قال أبو عبدالرحمن: أما الأول فلأنني اطلعت على تعقيبه بجريدة الجزيرة حول جفاف الرسم الإملائي، فعلمت أنه اطلع على حلقة واحدة من ردي، ولم يطلع على حلقتين أخريين، بسبب أن جريدة الجزيرة لم تنشر الحلقات متوالية، بل فصلت بينهما بمقالات لي أخرى.. وأنا أُقدِّر هذا الرجل وأحبه، وأريد أن أشاغبه فكرياً حتى أنقله من عمومات الأدباء إلى دقة الفكر، ولهذا أحببت أن أرطِّب له بهذه المقالة الفنية.. وأما الثاني فبسبب ما أبديته له في منزل والد الجميع الأستاذ عبدالمقصود خوجة بمناسبة دعوته لصاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز آل سعود حفظه الله.. أبديت له قلقي من ضياع الأغنية الحجازية خلال القرنين الأخيرين ألحاناً وكلمات، ورغبت تدوينها ولو بشكل مقارب كما يدُوَّن كثير من مواويل حسن جاوه وباعشن من خلال السندي.. على أنني سمعت منذ أزيد من ربع قرن مواويل بصوت شيخنا أبي تراب الظاهري يقولُ: إنها تمثل أداء حسن جاوه.. وفي الطرب الحجازي شعر غير معروف القائل، وبعضه فيه حلاوة معنى وضعف لغة وتركيب، ولا آمن أن بعضه حديثٌ من شعرِ ناظمٍ نصف عامي ونصف مثقف.. وبعضه من مأثور الشعر في عصور الانحطاط، فأردت همة أديب عاشقِ فنٍّ يجمع الكلمات الغنائية، ويخرجها حسب القدرة.. ولا يقدر على ذلك إلا أديب حجازي فنان كهل، ولهذا السبب آثرت نشر هذه المهاتفة الفنية، وهي عن مقطوعة شعرية غير عظيمة الخطر يتنازعها أبو نواس وديك الجن، ولكنها جميلة الغرض، وأراهن على أنها عذبة الغناء إن لُحِّنَت وأظن أنني سمعتها بصوت الست في أغانيها القديمة جداً.. تقول المقطوعة:
قولي لطيفك ينثني
عن مضجعي عند المنام
فعسى أنام فتنطفي
نار تأجج في العظام
جسد تقلبه الأكُفُّ
على فراش من سقام
أما أنا فكما علمت
(م) فهل لوصلك من دوام
وليس هذا من طرد الخيال كما في قوله طرفة:
فقل لخيال الحنظلية ينقلب
إليها فإني واصل حبل من وصل
وإنما هو شبيه بقول جرير:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا
وقت الزيارة فارجعي بسلام
فطرفةُ طرد الخيال مجازاةً لها، إذ قطعت وصله، وهذا مستهجن عند العشاق.. قال ابن رشيق «ويعاب ما ناسب قول الآخر (وهو جميل)»:
فلو تركت عقلي معي ما طلتها
ولكن طلابيها لما فات من عقلي
لأن الصواب قول عباس، أو مسلم:
أبكي وقد ذهب الفؤاد وإنما
أبكي لفقدك لا لفقد الذاهب
فأما طرد الخيال والمجازاة في المحبة، فهو مذهب مشهور، وقد رَكبِه جلة الشعراء، ورأوه مروءةً.. منهم طرفة، ولبيد، ثم جرير، ثم جميل، فقال طرفة وهو أول من طرقه:
فقل لخيال الحنظلية ينقلب
إليها فإني واصل حبل من وصل
وقال لبيد مثل ذلك:
فاقطع لبانة من تعرَّض وصله
ولشرُّ واصلٍ خلةً صرَّامُها
وسمع ابن أبي عتيق قول ابن أبي ربيعة المخزومي:
بينما ينعتنني أبصرنني
دون قيدِ الميل يعدو بي الأغر
قالت الكبرى أتعرفن الفتى
قالت الوسطى نعم هذا عمر
قالت الصغرى وقد تيَّمتها
قد عرفناه وهل يخفى القمر
فقال له: أنت تنسب بهن، وإنما نسبت بنفسك، وإنما كان ينبغي لك أن تقول: قالت لي، فقلت لها، فوضعت خدي، فوطئتْ عليه.. وكذلك قال كثير لما سمع قوله:
قالت لها أختها تعاتبها:
لا تفسدن الطواف في عمر
قومي تصدي له لأبصره
ثم اغمزيه يا أخت في خفر
قالت لها غمزته فأبى
ثم اسبطرَّتْ تشتدَّ في أثري
هكذا يقال للمرأة؟؟.. إنما توصف بأنها مطلوبة ممتنعة.. قال بعضهم أظنه عبدالكريم (2): العادة عند العرب أن الشاعر هو المتغزل المتماوت، وعادة العجم جميعاً أن يجعلوا المرأة هي الطالبة والراغبة والمخاطِبة.. وهذا دليل كرم النحيزة في العرب وغيرتها على الحرم (3)».
