفة والوهم كفيل بتحقيق قدر معقول من المعرفة النقدية، لا سيما اذا لم نكتف في الوصول اليها بمصادرنا، ووقفنا لتصحيحها على مظان غير المظان التي الفنا وتنطق بوجهة نظرنا عادة.
هذه المظان الأخرى هي ما تطالعنا به الثقافة الغربية اليوم وهي تعج باسماء يهودية على نحو مباشر او تعود الى اصول يهودية على نحو غير مباشر. فليس من سبيل للتعرف على الثقافة الغربية دون المرور باليهود، بل بالتوقف عندهم، وقد يطول الوقوف حين تترى الاسماء والاعمال الضخمة والتأسيسية في تاريخ تلك الثقافة. فقد اسهم اليهود في بناء الآداب والفنون الغربية مثلما اسهموا في بناء حقول المعرفة الغربية من فلسفة واجتماع وسياسة وعلم نفس ونقد ادبي وعلوم طبيعية وطبية الى غير ذلك، سواء أكان تأسيسا ام اضافات كبيرة متتالية. ومن هنا كانت محاولة التعرف عليهم معوقة ليس بما ذكرت من معوقات نفسية ومعرفية فحسب وانما بمعوق كبير آخر، هو ضخامة اسهامهم وحضورهم، اي بالكم والكيف الهائلين لذلك الاسهام التكويني في صلب تلك الحضارة، لاسيما في عصرها الحديث.
لكن المعرفة باليهود تظل حاجة ملحة أيما إلحاح، ومهما كانت الصعوبات، لا لانهم يقفون في خندق العدو اليوم مثلما وقفوا من قبل فحسب، والانسان مطالب بمعرفة عدوه معرفة صحيحة شجاعة مهما كلفه ذلك، لأن المعرفة جزء اساسي من المعركة. اقول إن ثمة سببا آخر لا يقل في خطورته عن المعركة المباشرة، بل لعله هو المعركة الحقة، فاليهود اليوم سادة مؤثرون في كثير من حقول المعرفة وميادين النشاط الثقافي الانساني المؤثر عالميا، والتي لابد لنا من التعرف عليها، الحقول والميادين التي اخذنا منها الكثير وما نزال بحاجة الى ما هو اكثر، وان لم نكن نفعل ذلك بالتمحيص المطلوب، اي التمحيص الذي يتم دون مبالغة في الحذر يفقدنا القدرة على الاستفادة، ولا مبالغة في التقبل يشوه قدرتنا على الابداع. واذا كان حقل التعرف بهم ودراستهم في الوطن العربي قد تنامى في السنوات الاخيرة بجهود كبيرة لنفر قليل من الباحثين المميزين، فان المزيد ما يزال بحاجة الى الانجاز وسيظل الى جانبه مزيد ومزيد ولعل مما يلفت الانتباه في هذا السياق ان كثيرا من المعرفة باليهود هي اليوم من صنع اليهود انفسهم، وقد طرحوا انفسهم للعالم وبينوا خصائص تفكيرهم وطبيعة توجهاتهم وموجهات تاريخهم كما لم يفعل احد وكيف لا يحدث ذلك وفيهم بعض اهم المفكرين والمؤرخين وعلماء الاجتماع والانثروبولوجيا والنفس، فكان طبيعيا ان يكرس هؤلاء او بعضهم غير قليل من تأملهم وبحثهم للتعرف على انفسهم وعلى منطلقاتهم وطرح تصورات معينة عنهم امام العالم، بغض النظر عن صحة او دقة تلك المعرفة وما يصاحبها من تصورات.
تلك هي الصورة مجملة، وتلك هي معالمها واهم الدوافع الى الانشغال بها، فماذا سأقدم يا ترى في خضمها الهائل؟ ثم اشار د. البازعي الى ان ما يسعى اليه هو: تقديم صورة من صور المعرفة باليهود ودورهم الثقافي ربما وقعت ضمن ما يعرف بعلم اجتماع المعرفة او علم اجتماع الثقافة. وسيكون قصارى طموحها الصحة مع الوضوح والتركيز فلا سبيل الى شمولية هنا، لاسيما في محاضرة كهذه اود ان ينظر اليها بوصفها تقريرا موجزا عن مشروع بحثي الآن انني وصلت الى قناعات اساسية يمكن التحرك منها لتقديم بعض الملاحظات التي ارجو ان اوفق فيها الى بسط ما توصلت اليه.
فأين وبم يكون البدء إذاً؟
لعله يكون بتوضيح المقصود بالمكون اليهودي. فهذا المكون يمكن ان يفهم على انه احد المصادر الكبرى للحضارة الغربية، الى جانب المصدر اليوناني اللاتيني اي انه يعود الى ظهور المسيحية التي يعدها اليهود والمسيحيون على حد سواء نتاجا يهوديا ما اقصده هنا ليس ذلك المكون ببعده التاريخي الطويل، وانما انا معني بالاسهامات الثقافية في ميادين الفكر والفنون بشكل عام التي قدمها اليهود للثقافة الغربية وصارت جزءا من نسيجها المعاصر. أي إنني معني بالعناصر اليهودية التي تنجذر في المكون الاكبر الممتد طوال التاريخ ولكنها تنتمي الى العصر الحديث وتمارس تأثيرها فيه، بمعنى ان من سمات المكون اليهودي ما يعود الى فترة سابقة، ولكن اثره ما يزال يمتد الى العصر الحديث.
غير ان من الضروري ان اوضح ان حديثي لن يتوقف عند جانبين يتصلان بالمكون المشار اليه، الاول هو الصهيونية التي تمثل خطأ ايديولوجيا سياسيا لليهود ولكنه ليس جزءا من الجانب الفكري والابداعي البحت، اما الجانب الآخر فهو الاستشراق، الذي كان لليهود باع طويل فيه ولكنه ايضا ليس ذا صلة مباشرة بالجانب الثقافي الذي يهمني التوقف عنده ومع ذلك فان اي تناول شامل للمكون اليهودي لا يستطيع تجاهل هذين الجانبين.
«من اليهود المقصودون؟!»:
ثم اشار د. البازعي الى اهمية تحديد اليهود المقصودين هنا فقال متسائلا:
أولا: من هم اليهود المقصودون؟
يقول المؤرخ بول جونسن في كتابه تاريخ لليهود انه في نهاية القرن الثامن عشر وبداية الذي يليه بدأت «الآلة اليهودية» الاجتماعية العالية الاداء بتحويل معظم نتاجها من المثقفين من حقل الدراسات الحاخامية الى الدراسات الدنيوية. ويضيف : كان ذلك حدثا ذا اهمية كاسحة في تاريخ العالم هذه نقطة انطلاق مهمة، لان الفترة المشار اليها هي فترة التنوير الاوروبي اي عصر ازدهار العقلانية والشك والفكر المادي عموما، وانحدار الايمان والتدين والروحانية. ومع ان الفترة التي سبقت التنوير انتجت اسما في غاية الاهمية في تاريخ الفكر الغربي عموما، وليس اليهودي فحسب، اي سبينوزا، فان معظم الاسماء والاعمال التي نألفها اليوم والتي تعود الى اصل يهودي او تنتمي على نحو ما الى اليهودية تعود الى ما بعد القرن الثامن عشر.
تلك الاسماء هي اليوم من الرموز الضخمة في تاريخ الثقافة والعلم. فماركس وفرويد واينشتاين وكافكا وبروست ويوجين يونسكو وماكس فيبر وكارل بوبر وتشومسكي وديريدا هي بعض اسماء باتت مألوفة لجمهور المثقفين. ودارسو علم اللغة الحديث وقراء العلوم السياسية على حد سواء يعرفون تشومسكي، ودارسو الاقتصاد يعرفون ملتن فريدمان وغيره، ودارسو علم الاجتماع والانثروبولوجيا يألفون اميل دوركايم وكلود ليفي شتراوس وفرانز بواس، وطلاب النقد الادبي يعرفون ابرامز وبلوم وغيرهما، وقراء الشعر الاوروبي يعرفون ادموند جابيه وبول تسيلان، والذين تهمهم السينما المعاصرة لابد انهم سمعوا بوودي الن، او ستيفن سبيلبرغ، والذين سمعوا الموسيقى الكلاسيكية الغربية ربما يكونون قد سمعوا مولر وشونبرغ، والذين يعرفون الفنانين التشيكليين المشهورين يعرفون شاغال، الى غير ذلك من قائمة طويلة ليس هؤلاء الا بعض أعلامها.
