أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 21st September,2001 العدد:10585الطبعةالاولـي الجمعة 4 ,رجب 1422

شرفات

فلاسفة الشوارع.. بين العبقرية والجنون
لا أحد يستطيع ان يصفهم علي وجه الدقة بالجنون المطلق، كما انهم ليسوا بالطبع عباقرة، هم بشر من نوع خاص نصادفهم احيانا على قارعة الطريق في ارقى الاحياء او في الحواري الشعبية الضيقة، يلفتون اليهم الانظار ليس لثيابهم الرثة الممزقة او شعورهم الطويلة ووجوهم المغبرة او باطلاق اقدامهم ولحاهم على غير هدى، وانما ايضا لغرابة اطوارهم وما يقولونه ويرددونه على الملأ.. يطلقون عليهم فلاسفة شوارع فهم يدمنون الحديث والثرثرة، نصف كلامهم عقل، ونصفه الاخر جنون، وكما يقولون ما بين العبقرية والجنون شعرة فان هذه الشعرة هي مكانهم المفضل دائما.
الجزيرة التقت فلاسفة الشوارع واستمعت لحكاياتهم واقوالهم الغريبة وأطوارهم الأشد غرابة.
المستشار
في احد شوارع القاهرة التقينا بهتلر او الدكتور هلتر كما يفضل ان يناديه الناس، ويطلق على نفسه مستشار مصر الاعظم ولا يحلم بأي منصب رسمي.. سألناه عن سر تسميته فقال هتلر هو اسمي الحقيقي فقد اطلق علي والدي هذا الاسم تيمنا بالزعيم الالماني ادولف هتلر، وانا اسير على درب هذا القائد العظيم فأنا اكره اليهود مثله منذ الصغر فهتلر الالماني عندما كان صغيرا شاهد الطبيب اليهودي وهو يحقن والدته بحقنة خاطئة فيتسبب في وفاتها على الفور امام عينيه وكان متعلقاً بوالدته تعلقا شديدا فكبر وكبرت معه عقدة وكراهية اليهود، اما انا فقد اتهموني ظلما بقتل زوجتي الحبيبة بغاز سام من اختراعي ولكن المحكمة برأتني.
وهكذا يستمر هتلر في نسج الحكايات حول مؤامرات اليهود المستمرة ضده فمرة يتهمونه بقتل زوجته ومرة يحاولون تدميره بسبب اكتشافه لسر سلاح فتاك اقوى من القنبلة الذرية. هذه الحكايات غير المترابطة والاقرب الى الهذيان او الجنون لا يستطيع احد تصديقها غير ان ظلالاً من الشك يدور في اذهاننا اذا عرفنا القصة الحقيقية لهتلر ومشواره مع فسلفة الشوارع.
لااحد يعرف على وجه الدقة من اين اتى هتلر ولكن الحكايات المتناثرة عنه تتفق على انه اسمه الحقيقي هتلر احمد تخرج من كلية العلوم ودرس تركيب الغازات وتفاعلها وسافر الى المانيا بالفعل لاستكمال دراسته هناك وعندما عاد الى مصر اتهم في جريمة قتل زوجته غير ان المحكمة قضت ببراءته وعقب هذه القضية اختفى عن الانظار لفترة طويلة ليفاجأ به الناس ضمن فلاسفة الشوارع، وفي ساعات الصفاء يقول هتلر عن نفسه: أنا بروفيسور في علم الذرة وقد حصلت على شهادات عليا من المانيا ويرى هتلر ان مؤامرات اليهود ضده حالت دون عمله بالجامعات المصرية والعالمية، وعن حلمه الشخصي يقول أحلم بتناول افطاري في القاهرة وتناول قهوتي في تل ابيب بعد تحريرها من اليهود طبعا.
شعارات برَّاقة
بموازاة مشوار هتلر يقف جمال الدولي الذي تجاوز بفلسفته كل الحدود وخرج عما تعود منه الناس والمحيطون به وذلك بعد ان أعلنها في وجه الجميع وملأ حوائط وجدران مدينة الاسكندرية بشعاراته الرافعة رايه العصيان للبطالة التي يعيشها وكتب جمال الدولي ابرز من يمثلكم في البرلمان وفي ملاعب كرة القدم.