قال أبو عبدالرحمن: أما جرير فطرد الخيال، لأنه محرم بالحج!!.. فإن كان غير معذور عند الأدباء فوجهه أبيض عند الفقهاء.. وأما شاعر المقطوعة الجميلة (أبو نواس، أو ديك الجن) فأراد بطرد الطيف ولم يوفق في الغرض، لا في جمال الصورة، وقابلية اللحن الجميل التدليلَ على كلَفهِ، وأنه لا ينام.. والعشاق يستعذبون السهر، والطيف ولو بعد سهر طويل يمتعهم، ثم ينامون هادئين، لأن الطيف وصل لذيذ.
ومن لذيذ استضافة الخيال ما رواه الحافظ أبو طاهر السلفي ( 576ه) .. قال:
«أنشدني أبو منصور أحمد بن محمّد بن طاهر بن نباتة أحد الخطباء بمَيّافَارِقين..قال: أنشدنا أبو نصر الحسن بن أسد النحوي الفارقي لنفسه:
أياَ لَيلَةً زَارَ فيِهاَ الحبيب
أعيِدِي لَنَا منْهُ وَصْلاً وعُوِدي
فَإنِّي شهِدْتُكِ مُسْتَمْتعاً
بِهِ بين رَنَّة نَايٍ وَعودِ
وَطِيبِ حَدِيث كَزَهْرِ الرِّيَاض
تَضَوَّع مَا بَينَ مسْكٍ وعود
سَقَتْكِ الرَّوَاعدُ منْ لَيلَةٍ
بِهاَ اخْضَرَّ يَابِسُ عَيشِي وعودي
فَلَمَّا تَقَضَّيتِ أَمْرَضْتِنِي
فَزُوري مرِيضَكِ يَوماً وعودي
أبو منصور هذا أحد الخطباء في جامع من جوامع ميَافارقين، المشهور، وخطب جدّهم الخطب التي عليها تعويل الخطباء شرقاً وغرباً» (4).
قال أبو عبدالرحمن: إلا أن الجناس التام بهذا المقدار مرغوب فيه اليوم، ورأيت الأستاذ أحمد مطلوب (في كتابته عن ديك الجن بمجلة الفيصل) يزعم أن المقطوعة في الجارية ورد التي تزعم الأسطورة أن ديك الجن قتلها غيرةً ثم رثاها.. ولا مصدر له إلا الرافعي رحمه الله، وهو متأخر، ولم يذكر أنها في ورد، ولم يجزم بأنها للديك.. وهذا الطرد للخيال يتنافى مع ما أُثر عن تنعُّم ديك الجن بالخيال.. قال الصفدي رحمه الله تعالى : «وقال في الجارية (أي قال ديك الجن في الجارية ورد):
جاءت تزور فراشي بعدما قبرت
فظلت ألثم نحراً زانه الجيد
وقلت قرة عيني قد بعثت لنا
فكيف ذا وطريق القبر مسدود
قالت هناك عظامي فيه مودعة
تعيث فيها بنات الأرض والدود
وهذه الروح قد جاءتك زائرة
هذي زيارة من في القبر ملحود » (5)
قال أبو عبدالرحمن: هذا وصف غزلي هادئ لا يدل على حُرْقة، فهو بارد من هذه الناحية، وكلفه تخيُّل لذيذ يمتع المتلقي.. بل يُرمِّضه إن كان كلفاً وإن كان المرسل في عافية .. وكون العاطفة من أهم عناصر العمل الفني لا يعني واحدية العاطفة.. أي عاطفة المرسل، بل يشمل عاطفة المتلقي، فما أثار عاطفة فهو أداء جمالي.. إلا أنه جمال مجاني، وهو بمحضية الفن أشبه.. أما مشبوب العاطفة إذا ضرب قلبه فأبدع فهو ذو الجمال الفعال.. يثير الجماهير إن كان همه ذاتياً ولو بمجرد التوجع له، ومقاسمته همومه.. أما إذا كان الهمُ جماهيرياً فهو مُذَكِّر واعظ إن كان عادي الأداء غير متفاعل مع الحدث، لأن الحدث نفسه محرك، والتذكير مذكِّرُ.. أما إذا كان الأداء فنياً، والفنان متفاعلاً: فهناك اقتنصوا مواصفات الجمال في الموضوع.
قال أبو عبدالرحمن: عفا الله عن قمم الطرب في مصر ولا سيما الملحنين من أمثال عبدالوهاب، فقد أمتعونا بالشعر الفصيح منذ أبي فراس والشريف الرضي ومهيار الديلمي إلى شوقي والمهندس وناجي.. إلخ، وكانت أنغاماً مُجَنِّحَة لحناً وأداء وانتقاء للشعر الغنائي (6).. وحصل مع اللحن الاستمتاع بالنطق العربي الفصيح على ألسنة فصحاء كعبدالوهاب.. وبلادنا جزيرة العرب فشل فيها الغناء بالفصيح فشلاً ذريعاً، فغرقنا في الأغنية العامية، والأغنية ذات الأسلوب الثالث.. فإن ذكرت حسن جاوه، والسيد حسين إدريس هاشم، والسندي، ومن حاكاهم إلى هذا اليوم. فذلك مواويل ذات طابع لحني محلي لم تأسر القلوب العربية على اختلاف لهجاتهم كما فعلت ألحان السنباطي وعبدالوهاب، فمتى يعود للشعر الفصيح مجده الغنائي بألسنة عذبة فصيحة تنطق الحرف العربي من مخرجه، وتمنحه مسافته، وتضفي عليه سجية العرب في النبر، ومحاكاة ما تدل عليه علامات الترقيم من تأثر واستفهام .. إلخ.. كما يفعل عبدالوهاب مغنياً ومنشداً، وكما يفعل فاروق شوشة منشداً؟. ومقطوعة ديك الجن نٌسبت إلى أبي نواس، واستدركها الدكتور نور القيسي على طبعتي ديوان ديك الجن.. الأولى جمع الملوحي وزميله، والثانية جمع أحمد مطلوب وزميله.. استدركاها من خزانة الأدب للبغدادي، وأنوار الربيع لابن معصوم (7).
قال أبو عبدالرحمن: هما متأخران، ولابد من معرفة مصدرهما من القدماء، وربما كانا وهَمَا، فنسبا شعر أبي نواس إلى ديك الجن.. قال مصطفى صادق الرافعي رحمه الله :«من ذوات القوافي في (8) نوع من النظم سماه أهل البديع التخيير، وقالوا هو أن يأتي الشاعر ببيت يسوغ فيه أن يُقفَّى بقواف مختلفة، فيتخير منها قافية يَرجِّحُها على سائرها ويرسل بها البيت، فيكون ذلك دليلاً على حسن اختياره.. وهو تعليل لا معنى له، لأن تمكن القافية شرط في الشعر، وسواء (9) بعد ذلك ساغ أن يُقفَّى بقواف أخرى أو كان أمره مقصوراً على القافية الواحدة.. وإذا تفقدتَ الشعر في أي عصر لم تعدم أن تجد البيت أو الأبيات مما يُقَّلب على القوافي، ولكن الحسن من ذلك قول ديك الجن، (وأكثر من يرويه يسنده إلى أبي نواس)، وهو:
قولي لطيفك ينثني
عن مضجعي عند المنام
فعسى أنام فتنطفي
نار تأجج في العظام
جسدٌ تُقَلِّبه الأكف
على فراش من سقام
أما أنا فكما علمت
فهل لوصلك من دوام
فالقوافي التي يمكن أن ينشد بها هذا الشعر هي:
عند المنام: الرقاد
الهجوع الهجود الوسن
في العظام: الفؤاد
الضلوع الكبود البدن
من سقام: قتاد
دموع وقود حزن
من دوام: معاد
رجوع وجود ثمن
وليستُ أشك في أن البيت الأخير مقحم وليس من نظم صاحب الأبيات، وإنما ألحقوه بها (10) توسعاً في الاحتمال، وزيادة من البيان في المثال.. وقد وصلوا في هذا النوع إلى جعل البيت على سبع قواف، واطراد ذلك في قطعة واحدة.. وإنما يحسن هذا متى اتفق استخراجه في شعر لا ما قصد إليه، فإن القصد هنا مَحْمَل التكلف، وهو يُخرج الشعر إلى الصنعة، فيسقط بها عن درجته قليلاً أو كثيراً كما مر بك في الصناعات» (1).