على مستوى الفكر اعتاد المؤرخون الاوروبيون للحضور اليهودي في الفكر الغربي ان يبدأوا بابن ميمون «او ميمونيديس، كما يسمى في الغرب»، الذي عمل في القرن الثاني عشر الميلادي ضمن السياق العربي الاسلامي، سواء في الاندلس او في مصر، حين كتب بالعربية وسعى الى ما سعى اليه كثير من فلاسفة المسلمين، مثل ابن سينا وابن رشد، في محاولة التوفيق بين الفلسفة اليونانية والشريعة الدينية. وبعد ابن ميمون في الاهمية يأتي سبينوزا في اواسط القرن السابع عشر، ذلك الفيلسوف اليهودي الماراني الذي افتتح في هولندا خطا نقديا جديدا في الفكر الاوروبي ما لبث ان صار خطا رئيسيا بالغ الاهمية ليس في تأثيره الهائل في الفكر التنويري الاوروبي فحسب، وانما في الفكر الاوروبي ايضا، بل والثقافة العالمية، منذ عصره وحتى الآن. بعد ذلك تكون الاشارة عادة الى الالماني موسى مندلسون في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، الذي عرف ب«سقراط الالماني» وواجه عصر التنوير بمحاولة التوفيق بين عقيدته الدينية والمقولات العقلانية انذاك ومنها مقولات سبينوزا التي هزت العقيدة.
اما في القرنين التاسع عشر وبداية العشرين، فان القائمة الفكرية تشمل عددا اكبر، منهم المشهورون جدا، مثل ماركس، وفرويد بأثرهما الضخم في الثقافات المعاصرة متمثلا بما وضعاه من نظريات ومناهج ومفاهيم، ومنهم الاقل شهرة، وان لم يكونوا اقل اهمية بالضرورة، مثل: بيرغسون، وهوسرل، وتروتسكي، وماكس فيبر، وفتغنشتاين، وهرمان كوهين، ومارتن بيربر، فاذا جئنا الى القرن العشرين، وبالتحديد منذ اواسط القرن، هالنا عدد البارزين في مجال الفلسفة والفكر الاجتماعي بشكل عام، مثل: كارل بوبر، وامانويل ليفيناس، وهوبرت ماركيوز، وتيودور ادورنو، واريك فروم، وماكس هوركهايمر، وكلود ليفي شتراوس، وجاك ديريدا، ونعوم تشومسكي، وجورج شتاينر. كما يدهشنا عدد البارزين في العلوم الطبيعية مثل: اينشتاين وبور ولامبروزو وسالك، وكذلك عدد البارزين في الرواية والشعر والفنون المختلفة يقول جورج شتاينر، وهو من اعلام الفكر النقدي الغربي اليوم: «انه بدون الاضافة التي انجزها اليهود ما بين عامي 1830 و 1930م ستبدو الثقافة الغربية مختلفة وضئيلة جدا»(2) واضيف الى ما قاله شتاينر ان ذلك الحجم سيتضاءل اكثر بكثير لو حذفنا ما انجز بعد 1930، اي لو حذفنا معظم من ذكرت للتو.
طبيعة الانتماء لليهود:
ثم تحدث د. البازعي عن طبيعة الانتماء لليهود فقال: من هذه اللمحة السريعة لمختلف الاسهامات اليهودية نأتي الى المسألتين الرئيسيتين: الاولى هي: طبيعة الانتماء اليهودي؟ والثانية هي مدى تأثير ذلك الانتماء فيما قدم من اعمال، ومن ثم في الثقافة نفسها. او بتعبير آخر، ما الذي يجعل عمل هذا او ذاك يهوديا، او يهوديا المانيا، مثلا، بدلا من ان يكون المانيا فقط؟ ثم كيف اثر انتماؤه الى اليهودية على العمل؟ قبل الدخول في خضم تلك الاسئلة ينبغي ان اشير الى انها اسئلة يصعب طرحها على مستوى العلوم الطبيعية، فتأثر تلك العلوم بمسائل الهوية والانتماء اقل بكثير من تأثر الفنون والعلوم الانسانية لذا كان من الطبيعي ان تنحصر الملاحظات التالية ضمن تلك العلوم غير الطبيعية، اي الانسانية والاجتماعية، ومعها الفلسفة والفنون المختلفة.
