| شرفات
منذ العصور الغابرة اهتم العلم كما الأدب بدراسة أسرار الحب، وهذا أمر طبيعي، فالحب ظاهرة تثير الفضول، لكن الجديد في الأمر هو أن علماء نفس ايطاليين حاولوا فهم الانفعالات التي ترافقه بالاعتماد على قياس معدلات عدد من المؤشرات البيولوجية في الجسم، والخوف كل الخوف من أن تكشف هذه الابحاث وجود ترابط بين الحب والأمراض النفسية!!..
الحب تلك العاطفة العصية على التفسير هل هو ابن بوهيم حقاً كما يذكر التاريخ؟ علماء النفس الذين حاولوا استكشاف السلوك الذي يميز الحب علمياً يرون أنه ليس ثمة شيء أقل تأكيداً من ذلك فالحب الذي عرف بعدم اذعانه لأي قانون أو مبدأ يبدو على العكس من ذلك محكوما بآليات بيولوجية محددة وليس بآليات رومانسية فحسب، فمن خلال بحث اجرته البروفسورة دونا ميلا مارازيتي وهي محللة نفسية من جامعة بيزا في ايطاليا تبين أن الحب بعد تحليله علمياً يخرج من طرق الرومانسية المألوفة ليطأ ارضاً جديدة هي ارض التحليل النفسي لقد بينت دراسة البروفسورة مارازيتي التي نشرت مؤخراً في مجلة سيكولوجيكال ميدسن وجود شبه بين عاطفة الحب الوليد واضطراب وسواس قسري يرمز له ب/Toc/ وأن هذا الشبه لا يشمل الأعراض المعروفة المصاحبة لعاطفة الهوى الوليد وتلك المصاحبة للاضطراب/Toc/ وانما يمتد ليشمل الآليات الكيمائية الدماغية التي تؤدي اليهما.
هل يعقل ان الحب الذي مجده الشعراء على مر العصور ليس سوى وهم؟! تقول البروفسورة مارازيتي إن الأشخاص الذين يقعون في الحب يظهرون سلوكاً مشابهاً لسلوك الأشخاص المصابين بالاضطراب/ Toc/ فالاشخاص من النوع الأول لا ينقطعون عن التفكير في المحبوب والاشخاص من النوع الثاني يقعون تحت تأثير فكرة معاودة تدفعهم الى غسل ا ليدين مئات المرات أو إلى التحقق من اطفاء مصباح أو جهاز ما طيلة النهار، ويشرح ايلي هانتوس وهو محلل نفسي مختص في معالجة اضطرابات المزاج والحصر ان السبب في ذلك هو وسواس يأتي على شكل ظاهرة تطفلية تقود الى فكرة ذاتية يقع الشخص تحت تأثيرها ويوليها أهمية كبيرة وبصورة عامة يعترف الاشخاص الذين يعانون من الاضطراب/ Toc/ بأن وساوسهم ليست منطقية وذلك ينطبق تماماً على الاشخاص الواقعين في الحب الذين يقفون عاجزين عن تفسير عاطفتهم المبالغ فيها تجاه المحبوب، ان الشبه الكبير بين هاتين الحالتين كان الدافع الرئيسي الذي حث البروفسورة مارازيتي على اجراء ابحاث وتجارب هدفت من خلالها الى الاجابة على سؤال مهم هو هل لهذين السلوكين المتشابهين منشأ بيولوجي واحد؟ في الحقيقة اكتشفت البروفسورة ما يدل على ان للنظام الذي يضبط معدلات السبروتونين والدوبامين وهما ناقلان عصبيان يؤثران على جوانب كثيرة في سلوك الانسان دور كبير في الشبه بين الحالتين اللتين نتبادلهما بالدراسة فقد اظهرت التحاليل ان معدل السيروتونين (5HT) عند الاشخاص المصابين بالاضطراب (Toc) منخفض بصورة غير طبيعية.
وقد دفع ذلك الباحثة وفريقها العلمى الى مراقبة نشاط السيروتونين عند عشرين طالباً، يعيشون في اول مرحلة من علاقة حب «رومانسي» وكان من الشروط التي يجب توفرها في الاشخاص قيد الدراسة ان تكون علاقتهم بدأت منذ أقل من ستة اشهر والا يكونوا اقاموا اية علاقات جنسية مع المحبوب، كما يجب ان يفكروا فيه مدة لا تقل عن اربع ساعات يومياً، ولجأت الباحثة الى دراسة مجموعتين أخريين من الاشخاص بالتوازي مع المجموعة الاولى بحيث ضمت الاولى اشخاصاً مصابين بالاضطراب (Toc) حتى تعتبر الفكرة المعاودة وسواساً يجب ان تسبب للشخص الذي يعاني منها ضياع اكثر من ساعة من وقته يومياً حسبما جاء في الوصف السريري للاضطراب (Toc) فيما ضمت الثانية اشخاصاً لا يعانون من اية اضطرابات وذلك لمقارنة معدلات السيروتونين بين المجموعات الثلاث وفي مرحلة لاحقة من التجربة لجأ الباحثون الى قياس معدلات السيروتونين العصبي على مستوى الصفيحات الدموية وباستخدام تقنية ال(بيدينغ) بالباركسيتين وهي تقنية قياس غير مباشرة، لكن العلماء يؤكدون ان تركيز السيروتونين في الدم/ حيث يلعب الناقل العصبي دوراً في التخثر/ يعطي فكرة صحيحة نوعاً ما عما يجري في الدماغ، وبينت نتائج القياس ان معدل السيروتونين عند الاشخاص الواقعين في الحب منخفض عما هو عليه عند المصابين بالاضطراب (Toc) وبلغة الارقام كان معدل السيروتونين عند هاتين المجموعتين منخفضاً بنسبة اربعين في المئة عن المجموعة الثالثة التي تضم اشخاصاً سليمين.
وبتجديد الاختبارات على ستة اشخاص بعد فترات تراوحت بين 1218 شهراً أي عندما بأت نيران عاطفة الحب عند المحبين في الانطفاءتبين ان معدلات السيروتونين عند هؤلاء الأخيرين تعود الى وضعها الطبيعي وكانت دراسات سابقة على ضحايا الاضطراب (Toc) بينت عودة معدلات السيروتونين عندهم الى وضعها الطبيعي بعد اخضاعهم لعلاج طبي مناسب، وهكذا استنتج الباحثون ان الامر لا يتوقف عند مجرد وجود اعراض مشتركة لعاطفة الحب الوليد والاضطراب (Toc) بل يتعداه الى وجود تشابه في تبدل مؤشرات بيولوجي يحمل دلالات مهمة هو السيروتونين، وبعد التوصل الى هذه النتائج ظهرت ردود الفعل متضاربة فيما يتعلق بتفسيرها بين اوساط المحللين النفسيين وقد ذهب عدد من لمحللين النفسيين الى القول ان الاعراض التي تنتج عن عاطفة الحب الوليد ذات طبيعة مختلفة عن الاعراض عن الاضطراب (Toc) إذ ان الشعور بالضيق الذي يخلفه الاضطراب (Toc) عند المصابين به لا يشبه في اي جانب من جوانبه شعور الحبور الذي ينعم به الاشخاص الذين يعيشون عاطفة حب وليد، لكن للباحث / هاغوب اكيسكال/ وهو محلل نفسي في جامعة كاليفورنيا بسان دييغو وواحد من المشاركين في الدراسة رأي آخر فهو يعتقد ان عاطفة الحب الوليد لا تقود بالضرورة الى السعادة والحبور موضحاً انها حالة من الهياج والاثارة النفسية تتسم بحدوث اختلاجات وعدم انتظام في درجة حرارة الجسم كما تتميز عموماً بحالة من الاضطراب والارق، وهي اذا وصلت الى حدها الاقصى يمكن ان تتسبب في حدوث ضيق والم معاكسين تماماً للحبور.
وعلى الرغم من ذلك فإن الباحث/ بوريس سيرولنيك لا يفضل الذهاب الى حد تعميم الظاهرة والقول إن الحب المبالغ فيه يقود الى الضيق معترفاً في الوقت نفسه بان عاطفة الحب الوليد يمكن ان تشكل احياناً عامل قلق اكثر مما تشكل عامل حبور، لكن ذلك يختلف حسب الماضي الانفعالي للشخص الواقع في الحب، ويوضح سيرولنيك ان الامر يتعلق بالتاريخ الشخصي للفرد اذ إن بعض الاشخاص الذين نشأوا في ظروف نقص عاطفي مثلاً يمكن ان يعانوا من الحصر اذا وقعوا في الحب، يقول الباحث كريستوف اندري وهو محلل نفسي في مركز سانت أن الاستشفائي ان السيروتونين احتل موقع الناقل العصبي النجم في اعوام التسعينيات لماله من تأثيرات متعددة في عالم الدفاع الذي كان الكثير من مجاهله ما يزال يحير الباحثين ولا يزال حتى يومنا هذا بالطبع، ويشير أندري إلى أنه إذ كان من المؤكد أن للسيروتونين دوراً في عدد كبير من الاضطرابات الحصرية فانه يجب الحذر من هذا المؤشر البيولوجي الذي يمكن تفسير تأثيره بمئات بل بآلاف الفرضيات والتأويلات ، وفي الحقيقة يميل الباحث سيرولنيك الى الاقتناع بصحة القياسات التي اجراها فريق مارازيتي العلمي لمعدلات السيروتونين لكنه يوضح في الوقت نفسه ان وجود تقارب في نسب السيروتونين بين الاشخاص الواقعين في الحب والاشخاص الذين يعانون من الاضطراب (Toc) لا يعني في اي حال من الاحوال الربط بين عاطفة الحب الوليد والاضطراب (Toc) ويذكر كدليل على ذلك ان نتيجة تحليل دموي لشخص ما يمكن ان تحمل دلالات الف شيء وشيء في آن واحد فوجود نقص في سكر الدم مثلاً يمكن ان يدل على أنه مصاب بمرض وراثي كما يمكن ان يدل في الوقت نفسه على أن هذا الشخص قام بمجهود عضلي ما قبل أن يأتي لإجراء التحليل مباشرة.
هل الحب الوليد كالوسواس القسري؟!
يرى الباحث سيرولنيك أن هذه الدراسة تجمع بين امرين متناقضين لا يصح جمعهما إذ إن نتائجها تعني ان ضحايا الحب كوبيدون هم تماماً كالاشخاص الذين يقعون فريسة للوساوس ويقترح سيرولنيك رؤية أكثر حيوية لتفسير عاطفة الحب الوليد تقول: إن شعور الحب ناتج عن استيقاظ أثر في الذاكرة يولد امتلاءً نرجسياً بعيداً كل البعد عن التشنج الاختزالي الذي يتسم به الاضطراب (Toc) وقد أثار هذا الاتجاه الجديد في البحث ردود فعل عنيفة ليس فيما يتعلق بتفسيره الذي وصفه الباحث اوار زاريفيان بالمضحك فحسب. لقد شكك الباحث زاريفيان وهو بروفسور التحليل النفسي في جامعة كان بمصداقية طريقة القياس المستخدمة بيندينغ مع العلم انه شارك شخصياً في تطوير هذه الطريقة، وفي سياق كلامه استهجن زاريفيان الاتجاه العلمي الذي يجنح أكثر فأكثر إلى تحويل سلوك عادي إلى مرض عقلي، بيد أن المشاركين في الدراسة يردون على زاريفيان بدفاع مقنع موضحين انهم لا يدعون تشخيص الحب الوليد كمرض، وتؤكد مارازيتي أن نتائج دراستها لا تعني ابداً ان المحبين مجانين، لكنها تظهر أن لديهم خللاً في معدل السيروتونين مشابها للخلل الذي يظهر عادة عند المصابين بالاضطراب (Toc) ويرى/ ايلي هانتوش/ ان منهجاً كهذا المنهج الذي يظهر ان عدداً من الاضطرابات ليست بالضرورة مرضية هو منهج مطمئن على الارجح كما يشير إلى أنه يوجد في عمق أي وسواس منطق معين يحركه فعند الاشخاص الذين يعانون من الاضطراب (Toc) يقوم الطقس الوسواسي على استجابة لمنطق داخلي موجود حقيقة حتى لو بدا من غير العقلاني أن يغسل الشخص يديه مئة مرة في اليوم ليبعد الجراثيم الضارة عنه، ويؤكد الباحثون أن الوسواس الناجم عن الحب الزائد يمكن أن يحمل غاية تتمثل في التوافق مع انتقاء المحبوب وحتى لو استبعدنا الصفة المرضية فإنه يبقى ثمة ما يثير القلق، فهل يجب ان يبقى المرء في هذه الحالة غير الطبيعية التي سيسيطر عليه فيها شعور وسواس لا يحتمل حتى يزيد من عمر الحب الحقيقي؟ /هاغوب اكيسكال/ يرى أن الحب ليس عابراً بالضرورة وإنما الانفعال القوي الذي ينشأ في اللحظة التي يقع فيها المرء في الحب هو العابر، لكن المدة التي يستمر فيها الحب فيما بعد تختلف تبعاً لعوامل غير بيولوجية. فبعد الانفعالات الأولى تحيك الحبيبين علاقة عاطفية مختلفة في الوقت الذي تختفي فيه الاعراض الوسواسية.
ويرى عدد من العلماء أن دراسة مارازيتي اضفت شيئاً من الرومانسية على منهجها العلمي بالاشارة الى الميزة غير العادية لبدايات علاقة الحب وذلك بدلاً أن تزيل الهالة الوردية التي تحيط به وفي نفس المنحى يشيد الكاتب الروائي الفرنسي الكبير ستاندال بروعة وجمال علاقة الحب في بدايتها ويعتبرها اسمى من العلاقة التي تتبع الاتصال الجسدي، يقول ستاندال «في الحب الحقيقي المنزه عن رغبات الجسد ليست الحميمية هي السعادة الكاملة بقدر ما هي الخطوة الأخيرة لبلوغها». لقد اهتم ستاندال (لدى كتابة مقالته عن الحب) بالعمليات الفيزيولوجية التي تصاحبه ولاسيما تلك التي تسمى مرحلة «التبلور» وذكر أن هذه الظاهرة الطبيعية تجمِّل الشخص الواقع في الحب وتجعله مثالياً ولعل الصدى الحديث بما قاله ستاندال هو الدراسة التي نشرها المحلل النفسي الايطالي والتي تفتح طريقاً جديداً لخوضهم العمليات البيولوجية المؤثرة في سلوكنا من خلال فهم دور السيروتونين.
وثمة ناقل عصبي آخر لا يقل اهمية عن السيروتونين هو الدوبامين ويرجح العلماء ان لهذا الناقل العصبي وظيفة تتعلق باللذة فهو يتحكم في الوصول إليها ومن هنا أتى دوره المهم في مختلف حالات الادمان ويرى العلماء أن هذا الجزيء يدفع الشخص الى البحث عن الاثارات القوية وبالتالي فهو يدفعه الى اقامة علاقات حب متعددة ومعاشرة شركاء كثيرين، وعلى العكس من ذلك، ترى النظرية التي عرضنا لها سابقاً أن السيروتونين يحمل بعداً وسواسياً وارادة مبالغ فيها في التحكم بالاندفاعات وضبطها إذاً فهو يميل بصورة غير مباشرة الى بناء علاقة حب واحدة قابلة للعيش مدة طويلة.
ويقول العلماء: صحيح أن تبدلات الدوبامين والسيروتونين اللذين يسبحان في الدماغ ضمن الحدود الطبيعية هذه تبدلات مؤقتة مما يجعل وقوع المرء في الحب عندما تصبح مزمنة وشديدة.
ويؤكد الباحثون أن تحليل الآليات المعروفة يساعد في فهم الأسباب المؤدية إلى العذاب عند الاشخاص الذين يحملون استعداداً للتألم في علاقة الحب والذين تأخذ هذه العلاقة عندهم حيزاً أكبر من الحيز الذي يجب أن تأخذه ويشير الباحث كريستوف أندريه إلى أنه من المنطقي مستقبلاً أن نبحث لفهم السبب الذي يجعل عدداً من الاشخاص أكثر عرضة للوقوع في علاقات حب والمعاناة والألم من سواهم.
يبدي العلماء اهتماماً كبيراً بدراسة علاقات الحب التي تبدو مرضية بشكل واضح ففي حالة «المحبين المتعلقين ببعضهم تعلقاً شبه ادماني يبلغ الاندماج بين الحبيبين درجة تجعل كل منهما غير قادر على العيش ولا حتى على التفكير دون نصفه الآخر نجد هنا حالة من «الجنون الدوري» أكثر تعبيراً عن ذلك فهذا النوع من الجنون يقود الى اضطراب في سلوك الحب عن الشخص، وقد اهتم الباحث هاغوب اكيسكال بدراسة هذا الاضطراب «ثنائي القطب» للمزاج ووجد أنه يؤدي إلى تعاقب فترات هياج انفعالية ايجابية وأخرى سلبية، ويقود هذا التعاقب بين الاعراض شبه الهوسية والاعراض الاكتئابية الى الاكثار من الشركاء.
ويوضح/ اكيسكال/ ان الاشخاص الذين يعانون من هذا الاضطراب يقيمون علاقات حب كثيرة لا تدوم طويلاً، فهم متقلبون جداً وغير مستقرين من الناحية الانفعالية وعلى الرغم مما للحالات غير الطبيعية من سلبيات فهي تحمل في طياتها أحياناً بذور الابداع، وهذا ما يدافع عنه/اكيسكال بالقول: إذا كانت الامزجة المتطرفة تشكل حالات مرضية فإن بعضها يشكل مصدر إلهام للعديد من المواهب الفنية وخير برهان على هذه النظرية الاشخاص ذوو المزاج المتقلب الذين اصبحوا نجوماً في التمثيل.
بدءاً من الوسواس شبه الطبيعي الذي يعيشه الشخص في بداية علاقة الحب ووصولاً إلى السلوك المرضي ليست مجموعة الالوان التي تحفل بها علاقة الحب على أية حال وردية بالصورة التي نعتقد، لكن هذا في الوقت نفسه لا يعني أن فعل العشق أمر سيىء، يقول هاغوب اكيسكال يشكل الحب واحدة من تلك الحالات التطرفية التي تجعل الحياة تستحق عناء أن تعاش ونتساءل أخيراً من يستطيع أن يجزم أن آلام الحب وتباريحه الوسواسية ليست امراً ضرورياً؟ يجب علينا الاعتراف بأنه من الصعب الحسم في الاجابة على الاجابة على السؤال التالي: هل الحب هو الذي يولد من الوسواس أم العكس؟!
مترجمة عن البحث
|
|
|
|
|