| الثقافية
القاص عبدالرحمن الدعان له تجربة سردية متميزة رغم تقشفها وسيرها الهادىء نحو القارىء.. وله رؤية عميقة في تفاصيل الماضي.. إذ يمتلك فطرية عجيبة في تسجيل ذلك الحد الفاصل بين الماضي والحاضر من منطلق ارتباطه العفوي بتلك الصور العابرة والمشاهد المغادرة في أعماق النسيان.
صدرت للقاص الدرعان مجموعتان قصصيتان هما «نصوص الطين» 1988م وءرائحة الطفولة» 2000م وبهما سجل الراوي حضوره القوي والفاعل إذ استطاع تقديم صورة دقيقة لحالة الماضي الذي يؤرق الكاتب المثقل بلواعج الوعي واستعصاء الحلول الممكنة.. فضلاً عن ذلك فإن الراوي لديه لغة خاصة في التعبير عن آلام تلك الوجوه الشمالية الموغلة في عفويتها وفطريتها المتناهية.
وحول جملة من التساؤلات التي حملناها إلى القاص عبدالرحمن الدرعان بمناسبة صدور مجموعته القصصية الجديدة «رائحة الطفولة».. كانت لنا معه هذه المداخلات عبر «مساءلات» والتي جاءت على هذا النحو:
* بين (نصوص الطين) و(رائحة الطفولة) تقع مكابدة عصية.. قلت عن الأولى هزيمة، والثانية ماذا عنها؟!
ليست الهزيمة التي تبادرت إلى ذهنك يا صاحبي.. أعني أنها ليست هزيمة الكاتب من خلال الكتابة.. ولكنها الهزيمة التي تحمل شعور الكتابة كجزء والثقافة عموماً، بالعجز والذل أمام بشاعة خارطة الوطن العربي التي زلزلت زلزالها، وأكلت بعض أجزائه بعضها،، وانكسار المثقف الذي رمى القلم واستبدله بزناد بندقية، وعودة الأقطار الممتدة من الماء إلى الماء نحو قبورها.. وإيقاظ تميم، وتغلب، وخزاعة، وداحس والغبراء، لكن توبتي عن الكتابة لم تكن مخلصة.. من الصعب أن تغتسل من الحبر وتبحث عن عمل آخر أقل مشقة.. وهكذا جاءت رائحة الطفولة متأخرة، ومختلفة عن شقيقتها الأولى.. بينهما مواليد وئدوا، كان من الواجب أن أذبحهم على طريقتي وصولاً إلى حالة أقل يأساً، وإحباطاً.
* رائحة الطفولة تنفذ إلى النصوص، هل هذه الرائحة سلاحك الوحيد؟
سلاحي ضد من؟! هي ليست سيرة مجزوءة.. كما أنها ليست حنيناً لمكان أمين.. إنها ربما البحث عن زمان مضى قد يجيء محمولاً بنجومه وغيومه غداً أو بعد قليل.
* موت. إهانة. إخفاق. حرمان.. إذن ماذا ورثت من ذلك الزمن الطفولي الذي روجت له؟
ورثت وردة حمراء مرمية في زقاق غير نافذ.. وفراشة معتقلة فوق سطح البيت فاجأها ألم الأنثى.. ورثت الأمطار، والجنون.. وصلف الفلاحين، والبدو الذين لا يحسبون للغد حساباً.. ورثت الكثير من الأمهات اللائي لم تجفل إحداهن حتى الآن حين أصبحها، أو أمسيها بالخير.
* عبد الرحمن الدرعان.. بعد أن تكشف لنا حجم حبك للكنز الطفولي، ما مقدار ما ستقدمه من إبداع في هذا السياق؟
ما تزال هذه المنطقة بكراً.. تغري وتعد بالكثير.. واسمح لي أن أؤجل الإجابة عن هذا السؤال، لأنه من الصعب الحديث عن مخاض كبير لا أعرف كيف يكون.
* تعتمد في سردك على ومضات الاسترجاع.. والتذكر.. لا تتخيل شيئاً من الآتي؟ أعني المجهول أو المستقبل.. لماذا؟!
لا أظنني أوافقك تماماً على هذه المسألة.. لكن المتخيل المخبوء في المجهول الذي هو المستقبل ربما فات عليك لأنه كان امتداداً لمشاعر سلبية في الغالب مرتبطة بالموت والتشاؤم..
إذا كان ثمَّ من يعتقد بأن اللجوء إلى الماضي واستعادته نكوص.. وعجز، فإن الكثير من الكتّاب الذين يزعمون استشراف المستقبل لا يعملون أكثر من قرّاء كفّ فاشلين، وغالباً ما يقدمون فانتازيا ناقصة. المستقبل لو تأملنا الكثير من معطياته لوجدناها في الماضي.