بالنسبة لطبيعة الانتماء سيكون المطروح شائكا لانه سؤال الهوية بكل ما ينطوي عليه، وتنطوي عليه الهوية من تشابكات كثيرة التعقيد فالهوية اليوم من المباحث الكبيرة في حقول عديدة اولها الفلسفة، ثم العلوم الاجتماعية من نفس واجتماع وإناسة، وفي الدراسات الثقافية والاتصالية وما اليها وفي حالة اليهود يكتسب السؤال صعوبة مضاعفة لاننا ازاء جماعات يتألف تاريخها كله تقريبا من سلسلة طويلة من الامتزاج مع شعوب مغايرة وما تضمنه ذلك من مثاقفة متصلة على كل المستويات تقريبا، دينية ولغوية واجتماعية وفكرية. فسؤال من هو العربي، او من هو الصيني، او من هو الامريكي، سؤال لا يخلو من صعوبة، اما من هو اليهودي فينطوي على صعوبة اكبر فاذا اضفنا الى ذلك اننا نطرح السؤال هنا على مستوى مثقفين او مفكرين يحملون رؤى وآراء وافكارا ونظريات وينطوون من ثم على هويات كثيرة مركبة ومنزلقة، تبين لنا ان الصعوبة اشد فطرح السؤال على المستوى الاجتماعي العام أسهل نسبيا من طرحه على المستوى الفردي، لانك في الحالة الاولى تتعامل مع حالة مجردة يمكن التعميم بشأنها اما في حالة فيلسوف مثل سبينوزا او عالم مثل فرويد او مثقف واسع الثقافة مثل شتاينر فان الحالة تكون متعينة من ناحية، وشديدة التعقيد لطبيعة اولئك الاشخاص، من ناحية اخرى.
لكن هذه الصعوبة مهما بلغت فانها لا تلغي امكانية الوصول الى شيء من الوضوح النسبي في التصور، لان المطلوب ليس اليقين القطعي، ففي مثل هذه الامور يصعب اليقين القطعي اصلا، وانما المطلوب هو المقاربة المعرفية التي تكتفي بقدر معقول من الوضوح.
سؤال الهوية:
ثم تطرق المحاضر الى مسألة الانتماء اليهودي وسؤال الهوية قائلا:
كمدخل ضروري لتحديد سمات الانتماء نحتاج الى الوقوف عند سؤال الهوية او معنى اليهودية التي يكون اليها الانتماء وما ينبغي قوله هنا هو اولا ان معظم المصادر التي اطلعت عليها تؤكد صعوبة تحديد معنى الانتماء اليهودي من حيث ان هناك عددا من المعاني لذلك المفهوم، فهل اليهودية في الدين ام في الثقافة، ام في الاصل العرقي القومي؟ واذا كان الدين واحدا في الاساس، على تعدد مذاهبه وتفسيراته، فان الثقافة التي ينتمي اليها من يمكن ان يوصفوا باليهودية ليست ثقافة واحدة، وانما هي عدة ثقافات، تبعا للبيئة الاجتماعية والثقافية التي يوجد بها الانسان او الجماعة. واليهود في مجملهم، وكما هو معروف في حالة شتات منذ ما يقارب الالفي عام، موزعين على بقاع ومجتمعات مغايرة لهم ومتغايرة فيما بينها اما العرق او القومية فليس ذا معنى في اساسه، ليس في حالة اليهود وحدهم، وانما بشكل عام بعد تداخل الشعوب بعضها في بعض، وان كان في حالة اليهود اظهر واوضح.
