| الثقافية
تحدّثتُ في مقالات سابقة عن شعرنا المحليّ، مطالباً بتعليق جرس المراجعة الشاملة لمشهد شعري يمتد منذ منتصف القرن العشرين وحتى الآن ويعج بكثير من الاسماء التي تتراوح بين شاعر يجري ولا يُجرى معه وشاعر لا تستحي أن تصفعه، ووجوب التصديّ الجادّ لهذه المراجعة ولو لهدف واحد هو تسمية الأشياء بأسمائها، وقلتُ إن الساحة شهدت وتشهد شعراء توقفوا عن الانتاج عندما نضب ما لديهم احتراما لتاريخهم واسمائهم وآخرين ما يزالون مصرين على الحضور الاعلامي رغم عجزهم وقصورهم لاسباب تعود اليهم او الى من يغرّر بهم من المستفيدين واصحاب المصالح ممن يستفيد من مكانتهم او صداقتهم أو يستثمر حضورهم الإعلامي السابق في أذهان الجماهير حتى ولو كان ما لديهم قد انتهى أو أصابهم الإفلاس على المستوى الإنساني أي في أصالة الرأي والمواقف والقضايا المتناولة التي بنى بعضهم مجده السابق عليها، وحيث ان العجز والقصور والإفلاس والنضوب قد لا يكون في المستوى الفني فقط، وحيث ان المستوى الانساني والاحساس بكرامة الكلمة ومسوؤليتها اكثر اهمية من مجرد الابداع المبني على الجماليات وامتلاك ادوات الانتاج الشعري من لغة وبلاغة وخبرة في الصياغة ومن حيث ان من كان شاعراً جمالياً او تقليديا نفعياً وصولياً وتحول وتطور الى شاعر انساني يؤمن ويطالب بحرية الفن والإنسان ووجودهما والعلاقات المختلفة المتشابكة مع ذلك هو في الواقع إنسان طبيعي يتطور الى الافضل ويعرف اخطاءه ويعالجها ويحاول تحسين ادائه الفني واداء رسالته الحقيقية من جديد وبروح ورؤيا ومواقف جديدة وعلى العكس من الآخر الذي باع او يبيع روحه ورؤيته ومواقفه باغراض ومطامع دنيوية زائلة وبحيث لا تؤثر انتكاسته وارتداده على الفن والشعر والابداع بقدر ما يؤثر على صاحبها نفسه، مما يجعل هذه الفئة هم أولى الشعراء بمراجعة النفس والرأي والموقف وأولى واشد حاجة من غيرهم للتنبيه والتوعية والايقاظ من السبات الجديد الذي دخلوا فيه بارادتهم او على الرغم منهم وتحت قوة عوامل لضعفهم دور كبير فيها وفي مساعدتها على النيل منهم ومما يجعل احتفاء وسائل الاعلام بهم وبانتاجهم الجديد جريمة في حقهم بقدر ما هي جريمة في حق الفن والشعر والابداع وفي حق الناس والانسانية ايضاً. هناك شعراء واكبوا تأسيس هذه البلاد وتوحيدها في منتصف القرن العشرين وقالوا في مناسباتها شعراً تقليدياً كثيراً مثل ابن عثيمين والعزاوي والخطيب والزركلي وغيرهم ولاتزال ساحتنا تشهد امتداداً لهم لا يتقوف. وهناك شعراء واكبوا بدايات النهضة التعليمية والثقافية في هذه البلاد ومنذ منتصف القرن العشرين «ايضا» وحتى الآن، وقام شعرهم على التقليد ما بين مقلّد لمدارس الشعر التي شهدتها مصر مثل الديوان وابوللو وغيرها وما بين مقلّد لشعراء المهجر، ولا تزال ساحتنا تشهد امتدادا لهم لا يتوقف ايضا، ومن اهمهم عبدالله بن خميس وحسين سرحان وطاهر زمخشري وغيرهم.
