| الثقافية
لم تكن السلطة في يوم ما شيئا زهيدا تتجاوزه المطامح وتتخطاه الآمال. لقد كانت دوماً مصدراًَ للحس بالزمن وصياغته في المجتمعات، بحيث تغدو الفضاءات الاجتماعية حلقات تاريخية تستدير حول السلطة بمعانيها المختلفة. امتلاك السلطة للزمن يجعلها في مركز التغير والتغيير، على النحو الذي يولد المفارقة بين تغير تصنعه السلطة وسلطة يصنعها التغير.. ومن ثم تبقى كل سلطة كلفة بثباتها في المركز، ولحوحة على ألا تتغير.. هذا هو المنطق النظري الذي يمكن أن نعاين به العلاقة بين الزمن والسلطة والتغيير.
لكن هذا المنطق النظري ينحل، واقعياً، في علاقات شاملة تغدو السلطة بعض صنائعها، وتترتب في سياقها الشامل الذي تتبادل فيه صيغة الفعل والانفعال، حيث لا وجود لسلطة بشرية تملك الفعل فقط امتلاكاً مطلقاً. تبادلية الفعل والانفعال، هذه، من السلطة وفيها وبها وعليها.. يحيلها إلى بؤرة تقوى وتضعف بمقدار إنتاجها لمجتمعها ونتوجها عنه على مستويات الثقافة والمعرفة والقيم والسلوكيات والاقتصاد وعلاقات المجتمع.
هكذا تغدو السلطة، كيفاً وكماً، وجوداً ومؤثراً على سيرورة الحركة البشرية روحياً ومادياً. ومن هذه الزاوية، تحديداً، يمكن مقاربة النصوص في تشكلاتها المفهومة والملموسة، سواء كانت عادات وعلائق اجتماعية، أو مظاهر عملية ومسلكية، أوطرقاً في الإدارة والتنظيم والعمل والإنتاج، أو علامات مائزة في العمارة والفنون التشكيلية، أو مدونات لغوية أدبية يمكن مقاربتها في ضوء سلطة ما، ليس للكشف والتجلية فقط عن وقائع الامتثال والتمثل فيما هو قائم وخاص وإنما للوعي بدلالات أبعد غوراً وشمولية وإنسانية. في النصوص الأدبية كانت السلطة دائماً موضوعاً أثيراً سواء تجسدت في فرد، أو اختزلتها فكرة، أو مثلها سلوك، أو رسمتها أسطورة، أو استشرفها خيال... كأنها، في قبليتها لأي تصور لعلاقة بشرية الزمان والمكان في تصور الوجود الفيزيائي تقليديا. ومن«دبشليم» إلى «شهريار» ومن الملك «لير» إلى« كليوبترا» .. ومن المديح إلى الهجاء ومن الشعر إلى السرد ومن الأدب إلى التاريخ تتجلى للمرء تلك المساحة الغنية التي قارفها الأدب واخترقها الفن ورصدها الفكر من أجل الاحتيال لوجوده وتكفيك ما يطوقه من رأي ورؤية واستشراف كينونة فاعلة وقادرة على أن تصوغ وعياً ما بالواقع.
لكن موضوعة الصراع على السلطة وفيها تنقلنا، نصوصيا، إلى زاوية للنظر تمكننا من معاينة السلطة من داخلها، حيث تكف السلطة هنا عن توسل الأدب واستخدامه ويكف الأدب عن توسل السلطة واستخدامها، محلياً المساحة لنوع من الانفتاح الذي يستثمر المعاني الزمنية في السلطة ويعيد إنتاجها بشفافية تهتك الستر وتميط اللثام وتنطق المسكوت عنه وراء بريق مجدها الخادع وكلامها المرصع بالمثاليات والمنقوع في ذوب الإنسانية حساً وعملاً. أليست الكتابة فن المعرفة والكشف؟!
الصراع على السلطة وفيها بعدٌ غني بإحساس الزمن، وسبب هذا الغنى كيفية التغير وكميته في التاريخ بوصف ذلك محصلة للصراع مطلقاً وللصراع على السلطة تخصيصاً الله يزع بالسلطان مال يزع بالقرآن»« ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض». أن تحس بالزمن يعني أن تري التغير وتعيشه، فالسكون المطلق هو توقف الزمن، أي اللحظة المعادلة للموت بيولوجياً. وازدياد كثافة الإحساس بالزمن هو ازدياد لوتيرة الوعي بالحياة أي الوعي بمعاني القدرة على التحكم والسيطرة وفرض الإرادة، وهي المعاني التي تنتجها السلطة التي تغدو مطلباً لمتعدد عبر تغالب واصطراع.
هذا البعد الغني بإحساس الزمن في موضوعة الصراع على السلطة هو ما أنتج المدونة التاريخية بكيفية سردية، وهو أيضاً ما استدعى الرواية والمسرحية من زاوية اتساعهما تقنياً لبناء هذه الموضوعة وقدرتهما على تحليل وتركيب معناها وتخليقه، وهما فنان زمنيان بامتياز.
في رواية« دونسكو» ينجح غازي القصيبي إلى حد كبير في إحالة السلطة إلى نص سردي يقتحم فوقيتها ويفككها إلى مفاصل لا يتم التعرف على أجزائها إلا في إطار كليتها كجهاز، وهو جهاز يستمد من «الزمن» ومن «الشخصيات» الساعية إلى السلطة والمنتفعة بها والمهمشة على متنها، مادة لحدث التسلط الذي ينبني بطريقة تمسرحه بقدر ما ترصده وتقصه. وبين مسرحة الحدث وسرده، وبين موقف الراوي ومواقف الشخصيات، وبين الكلام وما وراء الكلام مساحة ثرية بالتدليل المزدوج لتيمة التسلط وبه.
هذه الرواية تحكي حدث التغيير للسلطة في «دونسكو»، وهو حكي يبتدئ بتمهيد يقرر أن حوادث هذه القصة« الخيالية» تدور في منظمة دولية خيالية تسمى باللغة العربية: إدارة الآثار والطبيعة والاجتماع والمعرفة والتنظيم، وتعرف باسمها المختصر: دنسكو. ثم تتوالى فصول الرواية معنونة بأدوار الشخصيات أو أسمائها أو بأبرز المفاصل الحاسمة في نمو الحدث الذي يستقر مركزه على تغيير المدير التنفيذي للمنظمة بعد أن انتهت فترة المدير الحالي. ولا ريب أن القارئ للرواية سيتلبس، في مبتدأ الأمر، بدلالة غير أدبية تعود إلى اقتران الرواية في الوعي بتجربة كاتبها في الترشح لمنصب المدير العام لليونسكو عام 1999م. وهو اقتران يحيل النص من الأدب إلى التاريخ، ومن الخيال إلى الواقع، ومن الرواية إلى السيرة، ومن الخلق والإبداع إلى الوصف والتدوين.. الأمر الذي ينتهي إلى تقزيم دلالته وتحجيم فضائها وتقييد مدارها المفتوح، فيستبدل الانغلاق على الواقع بما ينشأ عن النصوص الإبداعية من دلالات مرنة وذات مدى أكثر شمولاً من أن ترتبط بواقعة أو تقف عند معنى. كأن القصيبي هذه المرة« وهي ليست المرة الأولى إذا تذكرنا ما أثراه المسدي عن شقة الحرية» كأنه على موعد مع تسلط تاريخه على نصوصه، وهيمنة دلالات الوقائع على دلالات الخيال في إبداعه. لكن للقضية مستوى آخر كفيلاً أن يعفيه من تصدير مثل هذه الرواية بالقول: إنها قصة خيالية عن منظمة خيالية ذلك أن إحالة القصيبي تجربته إلى نص روائي تعني قدرته على التمرد بالوقائع من حسابات الحقيقة الشخصية المجردة والانفتاح بها باتجاه دلالة إنسانية مشخصة فنياً تعني قدرته على أن يصوغ معنى أو بمعنى أدق أن يبحث عن معنى، وذلك هو مغزى الفعل الأدبي في تعاطيه مع المعاني وإيقادها بلهب الحلم وثراء الرمز إيقاداً يفتحها باتجاه ماهو أعمق وأشمل من التاريخ، فالعلاقة بين التجربة والكتابة هي دوماً قدر من التحويل والتشكيل، وفي أدنى مستويات التحويل والتشكيل التي نقرأها في سرديات القصيبي لن نعدم الشهادة له إبداعياً لا عليه. القدرة على التحويل والتشكيل في «دنسكو» تترك مسافة فاصلة بين السارد وسرده، والمخرج وشخصياته. إنها كتابة غير مستبدة ، أي أن حدث التغيير للسلطة يتحرك، إلى حد كبير، بين يدي القارئ وفق حوارية الشخصيات والمواقف.. وذلك هو المعنى الوظيفي لبناء الرواية بناءً يستثمر المفارقة بين طبيعة الحدث ومقوماته الرمزية وخاصية التحاور والتوازي والتقابل التي تبنيها الرواية باتجاه تأسيس معنى للحدث من داخله المتعدد والمتحد في وقت معاً بمعنى من المعاني.
المدير التنفيذي لدونسكو الذي تجعله رواية القصيبي بؤرة التحول ومقصد التغيير لا يستسلم لهذا التحول ولا يذعن للتغيير، وذلك أمرّ معتاد في أفق التلقي، لكن عادية هذا المعنى هي مايغدو عبء الرواية التي تتضافر أدواتها على تحطيمه ممثلاً في شخص المدير التنفيذي واللعب بأعصابه وإثارته والعبث به. رفض المدير التنفيذي لتغييره هو ما يجسده رمزاً للاستبداد، ويحيله إلى مثال للسلطة التي لا تستمد معناها من موقعه بل من ذاته، ومن مصلحته لا من وظيفته، ومن الأنا التي تتضخم فلا ترى غيرها إلا هامشاً على مركزها وفرعاً لأصلها، إنه لا يرفض فقط هذا التغيير، بل يحزن وينكر ويحتال ويأتي من الأقوال والأفعال ما يمعن في رسم صورة كاريكاتورية له، وبذلك تبدو العلاقة بين المنصب وحامله، والوظيفة وشاغلها، علاقة درامية متوترة ومرشحة لصراع يستبدل الشك باليقين، والخطر بالأمن، ويمضي بخيوط الموقف إلى تشابك وتجادل باتجاه التقطير لمعنى غائب يزرع الفضاء باحتمالات لا يجهضها يقين.
إن البداية التي تتحدث عن «البروفيسور روبيرتو ت اينتي» منفرداً وهو يتقلب في مشاعر تؤكد اساه وخوفه من أن يسرق منه منصب المدير التنفيذي، لا تلبث ان تنكسر فرديتها بدخول كبيرة مستشاريه «سونيا كليتور» التي تغدو مثالاً على المنتفعين بشكل مباشر او غير مباشر، حيث يصبح التغيير تهديداً لمصالحهم، لأنه بمعنى ما تغيير لهم، هنا يغدو للرواية قدرة على الشفافية والبصر الذي يجاوز سطوح الأشياء بحثاً عن معناها، وهو معنى لا يتشكل في الاشياء مفردة ومعزولة عن سواها، فالاشياء هكذا لامعنى لها، إن معناها في علاقاتها المختلفة مع غيرها، وهكذا لايغدو لفردية البورفيسور روبيرتو معنى نترجمه في: سلطة المدير التنفيذي إلا باستحضار علاقاته التي تبدأ من سونيا ومن يحيط بها ولا تنتهي عند الرؤساء والوزراء وأصحاب النفوذ. سونيا، الآن، وجه من وجوه السلطة، وهي إذ تقوم بوظيفة كبير المستشارين فإن علاقتها المعرِّفة لها والمحدِّدة لدورها عملياً لاتصدر عن موقعها في سلم السلطة بل عن علاقتها بشخص المدير وبشكل ذاتي وليس بشكل موضوعي، ونفعي وليس عملياً، ومن ثم لايغدو حرص البروفيسور على البقاء مديراً أكثر من حرصها، ويبدو الحوار الذي يدور بينهما دالاً على نموذج المناخ الذي يصنع فردية السلطة، ويبني هرمها المقلوب، ويمكن ان نلمس من خلال هذا الحوار ابرز معينات تلك الدلالة:
1 لا تبدي عبارة البروفيسور وثوقية مطلقة في ثباته رأسا لهرم السلطة، اذ هي عبارة استدراجية تحمل الريب والتشكك، وتركن الى بعض الاساغة والتعزية والتهوين في ان يترك موقعه، ووظيفة ذلك، في سياق الحدث، تأتي من تجديد بناء السلطة عليه، ليغدو منتوجا متجدداً في ثباته عبر ردود الفعل النقضية المستبسلة من قبل سونيا.
2 التأكيد على مجد السلطة وأبهتها، فالحوار يرينا من السلطة التشريف والتكريم والراحة والاطمئنان والعز والقوة والحرير والنعيم والأضواء والجماهير والهدايا والاستقبالات والميادين المسماة باسمه والطائرات الخاصة والبساط الأحمر في كل مطار ورؤساء الدول والوزراء والحاشية المحيطة وآلاف الرسائل التي تلتمس عملاً.. الخ وهو جانب نراه فقط من اجل حجب الدلالة الجارحة الغائبة وراء ذلك والتي يلخصها التساؤل: لماذا؟ لماذا كل هذا؟ من يصنعه؟ ولمن؟..
3 صناعة الوعي الذي يولد الفردية والإطلاق فيبني للسلطة مداراً مطلقاً لا نسبياً، ومغلقاً لا مفتوحاً، وجاهزاً ونهائياً لا تمحصه الظروف، ولا تختبره وتصوغه وتصيّره الوقائع الفعلية، إن البروفيسور/المدير «موصوفاً من قبل سونيا» انسان غير عادي، انسان عبقري، ليس كالإمعات الذين سبقوه، مكانه الطبيعي في هذا المقعد، مكانه الطبيعي عند دفة قيادة العالم، هذه ادارته، كل المنجزات منجزاته، كل المسؤولين مخلصون له.. وهذا الخطاب الزائف المنافق اساس جوهري في تزييف وعي التسلط وتبريره وصياغته مفرداً.
4 ثلب التغيير والقدح في التجديد.. «فالدماء الجديدة هذه الايام لاتحمل سوى فيروس الايدز» «ومن يحتاج الى دماء جديدة اذا كانت الدماء القديمة تعمل بكل حيوية»؟ «والملل طبيعة البشر الغادرة» هنا تثلب سونيا التغيير من اجل تبرير الثبات، وتعيب الدماء الجديدة لتسوغ القديمة، وتنكر الملل الذي يقترن في عبارتها بالغدر لتجعل الوفاء قانون علاقة اخلاقية للثبات، اي اننا امام منطلق عكسي لعلاقات الجدة والتغيير بما يناقضهما بحيث يتأسس في الوعي مطلقا قاعدة الاصل للثبات والتقديم والفرع للتغيير، والجديد، بما يحجب حقيقة اننا لانعرف ثباتا ولا قديما الا بالتغيير والتجدد، وهما الحركة التي يستطيع الوعي ان يجتلي فيها حقيقته التي لا تتحقق في السكون المطلق.
5 التأويل لمواد القانون وبنود النظام والقرارات، فسونيا تقرر، في مواجهة احد القرارات، انه «لا يوجد قرار غير قابل للتأويل والتفسير» والمستشار القانوني يقول: «اعددت مذكرة قانونية وافية اثبت فيها بما لا يقبل الشك ان هذا القرار لا يسري على السيد المدير التنفيذي الحالي، لأنه صدر خلال ولايته، ولكنه يسري على اي مدير تنفيذي قادم. ولو قلنا بسريانه على المدير التنفيذي الحالي لكان معنى ذلك اننا نجري النص بأثر رجعي.. الخ إن التأويل هنا بما يعتمده من لعب بالدلالة وتصريف القول واستثمار للمساحة التي تفصل بين اللغة والواقع، والصور الذهنية والاشياء، والمجاز والحقيقة، والرسالة والسياق هو انشاء لمنطقة «السر» التي تقود الى ماهو معتاد من حساسية تجاه السر ومن يملكه، ولهذا يرى امبرتو ايكو في اطار حفره عن جذور خفية لأشكال التأويل «أن تلاشي النموذج الهرمسي قد قاد الى الاعتقاد بأن السلطة تكمن في جعل الآخرين يعتقدون في ان جهة ما تمتلك السر السياسي والسر ينقل عن جورج سيمال يمنح من يمتلكه موقعا استثنائيا، فالسر شبيه بجاذب مغناطيسي له محددات اجتماعية خاصية. هكذا يغدو التأويل فعل صياغة للمعنى وتشكيلاً للمعرفة مثلما هو امتياز سلطوي، فالمؤول «اسم فاعل» يملك حقاً يستمده من سلطة ما، ويملك وصاية على المعرفة بمعنى من المعاني، لهذا كان التأويل في هذه الوجهة وبشروطها مستوى باطنياً ومجازياً في دلالة النصوص، أي أنه خاص وليس عاماً ومحتكر وليس مشاعاً، وإيديلوجي وليس معرفيا، وهو أداة مثالية لفرض الذات وإقصاء الآخر، ومن المؤكد أن فتراته الخصبة تاريخيا ستكون في لحظات التحول التاريخي وفي لحظات الانغلاق وانسداد مجرى الزمن، ففي الحالتين تغدو المعرفة وسيلة تكييف تاريخي أكثر من كونها وسيلة تنوير وتحرر من عقال الجهل.نخرج من الحوار إذن وقد تشخصنت السلطة في دونسكو، فلم يعد المدير العام نتاج المؤسسة بل أصبحت المؤسسة نتاج المدير العام/البروفيسور، أو هكذا يريد لها أن تكون.
zayyad62@hotmail.com
|
|
|
|
|