في كتابه من هو اليهودي؟ كما في موسوعته الكبيرة موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية(3)، يطرح المفكر العربي المعروف عبد الوهاب المسيري سؤال الهوية بالنسبة لليهودي ويتوصل الى ان شتات اليهود جغرافيا وعرقيا وثقافيا يجعل من الضروري الا نتحدث عن جماعة يهودية وانما عن جماعات ذات هويات متعددة. فهو يقول: ان كلمة يهودي تشير الى اشخاص يؤمنون بانساق دينية متعارضة من بعض النواحي، وينتمون الى تشكيلات حضارية مختلفة، اي انها دال يشير الى مدلولات دينية وقومية مختلفة لكن المسيري بعد مناقشة مستفيضة لهذا الجانب يستبقي الحد الادنى من الانتماء وهو الاصل، اي الانتماء الى اصل يهودي عرقيا او ثقافيا بغض النظر عن مدى العلاقة الحاضرة باليهودية، فمثلما ان هناك مسيحيين غير منتمين الى المسيحية فان هناك يهودا غير منتمين الى الدين اليهودي، بمعنى انه ان كان ثمة تخل اما متعمد او لا ارادي عن الارث الديني او الثقافي للدين او الجماعة الموصوفة باليهودية، فان التخلي لا يعني الانفصام التام بالضرورة «من هو اليهودي؟ 53 54).
استثناء المسيري للدين والاصل العرقي في العصر الحديث من تحديد الهوية تتفق معه فيه المفكرة الالمانية الامريكية حنة ارنت، وهي يهودية الانتماء، ولكنها تضيف ما تسميه خصائص نفسية وردود فعل معينة تشكل في مجموعها السمة اليهودية(5) تلك الخصائص تتضح في ردود الفعل التي احدثتها المحرقة النازية لليهود او معاداة السامية بشكل عام، فحتى اولئك الذين ولدوا لعائلات ليبرالية، او حتى متنصرة، وجدوا انفسهم محاصرين بتلك الهوية لا يستطيعون منها فكاكا.
الموسوعة البريطانية(6)، من زاوية اخرى، وان لم تكن مغايرة تماما، تثير في مقالة موسعة حول ما تسميه «فنون الشعوب اليهودية» مسألة الهوية وصعوبة الاتفاق على تعريف لمعنى «يهودي» فضلا عن تعريف ل«فن يهودي» فكيف يمكن التوفيق، كما تقول المقالة، بين ما انتجه موسيقي مثل غوستاف مولر Mahler وكاتب مثل مارسيل بروست، ثم تنتهي المقالة الى ان التعريف الممكن هو الذي يصف الفنون اليهودية بأنها تشمل تلك التي تنتمي بشكل لا يقبل النقاش الى التراث اليهودي، اذ تعكس الدين اليهودي والتقاليد اليهودية، والادب المكتوب بالعبرية واليدّية ثم تتوصل المقالة الى حل وسط، هو أن الفنانين والكتاب ذوي الاصل اليهودي على نحو ما والذين قدموا اسهامات كبرى الى سياقات غير يهودية والى الحد الذي يصعب معه فصلها عن تلك السياقات يناقشون في الموسوعة ضمن مقالات اخرى. غير ان من الواضح ايضا ان الموسوعة تنطلق من تفرق اليهود الى جماعات او شعوب كما تسميها، اي كما يقترح المسيري وغيره.
لكن التفريق بين اشخاص يهود ولهم انتماء قوي الى غير التراث اليهودي لا يعني، بطبيعة الحال، هامشية علاقتهم باليهود، وانما هي محاولة للتوفيق بين الانتماء الشخصي والثقافي او العرقي المحدود وبين الانتماء الحضاري الفعلي الى عدة سياقات. والواقع ان من يقرأ بعض ما يكتب عن اولئك الاشخاص اليهود اصلا في المراجع الاجنبية، لاسيما في التعريفات الموسوعية او المعجمية، يلاحظ تهميشا لذلك الانتماء الاصلي. فتقديم سبينوزا او ماركس او فرويد او بروست، مثلا، في تلك الموسوعات، ومنها اعمال عربية، يأتي في احيان كثيرة خاليا من الاشارة الى كونهم يهودا او ينتمون الى خلفيات اجتماعية وثقافية يهودية ومع ذلك فان كثيرا من الدراسات التحليلية، اي غير الموسوعية التعريفية، كما في الكتب والمقالات والابحاث، تنطلق من ثبوت الانتماء اليهودي لمن ذكرت وغيرهم وتبحث في كيفية تأثير ذلك الانتماء على ما انجزوا.
يصدق ذلك بشكل خاص على الذين تحدثوا عن انتمائهم ذاك على نحو يوحي بالتمسك به وتأثيره عليهم، ومنهم: سبينوزا، وفرويد، والمفكرون الالمان ادورنو وماكس هوركهايمر وحنة ارنت، والمفكرون الفرنسيون امانويل ليفيناس وجاك ريريدا والان فنكايلكروت، والناقدان الامريكيان شتاينر وهارولدبلوم، والروائي الامريكي فيليب روث، والشاعر الالماني الروماني بول تسيلان، والشاعر الفرنسي ادموند جابيه. كذلك يصدق على كثيرين لم يتحدثوا عن ذلك الانتماء وربما انكروه.
ولنأخذ بعض الأمثلة التي توضح ما اقول:
فقد كتب فرويد عام 1918م رسالة الى قس مسيحي صديق له متسائلا: بالمناسبة، كيف حدث انه لم يخطر التحليل النفسي لاحد من المهتدين وتركوه ينتظر حتى يأتي يهودي بلا اله مطلقا ثم نجده يعلن بعد ذلك بتوضيح اكبر في رسالة الى منظمة بني برث اليهودية الشهيرة:
انني ادين لتكويني اليهودي بالخصلتين اللتين صارتا اساسيتين لاسلوب حياتي الصعب لانني يهودي وجدت نفسي متحررا من كثير من التحيزات التي تقيد الآخرين في توظيف عقولهم،
وبوصفي يهوديا كنت مهيئا للوقوف في صف المعارضة والمضي دون موافقة الكثرة المتضامنة.
او عندما يقول عالم اللغة والكاتب السياسي الامريكي الشهير نعوم تشومسكي ردا على سؤال وجه له حول السبب وراء اتخاذه موقفا حادا في معارضة السياسة الامريكية في كثير من اتجاهاتها ربما يعود جانب من ذلك الى انني بمعنى من المعاني نشّئت في ثقافة مغتربة، في التقاليد اليهودية الصهيونية، في مجتمع من المهاجرين بمعنى ما، على الرغم من ان آخرين استجابوا على نحو مغاير للظروف نفسها وقد قال تشومسكي ذلك على الرغم من نقده الشديد المعروف لاسرائيل، شأنه في ذلك شأن بعض اعلام اليهود المشار اليهم هنا، كجورج شتاينر، وفيليب روث.
من زاوية مقابلة يطرح الفيلسوف الالماني اليهودي تيودور ادورنو مسألة الانتماء ضمن تقييم للناقد والمفكر الشهير والتر بنجامين، وهو يهودي الماني ايضا وزميل لادورنو وهوركهايمر وماركيوز واريك فروم وغيرهم في مدرسة فرانكفورت فيراه قريبا من التراث الصوفي اليهودي لاسيما في فهمه لما يعد مقدسا من النصوص: «ثم يضيف بعد ذلك ليوضح تأثير التراث الصوفي، القبالة تحديدا على بنجامين» تلك النزعة المقالية مستمدة من نزعة مادية علمانية صارمة في رفضها حتى للفلسفة العقلانية طالما هي محكومة بالمنطق، لان الفلسفة العقلانية تنتمي الى انظمة توتاليتارية مغلقة في التراث الغربي حاربها ادورنو وبنجامين وحنة ارنت، مثلما حاربها ديريدا من بعدهم غير ان الفلاسفة الالمان، اليهود منهم بشكل خاص، ربطوها سياسيا بكثير من الكوارث التي حلت بهم، كالنازية يقول ادورنو ان تبني بنجامين في مؤلفاته للشكل المتشظي يعود الى رفضه للعقلانية: لذا السبب تمترس فكره منذ البداية ليحمي نفسه ضد التلاحم الوثيق بجعل ماهو متشظٍ مبدأه الذي يهتدي به.