ولم يظهرالتأثر بشعراء التفعيلة العرب «عندنا» إلا في اواخر الستينيات التي ظهر على آثارها جيل شعراء الثمانينيات وانتهت بنهايتهم فترة التأثر بشعراء التفعيلة العرب الكبار كالسياب ونزار ودرويش، وان كان تأثير هؤلاء الشعراء العرب الكبار يبدو واضحا لدى كثير من محاولي الشعر الجدد الذين تبدأ محاولاتهم «عادة» بالتأثر والتقليد المدفوعين بالانبهار والاعجاب بالاسماء الكبيرة ذات الحضور الاعلامي الطاغي.
وبالنسبة للشعراء الجدد من شعراء التسعينيات والذين يمارسون فنهم حتى الآن فلم تتضح معالم مشهدهم حتى الآن ولم ينالوا ما ناله سابقوهم من حفاوة اعلامية ونقدية على الرغم من ان بدايات بعضهم توحي بامكانية وجود شعراء مجيدين ومتميزين وأصيليين، وانا لست اقصد هنا سوى شعراء التفعيلة الحديثة جدا والتي تختفي في قصائدها الايقاع العالي ونبرة الخطابة والشعارية والرومانسية المريضة ايضا وشعراء قصيدة النثر الحديثة جدا «ايضا» والتي ابتعدت عن السجع والتففية والتوازن وايقاع النبر وتقليد ومحاكاة رواد هذه القصيدة من الغرب وغيرهم في عودة الى ايقاع النثر العربي الصافي الذي يدخل منطقة الشعرية بالشعر وحده وبعيدا عن مساعدة عناصر كانت تتواجد في الشعر وتتعالق معه كإضافات وازياء خارجية لم يعد غيابها يؤثر في الشعر بقدر ما أصبح يعطي الدليل الأكبر على الشاعرية والأكثر وضوحاً على الفرق بين الشعر والنثر من جهة وعلى الفرق بين الشعر والنظم من جهة أخرى. هذا المشهد الحافل بحاجة الى مراجعة دقيقة ومحايدة تبني معاييرها على الفن والشعر والانسانية، وليس على «أو يؤثر فيها» عامل آخر لا علاقة للفن والشعر والإنسانية به كالمصلحة والخوف والمنفعة والشللية والصداقة وتبادل الترويج الاعلامي او على مراعاة قواعد واعراف فكرية واجتماعية واخلاقية ليس للفن ولا للشعر ولا للانسانية اي علاقة بها.
ما يصح على مشهدنا الشعري المحليّ يصحّ أيضاً على مشهدنا الثقافي بشكل عام، وبكل جوانبه الفكرية والاعلامية والتعليمية والابداعية، ما يتمّ انتاجه تحت مظلة رسمية وما يتم انتاجه بجهود فردية منفردة او متكاتفة. ابتداء من هذا المقال، وفي مقالات قادمة، سأحاول مقاربة هذه المشاهد بطرح الأسئلة ومحاولة الدخول في حوارات هادفة مع اصحاب الاراء المختلفة بهدف الوصول «مبدئياً» الى تصورات واقعية حول واقع ثقافتنا وابداعنا واسباب ما تعجّ به ساحتنا من سلبيات وعوائق تقف في سبيل اللحاق بالآخرين، إذ إن التفوق عليهم او التقدم عليهم «ثقافياً وابداعياً» مطلب مستحيل «الآن» وأمام واقع ثقافي وابداعي مرير ويشي أكثر ما يشي بالعجز والخوف والسعي الى الوراء.. أي التخلَّف.
إذا استطعنا الوصول إلى هذه التصورات، يبدأ التشخيص ومعرفة العلل والأمراض والأوهام وأماكن الفساد وأسبابها ووسائل الحدّ منها إلى أن يتم علاجها، وإلى أن يتم الوصول إلى نقطة البدء للانطلاق الى الهدف الأسمى الذي تسعى إليه كل ثقافة إنسانية حرّة ومسؤولة في محاولاتها الجادّة لتحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه من درجات الكمال أو مواكبة العصر على الأقلّ. وسنبدأ بالثقافة لانها تشمل الفكر والاعلام والتعليم والابداع، وبمختلف وجوه الابداع وأنواعه، وما يتعالق بها ويؤثر في وجودها من ظروف وعوامل وقوى فكرية وسياسية واجتماعية داخلية وخارجية.
|
|
|
|
|