هكذا وبدون مقدمات تحول جمال الدولي من مشجع لنادي الاتحاد السكندري الى مرشح للبرلمان ولملاعب كرة القدم وعن سبب هذا التحول يقول: التدهور الذي اصاب نادي الاتحاد فلم يعد قادرا على المنافسة او الوصول للنهائيات لذا تقدمت لتمثيله بقوة في البرلمان حتى اوقف نادي الاهلي والزمالك عند حدودهما.. وصول جمال الدولي الى تلك المنطقة الغامضة ما بين العبقرية والجنون كان عام 1993م وقبل ذلك لم يكن جمال الدولي غير مشجع مميز لفريقه في مدينة الاسكندرية وشيئاً فشيئاً اصبح يكتب الشعارات على سور النادي والتي تدور حول الكرة واللاعبين وهي الشعارات التي كان يرددها الجماهير اثناء المباريات لرفع سخونة وحماس اللاعبين، وعندما كان النادي يمر بأزمة مالية او ما شابه ذلك كان جمال الدولي يسرع الى فرشاته ليكتب جمال الدولي يحب الاتحاد وبعد فترة اصبح يضيف الى شعاراته اسماء اخرى مثل جمال الدولي يحب الاتحاد وليلى علوي او يسرا وغيرهما من الاسماء التي تخطر على باله، واصبح يكتب ايام الانتخابات انتخبوا جمال الدولي وصار اسمه اشهر من نار على علم بطول مدينة الاسكندرية وعرضها وذات صباح فوجئ به الناس يطوف ارجاء المدينة يجر وراءه علم الاتحاد وقد اطلق لحيته واصبح مكانه الدائم الرصيف.
الريس صلاح
ومن الرياضة الى تنظيم مرور السيارات في القاهرة يقل الريس صلاح بصفارته الشهيرة يقفز بين السيارات ويأمر قائدها بالتوقف او بالاتجاه يمينا او يسارا، وبالطبع لا يستمع قائد السيارة له ولكن احيانا يستمعون الى ارشاداته وهم غارقون في الضحك ويصفونه بالجنون اقتربنا من الريس صلاح فقال لنا، الجميع هنا تصيبهم الدهشة مما افعل ولكن لابد من توعيتهم بان تنظيم مرور السيارات هو المظهر الحضاري للبلد، وتستطيع ان تحكم على بلد ما بانه فوضوي ام منظم من مرور سياراته ونحن نعيش في فوضى عارمة ولابد من التصدي لها ووقفها.
الريس صلاح جاء للقاهرة من مدينة دمنهور وهناك الجميع يعرفون قصته فصلاح كان طالبا في كلية الطب متفوقا في دراسته وذات صباح وهو يسير بجانب والدته في الشارع دهستهم سيارة ماتت الام ونجا صلاح ومنذ هذا الحادث تغيرت حالة صلاح فيختفي عن الانظار لفترة ثم يعاود الاختفاء ويحكي عنه انه ذات مرة تقدم للترشيح على منصب رئاسة الجمهورية غير ان هذه الاقاويل المتناثرة لم تكن هي السبب بأي حال لهجرته للقاهرة ليفاجأ به الناس يمسك صفارته ويحاول التنظيم المرور طارده رجال الشرطة في البداية ثم اصبح صديقا لشرطي المرور اينما كان.
وسط ميدان الحسين يقف نبيل حسن يطلقون عليه فيلسوف الميدان يبدو بثيابه الممزقة والمتناقضة ذات الالوان الصارخة كأنه خرج تواً من عالم شديد الغرابة.. وفجأة تنتابه هستيريا البكاء ويختفي في حواري وازقة الميدان يقال عنه انه تخرج من كلية الاداب قسم فلسفة من جامعة القاهرة وواجه ظروفا صعبة عقب التخرج وبدت عليه علامات التحول شيئا فشيئا حتى صار من اشهر الوجوه في ميدان الحسين.
الوزير
وعلى جانب شريط القطار في محطة بولاق الدكرور احد احياء القاهرة الشعبية التقينا بنموذج اخر من فلاسفة الشوارع اسمه سيد مهدي يحلم بأن يكون وزيراً ولكنه يخفي رغبته امام الناس في محاولة للتمنع حتى يرجوه الناس ويبادرونه بطلبه للوزارة يقول اذا عرض علي منصب وزير سواف ارفض بشده لانني لا احب المناصب ولا احب الظهور ولا اعلم لماذا، ولكن اذا اقتضت المصلحة العامة ولم يجدوا سواي فسوف اختار وزارة الاعلام لانها هي التي توجه الناس وتعمل على توعيتهم بحقوقهم وواجباتهم، ويضيف اما بالنسبة لحلمي الشخصي فانا لدي حلم كبير ولكن مناله صعب وعندما اتذكره تفيض عيني بالدموع ولا اكلم احدا واخاصم الناس كلها وهذا الحلم هو شرف الاستشهاد صائما كما استشهد الحسين وبحركة اصابتنا بالدهشة قام مهرولا وفر من امامنا وقال بسرعة: لقد قلت لكم حلمي وانا الآن لا أكلمكم.
بعد حكايات فلاسفة الشوارع كان لابد من الانتقال الى علماء النفس في محاولة لايضاح الصورة اكثر فيقول الدكتور عادل مدني استاذ لطب النفسي بجامعة الازهر:
رغم صعوبة تحديد تاريخ دقيق لبداية ظهور هذا النوع الا ان الاحاديث والحكايات تناثرت عنهم بكثرة في فترة السبعينيات من القاهرة الى الاسكندرية والاسماعيلية وباقي المحافظات في مصر، وكان ظهورهم بكثافة بما شكل ظاهرة لافتة حتى اصبح من اليسير ان تصادف احدهم فتشعر وكأنك تعرفه فهو يشبه عبيط القرية كما قدمه لنا التلفزيون او السينما في ثيابه الرثة ولكنه ذكي محيط علما بالاحداث. واذا كان فيلسوف الشارع يقف عند اولى درجات الجنون فهو ليس عبيطا او أبلها يمتلئ جيبه بالافكار العظيمة بجانب اعواد القصب وبقايا الطعام.
اما عن الدوافع التي اوقعت بهم في مصيدة فلسفة الشارع فيقول د. عادل مدني انه حينما يشعر الانسان بالعجز عن تلبية احتياجاته البسيطة مثل حقه في مكان يؤيه وعمل يتكسب منه ويوفر له الحد الادنى من اشباع احتياجاته يصاب هذا الانسان بالتوتر والقلق والاحباط وكلما زادت الظروف التي يواجهها قسوة كلما دفع به ذلك الى حافة الانهيار النفسي يضاف الى ذلك عدم وجود دوافع روحية كافية بداخل الانسان تحميه من هذا الانهيار.
ويقول الدكتور فوزي معيطي طبيب الامراض النفسية والعصبية: انه في كثير من الاحيان يتمتع بعض الاشخاص بغرابة في سلوكهم وهؤلاء الاشخاص غالبا ما يتسمون بالاندفاعية والجرأة ومن هنا يظهرون وراء الاحداث وهؤلاء يدخلون تحت باب مرض الهوس الا انه لا يكون بصورة حادة تظهره على انه حالة مرضية.
ويضيف الدكتور فوزي: بعض هذه الحالات قد تدخل تحت دائرة مرض الفصام الذي يعني في حقيقته اضطرابا في جوهر التفكير ومحتواه مثل ظهور اعراض ضلالات العظمة وفي هذا المرض يشعر الانسان انه يمتلك قدرات خارقة فوق مستوى البشر.
ويرى الدكتور يوسف عز الدين خبير الصحة النفسية: ان الصورة قد لا تنطبق على كثيرين خاصة اذا وجد بعضهم تشجيعا من جماعات مختلفة فالشخصية في مجملها اما ان تكون متزنة ومتسقة مع التقاليد والعادات واما ان تخرج عن المألوف.
ويبقى في الاخير دور المجتمع والمنظمات والجمعيات الاهلية في حماية هؤلاء من عسف الشوارع والاسهام في توفير المناخ الملائم لعلاجهم فهذه الظاهرة ليست قاصرة على القاهرة وفقط بل غيرها في العديد من مدن العالم باريس والمانيا وامريكا وغيرها حيث يظهرون في انفاق القطارات وشبكات المترو.
عثمان أنور


أعلـىالصفحةرجوع
















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved