| الثقافية
فالمعلم مدور« الذي تخرج من مدرسة المعلمين يتطلع نحو مستقبل آخر، ويواجه الأفكار التقليدية لمجتمعه ويحاول التمرد عليها.
وهناك حوار بين اثنين من الأشخاص يعكس تباين الرؤى بين الجيلين:
هل أنت في السجن؟
فيرد الآخر: أنا في قريتي فكلاهما سواء.
ولا احد يعرف ايهما افضل: هل العزلة حيث السكون والوتيرة الواحدة، والصفاء الدائم، أم الحرب وما تأتي به من متاعب ودمار؟ ففي الحرب تعاني القرية من صنوف الحرمان أضعاف ماكانت تعانيه قبل كسر العزلة فالحرب جاءت بالمجاعات ويمكن لشخص يحمل بعض الطعام الى أسرته أن يفاجأ بشخص آخر يشهر نحوه بندقية ويأخذ منه ما يحمله من غذاء.
وفي رواية «الأفيون والعصا» نعود مرة أخرى مع الكاتب الى منطقة البربر، ولكن أثناء حرب الاستقلال ضد المحتل الفرنسي، فحرب الاستقلال وصلت أيضاً الى القبائل البربرية المنعزلة، وينمو الوعي لدى طبيب كان من المصابين باللامبالاة، فالدكتور« بشير الازرق » يترك حياة الترف في الجزائز العاصمة، ويتوجه نحو الجبل حيث توجد قرية «تاله» مسقط رأسه التي تعيش في حالة حرب انها دائما نفس القرية التي تحاصرها الجبال، ولكن هذه قرية غير سلبية، فهي تشترك في حرب التحرير لدرجة انها تباد تماما في هذه الحرب.
وبعد أن تنتهي الحرب يعود الى القرية من كتبت له السلامة راحوا يحملون سخطهم وقلقهم على المستقبل، ويعاود البعض الرحيل الى أوروبا فتفرغ الأسواق من صخبهم العنيف، ولا يعود هناك أحد يعاكس البنات وهن يرحن، ويأتين من أجل ملء الجرات، ومن الجدير بالذكر أن الكاتب مولود معمري كان مهتما بدراسة الأدب العربي المكتوب باللغة الفرنسية، وقد رأى ان هذا الأدب ساعد في إثراء قضايا التحرر الأفريقي عن الاستعمار الفرنسي، وآمن أنه بهذا الأدب أمكن منازلة الفرنسيين في بلادهم ونقل وجهات نظر الكاتب العربي، والأفريقي للقارئ في باريس الذي لم يكن يسمع سوى نظرة واحدة.
عند القراءة الجديدة لمعلقة امرىء القيس، والوقفة التأملية النقدية فإن أمواجاً من الدلالات تتوالد وتنداح وفق رؤية جديدة، وفي هذا المقال محاولة أن نقرأ بعضها.
يفتتح امرؤ القيس معلقته أو قل ديوان الشعر العربي في مرحلة النضج الفني بمشهد الديار المهجورة والبكاء أمام جنازة الحياة الإنسانية الحياة الظاغية. فوقف واستوقف ليتأمل حقيقة الوجود، وانتهى به تأمل الحياة العميق الى هذا الموقف المأساوي الحاد، وما أكثر ما انبثقت فكرة «الفناء» من صميم «الحياة» التي يتأملها أو يقبل عليها الشاعر الجاهلي، فبكى واستبكى على المصير الإنساني المفجع، بقوله:
قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
بسقطِ اللّوى، بين الدَّخُولِ، فحومَلِ
وليضفي على تجربته صفة الواقعية بدأ بذكر الأماكن، ويصفها بالبقاء بالرغم من تقدم الزمن عليها ليكون ذلك ادعى الى تجديد الأحزان:
فتُوضِحَ بالمقراة لم يعف رسمُها
لما نسجتها من جنوبٍ وشمالِ
تَرَى بَعَرَ الآرامِ في عرَصَاتِها
وقيعانِها، كأنَّهُ حبُّ فلفلِ
وتلمس نبرة الحزن في ثنايا البيت على تلك الديار إذ انها اصبحت ملعباً للوحش بعد خلوها من اهلها، فيرثيها لذلك، وليعمق الأثر بالحزن والوجع ان يرى فيها بعر الآرام بعد الاحبة. ويتواصل حزنه وبكاءه، ويتذكر يوم ا لرحيل يوم وقف وقفة حيرة وحزن:
كأنَّي غَداةَ البين ، يَومَ تحمَّلموا
لدَى سَمُرات الحيِّ ناقِفُ حَنظَلِ
شبه ما جرى من دمعة لفقد الأحبة بما يسيل من عين ناقف الحنظل، وانما خص ناقف الحنظل، لأنه لا يملك سيلان دمعه. إنَّ امرأ القيس يكثر البكاء ويسكن إلى احزانه ومواجعه مما يدل على رومانسية الشاعر وخاصة حينما يتداوى بالبكاء:
وإنَّ شفائي عبرٌ مُهَرَاقةٌ
فَهَل عندَ رسمٍ دارسٍ من مُعَوَّلِ؟
مساحات التبادل الشعوري:
إنّ إدراك الشاعرالجاهلي للعلاقات الكونية الذي ترسمه قصائده لا يقبل الانفصال لتلاحمه بعلاقات التفاعل والتراسل، حتى تتعدى الكيفية التي تندرج فيها العلاقات وتتفاعل أولوية التشبيه الذي تقف اداته كالحاجز دون التمازج الكامل وتصل بنا الى الادراك المنطقي للاستعارة، لأنّ التشبيه لا يملك ذلك التدخل كما تملكه علاقات الاستعارة التي تحتل اولويات الادراك الوجداني، فهي لا تقيم فواصل وتتراسل مدركات الشعور بانسيابية دون حواجز تفصل بين الاشياء وتقطع تداخلها.، وهذا ما نلمحه في معلقة امرىء القيس عندما نستغرق في عناصرها لنكتشف عن العلاقة الدلالية وبنائها التركيبي. فيفتح مسيرته ويبدأ رحلة التبادل الشعوريبالتشبيه الذي يدني بطرفيه الى حال الاتحاد، ويتابع السير حتى يتحول هذا التشبيه الذي تقف اداته كالحاجز ليصل الى الاستعارة «التمازج الكامل» ليقع اي من طرفي التشبيه موقع الآخر دون حواجز منطقية، ليجعل من الليل رمزا يسمع مناجاته:
وليلٍ كموجِ البحرِ أرخى سُدولَهُ
عليَّ بأنواعِ الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبهِ
وأردفَ أعجازاً وناء بكلكلِ
إنَّ الحوار هنا أحادي الجانب، وبأدوات التشخيص التي أملت له إمكانية التقمص الوجداني.
ويمد الشاعر الجاهلي وجوده من منطقة التعاطف الوجدان على مساحات الكون من حوله، فهو كلي الوجود يهيمن على الكون ويستغرق فيه ويتمازج معه، وله وجوده في كل ما يحيط به فيمزجه بمشاعره ويخلع عليه إحساساته فاذا جميع الاشياء تبادله الاحساس، ويقيم معها علاقات تبادل شعوري فهو ليس حيادي النظرة ولا يرى نفسه منعزلا عن الكون بل ممتزجا فيه، وشعوره هو المركز الكوني للموجودات، ومنه ينطلق وإليه يعود ليجتلي وجوده على نحو يجعل من الموضوع ذاتاً ومن الذات موضوعاً. يسقط الشاعر الجاهلي احساساته ومشاعره على ما حوله من موجودات الكوت وتحت مظلة التبادلات العاطفية بعيداً عن العلاقات المنطقية، فكل ما في الكون مرايا له ينعكس عليها شكل شعور «الأنا». ويعد امرؤ القيس حامل لواء هذا التبادل الشعوري «الحواري»حيث يقيم مع الليل مناجاته وحواره:
ألا أيُّها الليل الطويلُ ألا أنجلِ
بصبحٍ، وما الإصباحُ منك بأمثلِ
فيا لك من ليلٍ كأنَّ نجُومه
بكُلِّ مُغَارِ الفتلِ شُدَّتْ بيذْبلُ
إنها «الأنا» حين تستجلي وجودها فتنقسم على نفسها فتتخذ من الكائنات مرايا لها تعكس عليها مشاعرها.
وأخيراً وإن أدهشتنا المعلقة بواضح معانيها فإنّ في أعماقها ما لا تقع عليه عين.
|
|
|
|
|