* كلّ نهار غير نهار الطفولة مطفأ.. إلى متى هذه الحالة.. أليس جميلاً أن ترى الأبناء حولك ، فهم حالة طازجة من الطفولة؟
ليست الطفولة حالة مرتبطة بسنّ معينة، كم من الأطفال الذين يلزمهم عصا يتوكأون عليها أو كرسي بعجلات، لأن الكبار يريدونهم مثلهم، يقمعون نزعاتهم نحو النزق.. وممارسة طفولتهم بشكل حقيقي، وغالباً ما يفرح الكبار عندما يرون طفلاً يتقمص دور الرجل، لكن أحداً لم يفكر أن هذا الولد الذي صودرت طفولته سوف يسترد طفولته ولو بعد أن يبلغ سن الكهولة ولهذا أنت تجد من يتحدث عن مراهقين في الخمسين والستين أحياناً، لو رجعت إلى تاريخ هؤلاء لوجدتهم كهولاً بالرغم عنهم في سن المراهقة. وبعيداً عن الفلسفة أقول لك بأنني أفهم الطفولة بأنها مجموعة هائلة من القيم لم تخضع بعد للأدلجة أو للتلوث، وعلينا أن نسعى بكل ما نستطيع من (اللامبالاة) لتكبر هذه الطفولة فينا.. وبهذا المعنى يصح أن نقول إننا (أنت وأنا والقراء) أطفال قدامى. ما يخيفني فعلاً تلك الكلمة النابية القاسية التي اخترقتني كرصاصة في القلب عندما هتفت ابنتي (بابا) للمرة الأولى.. فكرت للوهلة الأولى أن الصغار جاءوا ليشيعوا طفولتنا!!
* سيعاقبك القارىء وسيشاكسك النقد. إن لم تقل أسراراً أخري غير الطفولة؟
أولاً أرجو أن تعرف أن المجموعة ليست أوراقاً مخبوءة في أرشيف السيرة، وثانياً ألم تلاحظ أن البطل كلما هزمته بشاعة الواقع، لاذ بالطفولة بحثا ً عن إيجاد معادل موضوعي.. يعني أنه لم يتوقف عند الماضي فحسب.. وهناك شيء مهم، فهذا الهروب يوفر قدراً من الحرية في الإفصاح أحياناً.. الماضي أكثر الأماكن أماناً، لأن شهوده موتى. أليس كذلك؟!
* القاص الدرعان. لماذا أنت منهك وخائر القوى (في نص رسالة ص 116) لقد أدماك الماضي واستحضرت لنا فاجعة امرأة تلوذ بالجنون؟ ألم تجد غير الألم تلوح لنا به مختتماً نصوص (رائحة الطفولة)؟!
الراوي يا سيدي هو المنهك لأنه يحاول أن يحمل على كتفيه انقاض البيوت التي هدّمتها الطفرة، والقيم التي انسحقت تحت وطأة ثقافة المال والاستغلال.. وأنين القرى التي أكلتها المدن الجائرة..
وتفشي ثقافة المقاول، والتاجر. وتراجع قيم العلاقات الاجتماعية وتفتت العائلات، ونموّ الشكّ في الآخر.. على هذه المشاهد تفيق المرأة، فتجد مكاناً آخر غير المكان الذي ألفته. وتسألني لم تجنّ؟ أسألك بدوري لم لا تجن؟ ولم تجنَّ وحدها؟ وحدها؟
من يستشرف المستقبل قارىء كفّ فاشل..
مجموعتي «نصوص الطين» و«رائحة الطفولة» ليست سيرة ذاتية..
الهروب من نمط السرد يوفر قدراً من الحرية في الإفصاح..
الراوي في قصصي هو الذي يحمل على عاتقه هذه المثبطات.
الكاتب:
عبدالرحمن اسماعيل الدرعان.
كاتب قصة ومقالة.
صدرت له مجموعتان قصصيتان:
نصوص الصين 1988م
رائحة الطفولة 2000م.
يسهم في كتابة المقالة الأدبية.
له رصيد من الأعمال القصصية المخطوطة.
شارك في العديد من الأمسيات القصصية.
الكتاب:
رائحة الطفولة (قصص قصيرة)
الطبعة الأولى 2000م
الناشر: مؤسسة السديري الخيرية بالجوف
تقع المجموعة في نحو (120 صفحة) من القطع المتوسط.
صمم الغلاف المؤلف
تعد هذه المجموعة الثانية للقاص عبدالرحمن الدرعان.
|
|
|
|
|