أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 21st September,2001 العدد:10585الطبعةالاولـي الجمعة 4 ,رجب 1422

عزيزتـي الجزيرة

عليك رحمة الله يا جدتي
جدتي نورة.
دخلت مرة على جدتي وهي في اخريات العقد الثامن من عمرها، ورأيت صورة طفل صغير معلقة بالقرب منها، ولم أكن رأيتها من قبل فتعجبت لمن هي؟! ومتى وضعت؟ ومن يكون هذا الطفل؟ فسألت جدتي: من هذا؟ فأجابتني وقد افتر ثغرها عن بسمة فيها من الحنان والعطف والحب ما عهدتها منها دائماً رغم تقدمها في السن، قالت: هذا ولدي، فتعجبت وبادرتها متلطفاً: ومن أين جاء؟ ومتى جاء؟ قالت: لقد كفلت هذا اليتيم، وقد ارسلوا لي صورته فوضعتها كما ترى.
ولا عجب فقد كانت جدتي صاحبة قلب كبير يسع الناس أجمعين، لم تحقد يوما على أحد، ولم تغضب من كبير فضلاً عن الصغير، ولم تتبرم من زائر، وكيف لها ان تحقد او تغضب او تتبرم وعينها دائماً على الباب لترى من القادم، ويدها على سماعة الهاتف لترد على كل مسلم سائل، أحلى أمانيها ان يجتمع الناس إليها ولا يفترقون، وودت لو جمعتهم كلهم في قلبها فقلبها أبيض بياض الثلج، صاف صفاء الماء العذب، لم اسمعها يوما شاكية ولا باكية ولا متضايقة وانى لمثلها ذاك. فحصها الطبيب يوم وفاتها ثم وجد اثر انتفاخ يسير فقال لها: متى ظهر هذا؟ فقالت: مذ ان كنت حاملاً بهذا، واشارت لابنها الاكبر الذي كان في الخمسين من عمره، وما علمنا به إلا حينها!.
كانت صلتها بربها عظيمة فإذا حضرت الصلاة نسيت كل من حولها، وتوجهت لربها شاكرة داعية متضرعة، يوم وفاتها ذهبت للمستشفى مع انها لا تريد فطال بها المقام وحضرت الصلاة فقالت: اخرجوني من هنا او خرجت بنفسي الآن، فخرجت لتصل إلى البيت وهي ولهى فبادرت إلى مصلاها وأدت فرضها.
وكانت سعادتها بأبنائها، وأحفادها غامرة، تفرح ان حضروا، وتسأل عنهم إذا غابوا، وتتضايق إذا مرضوا، رزقها الله ابناء بررة يفديها كل منهم بنفسه، ويحرص على ادخال السرور إلى قلبها، يأتمرون بأمرها ويحققون مرغوبها بقلوب ملؤها السعادة فلله دره من بر.
لا تلوموني حينما اطري جدتي بما هي أهله، فأقل حقوقها علي ان اشير إلى شيء من صفاتها رحمها الله.
كانت محبة للصغار، تعطف عليهم وتحن، وتدافع وتنافح عنهم ما استطاعت، إذا اجتمعوا حولها داروا حول صندوقها العتيق المليء بالحلوى فقسمت بينهم فخرجوا فرحين مستبشرين، بل حتى الكبار عندها يستحقون ذلك العطف فهي تحبهم من كل قلبها، فكم مرة جلست بجانبها فإذا قمت أحسست بثقل في جيبي الذي ملأته دون علمي بالكثير من الحلوى، بل ربما امطرتنا احيانا بوابل حنانها فلم تدع احدا إلا وناله نصيب منه.
تكرر مرآها لرؤيا منام أفزعها، فأرادتنا على تعبيرها، فسألنا معبراً فقال: هذه امرأة خير صاحبة أعمال صالحة.
قبل يومين من وفاتها رأى اخي رؤيا فسأل معبرا عنها فقال: ألك قريب كبير، كاف خيره شره، ليس له في الناس، وإنما هو حال نفسه، قلبه ابيض طاهر، لا غل ولا حسد؟ قال اخي: اللهم نعم، قال له المعبر: اسأل الله ان يختار له الخيرة المباركة، وبعد يومين فاضت روحها الطاهرة، صب الله عليها شآبيب الرحمة والرضوان.
كنت اسمع عنها قصة الغمامة وهي صاحبة دعوة مستجابة، فأحببت ان آخذ القصة منها مباشرة ليكون السند عالياً متصلاً فسألتها قبل أشهر: جدتي حدثيني بقصة الغمامة حين اشرفت على الهلاك، فتنهدت ثم اجابتني بعفوية وهي تذكر مرارة السنين التي مرت بها وتستعيد ذكرياتها المرة، وما آلت إليها حالها الآن من كثرة الخيرات ووفرة النعم، قالت: يا بني كان هذا قبل سنوات طويلة حينما كنت صغيرة أرعى الغنم ولم يكن عندنا من وسائل الاتصال والتقدم ما نراه الآن بحمد الله، لقد كنت أنا واختي ولما اتجاوز العاشرة من عمري، فنفد ماؤنا الآسن، وتلفت حولي بحثا عن نبع او بئر او رعاة او بدو، فما وجدت حتى ضاقت بي السبل واشرفت على الهلاك، وتذكرت سبيلاً انسيته في غمرة الهم والغم، ذلك الطريق الذي كثيرا ما نغفل عنه، انه يا بني السلاح المعطل «الدعاء» فتوجهت لربي ودعوته من قلبي ان ييسر لنا ماء نستقي منه، وما هي إلا لحظات حتى نشأت سحابة ولم يكن في السماء قزعة، وتلبدت السماء بالغيوم ثم امطرت الرحمة وتتابع الغيث وسح حتى بلل الثياب وملأ الركايا وسالت الشعاب فضلا من الله ونعمة، فشربنا حتى ارتوينا واغتسلنا وشربت الماشية وحمدت الله على النعمة والسلامة.
ابعد هذا هل نلام على حبنا لبقايا سلفنا العظام؟!! ان القلب ليحزن وان العين لتدمع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وانا على فراقك لمحزونون، فاللهم اغفر لها وارحمها وعافها واعف عنها وتجاوز عنها بمنك وفضلك وكرمك يا كريم، وكل من أمّن وقال آمين.
عبدالعزيز بن محمد الثبيتي الرياض

أعلـىالصفحةرجوع
















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved