| شرفات
يعتبر اكتشاف أسرار الجينات الوراثية والاقتراب من إنجازات أهم خريطة عرفها التاريخ الانساني على الاطلاق وهي خريطة «الجينوم» البشري التي تحتوي كل تفاصيل الشيفرة الوراثية، الحدث العلمي المتميز الذي وصف بانه الاهم على الاطلاق في تاريخ الطب.. ولا يزال هذان الحدثان يثيران قدراً كبيراً من الجدل والمخاوف، وقد بدأ العلماء في وضع سيناريوهات شديدة الغرابة والطرافة لما يمكن أن تصبح عليه حياة الإنسان خلال السنوات القليلة المقبلة، وربما قبل ان ينتصف القرن الجديد.. فليس مستبعداً ان تشهد سلطة القضاء محامياً يطلب البراءة لموكله المسكين الذي ارتكب جريمة قتل مروعة، لانه عندما فعل ذلك كان خاضعاً لتأثير جينات الشر أو الخلل في الجينات المتحكمة في السلوك.. أو أن نرى زوجا يعتذر لزوجته لانه تزوج عليها تأثير الجينات المتحكمة في مشاعره العاطفية الامر الذي جعله يحب زوجته الجديدة مرغماً؟.
وتتصاعد المخاوف من احتمالات العبث في الصفات الطبيعية للانسان عن طريق ادخال تعديلات في منظومته الجينية ليصبح اكثر ذكاء او جمالا او قوة.. وهكذا غطت مشاعر القلق على مشاعر الفرح بالانجاز العلمي الطبي الجديد الذي يمكن اذا تم ترويضه ان يساعد على التنبؤ والعلاج المبكر لامراض لاتزال مستعصية، كالاورام السرطانية وتصلب الشرايين والخرف المبكر (الزهايمر) والشلل الرعاش (باركنسون) والانيميا المنجلية وضمور العضلات الوراثي والتكيس الرئوي وغيرها الكثير من الامراض التي تستعصي على العلاج.فثورة الجينات الوراثية كما هو الحال مع اي تكنولوجيا جديدة تطرح بعض القضايا الاخلاقية الهامة طلبا لاجابات حاسمة، لا سيما وان فهم تسلسلات الجينات الوراثية (الجينوم) التي تتحكم في مجريات حياة الانسان يحمل مفتاحا لفتح ابواب موصدة تتوارى خلفها اسرار الحياة ذاتها وعلى مدى تاريخ البشرية كانت ثمة دوما مخاوف من أن يلعب الانسان دورا يتجاوز ما هو مؤهل له، غير أنها تزايدت هذه المخاوف في الاعوام الاخيرة بنجاح عمليات استنساخ الحيوانات وانتشار الاطعمة المعدلة وراثيا وتطور ما يعرف بالذكاء الاصطناعي.
مخاوف العبث في الجينات البشرية
وأهم المخاوف التي تتزامن مع الاكتشاف العلمية هي أن العلماء أنفسهم لا يمكنهم بأي حال من الأحوال التنبؤ بكافة التداعيات التي ستنجم عن اكتشافاتهم لا سيما وأن بعض تلك التداعيات تكون بمثابة كوارث بالنسبة للانسان والكوكب الوحيد الذي يمكن الحياة على سطحه حالياً.
لهذا فعلى الرغم من الوعود الطبية التي لا يكاد يمكن تصديقها.. والتي تنجم عن اكتشاف الخريطة الوراثية البشرية فان اقتراعاً للرأي اجرته شبكة «سي. ان. ان» الاخبارية اظهرت ان 41% من الامريكيين يعتقدون ان الابحاث الوراثية تتنافى مع القيم الاخلاقية وان 47% فقط قالوا ان لها ما يبرزها.. فما هي اذاً التداعيات الاخلاقية المترتبة على مشروع الخريطة الوراثية؟.. وهل سيصبح بمقدور الناس في غضون الأعوام القليلة المقبلة اجراء مسح جيني سريع لمعرفة ما تخفيه الاقدار لهم على وجه التحديد: ما اذا كانوا سيموتون تأثرا بأزمة قلبية .. او سيسقطون في براثن السرطان.. أو سيرزقون باطفال بعيون زرقاء وشعر اشقر؟.. الخ، وهل السماح للجهات التأمينية بالتعرف على الخرائط الوراثية للعملاء قبل التأمين عليهم صحيا؟.. واذا كانت الاجابة «نعم» فهل سيكون بامكانهم رفض التأمين على حياة شخص تبين انه يحمل الجين الذي قد يؤدي في يوم من الايام لاصابته بسرطان البنكرياس على سبيل المثال؟.. وكيف سيؤثر اكتشاف الاسرار الوراثية للانسان على التحيّز ضده أو له؟.. وهل سيكون لكل منا ملف يقسم البشر إلى فئات عرقية؟ثم هناك قضية السلوك الناجم عن الجينات.. فهل سنسمع في القريب عن محام يدافع في المحكمة عن موكله الذي اضطرته جيناته لان يصبح مغتصباً أو قاتلاً.. أي هل ستنتهي العقبة التي ننظر فيها الى ان المسؤولة الشخصية باعتبارها مفهوما قانونيا معتمداً؟
حقوق الخريطة الوراثية
وعلى الرغم من ان اعوام قليلة لا تزال تفصل البشرية عن اكتشاف الخريطة الوراثية البشرية الكاملة.. إلا أن المعدل الذي تجري به تلك الاكتشافات والنطاق الذي تجري من خلاله يشيران إلى ان كل ما كان يعتبر ضربا من الخيال في السابق سيصبح ممكنا في نهاية المطاف.. وهو ما يطرح سؤالا هاماً: من الذي سيملك حقوق الخريطة الوراثية لجسم كل واحد من بني الانسان، وما الذي سيمكنه فعله بهذه الحقوق؟ يقول «هانك جريلي» الاستاذ المتخصص في نقاط القانون بالعلم والتكنولوجيا بجامعة ستانفورد «ان هذا الانجاز الهائل سيدفع ثقافتنا دفعاً الى نظرة اكثر قدرية للفرص السانحة لنا».
ويمضي موضحاً، ان الناس قد يحصرون الخيارات المتاحة لهم في عدد محدود اعتمادا على الخصائص التي يتحلون بها وفقا لتركيبهم الوراثي، قد يتخذ الناس قرارات خاطئة فيما يخص حياتهم فقد يحجمون عن الزواج عن الالتحاق بالجامعة خشية ان يكونوا مفتقرين لدرجة الذكاء أوالقدرات المطلوبة.
أما «آنا فيرست» باحثة الاخلاقيات في معهد ماساتشوسيس للتكنولوجيا.. فتعتقد ان التداعيات الاخلاقية الرئيسية لاكتشاف الخريطة الوراثية ستكشف عن نفسها تدريجيا في غضون الخمسين عاما القادمة عندما يبدأ العلماء في ادراك قيمة المعلومات التي حصلوا عليها.
وتعتقد «فيرست» أن السؤال الرئيسي هو ذلك المتعلق بجوهر هوية الانسان ووجوده وتتساءل: «لدينا التوجيهات التي تكفل لنا صناعة الإنسان.. ولكن هل سيكون ذلك الانسان شخصياً؟ وهل سيعامل باعتباره شخصاً؟».
كما سيثير اكتشاف الخريطة الوراثية الانسانية جدلا ليس هو بالجديد، الطبيعة ضد التنشئة، وستثار تساؤلات حول ما اذا كان الناس مجرد مجموعة من الجينات تختلف من شخص لآخر.. أم هناك ما هو أكثر من ذلك.. عنصر لا يمكن كشف النقاب عنه الروح وأن يكون هذا العنصر هو الذي يحمل سر هوية الانسان.
يقول الفيلسوف فيليب كلايتون بهذا الصدد: «الخريطة الوراثية تواجهني بسؤال هو: من أنا؟ البيانات الخاصة بتركيبي اوشكت ان تذاع عبر موقع في الانترنت، ولن ماذا عن الاجزاء الموجودة في شخصيتي التي اعتبرها انا مهمة.. الذات العاطفية والفكرية والروحانية؟.. هل ستصمد تلك الجوانب أمام هجمة المعرفة الجينية؟
مترجمة عن مجلة : Scientific Horizons
|
|
|
|
|