قال أبو عبدالرحمن: لا شك أن البيت الأخير فضولي مفسد للسياق، فكيف يُمنع وصلها، لسقامِ سهاد وحرمان ثم يَطلب وصلها؟.. ثم كلمة (أما أنا) تقتضي (أما هي).. ولم يمر في السياق شيء عن (هي).. بل أذهب إلى أبعد مما ذهب إليه الرافعي رحمه الله، وهو أن المقطوعة من صنع مجهول أراد أن يرسي نظرية «التخيير» بمثال شارح، فتناقض معنى، وأمتع فنّاً وصورةً وقابليةَ لحنٍ.. إن المقطوعة التي نُسبت إلى ديك الجن من الشعر الغنائي لظاهرتين:
أولاهما: المزاوجة التي تمنح اللحن وقفات مزدوجة أيضاً، فيكون التجانس اللحني في : ينثني، ومضجعي، فتنطفي.
وثانيتهما: أن قافيتها في أحسن توفيق حسب الظاهرة البديعية التي مضى الحديث عنها، وهي التخيير، وتنكير الفراش والسقام في سياق الرافعي أدلُّ وأبلغ، ولكن الروايات بالتعريف.
üüü
الحواشي:
(1) علامات الترقيم حالة ضرورة لا حالة كمال، من أجل إيضاح الكلام وتحسينه.. ولكن بعضها لا يكون إلا عند الضرورة، وهو في جملته علم أوربي أخذناه بدون تأصيل يليق بنا، وقد نشرتُ بمجلة الفيصل بحثاً مطولاً عن تأصيل علامات الترقيم، بسبب إساءة استخدامها.. وبقية التنظير في أجزاء كتابي (رسم القلم ورموزه).. ومن الخطأ إهمالهم علامات الترقيم في العنوان، وإهمال تعدد العلامات في موضع واحد.
(2) هو النهشلي.
(3) العمدة 2/767/و 765766.
(4) معجم السَّفَر ص3132 بتحقيق عبدالله عمر البارودي، ط دار الفكر عام 1993م.
(5) الوافي بالوفيات 18/425.
(6) في منزل صاحب السمو الملكي الأمير بدر بن عبدالعزيز حفظه الله بالطائف بالحوية عام 1405ه رأيت أمام الموسيقار محمد عبدالوهاب أكداساً من الشعر لشعراء سعوديين من رواد العصر يريد أن ينتقي منها للتلحين، فكان يرمي بها على الظرف وهو يقول: إيه ده.. لأنه فقد الموسيقى الداخلية التي هي عند أمثال البحتري والشريف الرضي ومهيار وابن هانئ والمهندس.. وهذا يؤكد ما كنت أنادي به دائماً من أن الوزن قالب لحن، وليس هو كل الشرط الضروري للحن.
(7) المستدرك على صناع الدواوين 1/383384 للدكتور نوري القيسي، والأستاذ هلال ناجي/ عالم الكتب الطبعة الأولى عام 1420ه.
(8) رابطة (في) فضول، وهي مُضرَّة، لأنها تعني أن الكلام غير تام، ويحتاج إلى خبر.
(9) الواو قبل (سواء) فضول.
(10) الصواب (به)، لأن الضمير للنظم.
(11) تاريخ الأدب العربي 3/372373.
وكتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري عفا الله عنه