ذلك الانتماء الى اليهودية يؤكده ايضا روائي اسرائيلي لدى القاص المعروف كافكا، ولكن من زاوية اخرى. يقول: ان كافكا كاتب شديد الانتماء الى اليهودية وليس ذلك في اعتقادي بسبب حبه للغة اليدية والمسرح اليدي، وليس بسبب دراسته المكثفة للعبرية واليهودية وانما بسبب ذلك القلق اليهودي الذي يتخلل كل كتاباته ثم يشير الى ان عالم الصوفية اليهودي الشهير غيرشوم شوليم يعدد اعمدة الفكر الصوفي اليهودي قائلا انها تشمل التوراة، والزوهار، وكتابات كافكا.
أما الروائي الامريكي اليهودي فيليب روث وهو من ابرز الروائيين الامريكيين المعاصرين، فيتحدث عن هموم مختلفة تماما، ولكنها تؤكد الانتماء ايضا، حين يشير الى نوع الجمهور الذي يتوجه اليه في كتاباته وذلك في اطار التوتر الذي نشأ بينه وبين بعض قادة اليهود الامريكيين نتيجة لاعماله الروائية ذات الطبيعة الانتقادية ازاء اليهود واتهامهم بما يسمونه كراهية الذات
وهي شكل من اشكال معاداة السامية في تعبيرهم يقول روث في مقابل جمهوري العام هناك جمهور يهودي يمنحني افضل ما يمكنني الحصول عليه
فانا اشارك جمهوري اليهودي بحميمية ما يأملون وما يحتقرون وما يسعدون به، اشاركهم نقدهم، وحبهم المجروح لذواتهم.
هذه الأسئلة ليست سوى مؤشرات تشبه رأس الجبل الثلجي.
المداخلات:
ثم بعد ذلك اعطى مدير الامسية المجال لبعض الحضور لعرض مداخلاتهم وتعليقاتهم وقد اقتصرها على بعض الاشخاص واعتذر عن بقية الاسماء الاخرى لضيق الوقت!!
تحدث في البداية د. عبد الراضي عبد المحسن قائلا: ان هذه المحاضرة تثير الكثير من الاسئلة عن الاضافات والاسهامات التي قدمها اليهود للحضارة الغربية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.. فمثلا اسبينوزا يعتبر تكرارا لابن حزم لانه نقل عنه اشياء كثيرة.. واذا افترضنا ان اليهود قدموا اسهامات كبيرة للحضارة الغربية فماذا قدموا في فلسطين طيلة وجودهم منذ خمسين عاما مضت.
فالصحيح هو ان الفكر الغربي هو الذي بني واوجد الفكر اليهودي واضاف اليه والعكس غير صحيح تماما.
ثم تحدث بعد ذلك د. بشير العيسوي موضحا صورة اليهودي في الفكر العربي وانها تصوره على شكل انسان بخيل رث الثياب ومرابي وذو انف كبير ولكن في السنوات الاخيرة ظهر مثقفون يعرضون الصورة الحقيقية لليهود مثل د. محمد الرميحي وايضا د. سعد البازعي في هذه المحاضرة.
اما د. عبد العزيز السبيل فانه طرح تصورا مغايرا عندما تساءل قائلا: ماذا لو عكسنا المقولة وتحدثنا عن الفكر الاسلامي وعن اسهاماته واضافاته للحضارة الغربية.
ثم اننا حين نتكلم عن المكون اليهودي في الثقافة المعاصرة نتكلم عن اشخاص محدودين وليس عن فكر يهودي بدليل انهم يطرحون افكارا تتناقض مع الديانة اليهودية لانهم نتاج مجتمع جديد وحضارة جديدة.وطرح د. صالح الخثلان تساؤلاً هاماً:
هل يجب على الباحث عندما يقرأ لكاتب ما ان يتساءل عن هويته ام ان يتجاوز مثل هذه المقولات.
ثم تحدث بعد ذلك عن حضور المكون اليهودي في الثقافة الغربية وتحديدا في الثقافة الامريكية وان هذا الحضور له علاقة مباشرة بالتأثير على صناعة القرار الامريكي.
|
|
|
|
|