| مقـالات
منذ عصر التنوير الأوروبي والمثقف عموما يلعب دوراً بارزاً في تشكيل وتثبيت جملة من المفاهيم والقيم الاجتماعية والأخلاقية، ويساهم بشكل جاد في ارتقاء المجتمعات آفاق جديدة. فتمكن، بذلك، من أن يصبح رقيباً على العصر وشاهداً وضميراً حيا فيه، وكذلك متحدثاً وممثلاً لمن لا صوت لهم.
إلا ان قراءة متفحصة لواقع الثقافة والمثقف في بلداننا العربية، وطبيعة العلاقة التي تربط بينهما وبين المجتمع نلحظ تراجعا واضحا في دور المثقف، وتغييبا كاملا للهم المجتمعي في مختلف نتاجات المثقفين العرب. واذا حاول البعض رد هذه الاشكالية لعدم قدرة الثقافة العربية على مسايرة التطور وتلبية الحاجات المستجدة في المجتمع، من قوى وتغيرات وقضايا جديدة، والمساهمة بتقديم الحلول الملائمة لها. فإننا، وقبل ان نذهب بعيدا مع هذا الرأي، لا بد ان نتفق اولا على محددات اساسية لكلا المفردتين (الثقافة، المجتمع)، لنتعرف من خلالهما على جوهر العلاقة التي تربط المثقف بمجتمعه.
هناك اجماع يكاد يكون عاما بأن الثقافة هي «نسيج من التقاليد والتصورات والمعارف والقيم والاذواق التي يمتلكها مجتمع ما، ويمارسها في حياته اليومية وسلوكه الاجتماعي. وهي بالنهاية حصيلة تجارب وخبرات هذا المجتمع بكل نجاحها واخفاقها. وتشكل في العموم منظارا يحدد وعي المجتمع ورؤيته للاشياء». اما المجتمع فهو «تنظيم انساني يضم مجموعة كبيرة من البشر متوافقين، متوحدين حول رمز ما ومجتمعين على أساس عنصر القرابة أو تصور فلسفي أو ديني معين».
وانطلاقا من هذا المفهوم لكلا المفردتين يمكن القول ان المثقف هو «ذلك الانسان الذي يدرك ويعي التعارض القائم فيه وفي المجتمع، بين البحث عن الحقيقة العلمية وبين الايديولوجية السائدة مع منظومتها من القيم التقليدية. وما هذا الوعي سوى كشف النقاب عن تناقضات المجتمع الجوهرية» وهو معني بشكل آو بآخر بالنهوض وبمسؤولية التغيير على اعتباره متوفر على رؤية خاصة للأشياء خارج النطاق الثقافي الذي يحكم المجتمع وعامة افراده. وهذا يعني ان المثقف، بشكل عام، يتأثر بالمجتمع الذي يعيش فيه وبالثقافة التي يتفاعل معها، وهو بدوره يؤثر فيها من خلال ابداعاته الفكرية ونشاطاته العلمية.
وهذا يعني تفاعلا متبادلا، يتطور ليأخذ شكلا من اشكال التلاحم الحقيقي بين المثقف ومجتمعه في حال الازمات، او تعرض الثقافة اليومية الى تحديات خارجيه، كما هو حال الثقافة العربية اليوم والتي تتعرض لامتحان قاس سواء من أبنائها أو من الثقافة الأخرى. إلا أن واقع الحال ينبىء بأن التلاحم غير موجود وأن ثمة غربة واضحة وعزلة مستحكمة تفصل المثقف العربي عن أبناء مجتمعه. البعض حاول تحديد أسباب هذه العزلة بردها إلى المثقف الذي اختارها نتيجة تعاليه ونرجسيته وسلطويته ايضا، بجانب انبهاره بالغرب وثقافته. فيما أرجع البعض الآخر أسباب هذه الاشكالية إلى المجتمع نفسه والى التخلف والجهل والشرذمة التي تعاني منها المجتمعات العربية إضافة الى تفشي الأمّية والتفكير الغيبي بين صفوفه.
واذا كانت الثقافة الحقيقية الفاعلة هي نتاج معادلة التفاعل الخلاق بين المثقف والواقع، بين الرؤى الذهنية والوقائع الحياتية الملموسة. وان أي تغليب لأحد طرفي المعادلة يقود إلى خلل كبير، فهذا يؤدي الى ان الأسباب متداخلة ومتشابكة، وأن حصر المسؤولية في أحد الطرفين دون الآخر هو رأي يجانب الصواب ويزيد من تعميق الأزمة القائمة. مع التأكيد على ان المثقف هو المعني الأول ببناء مشروع ثقافي عربي وسلطة ثقافية عربية، تواجه كل أشكال الهيمنة والاستباحة التي تواجهها ثقافته في العصر الراهن، وهذا مرهون، وقبل كل شيء، بمساهمته الحقيقية في بناء قدرة المجتمع على مواجهة تحدياته والخروج من أزمته الحالية، الأمر الذي يدعو (وكما ذكرنا سابقا) إلى تلاحم عضوي بين العطاء الثقافي وبين حاجات المجتمع الأساسية. وهذا منوط ليس بالمثقف وحسب، بل بالمجتمع الذي يعيش في محيطه أيضا.
وفي ضوء هذا الكلام لا بد من الوقوف على أسباب هذه الاشكالية، وتسليط الضوء على أبرز العوامل التي أدت إلى حالة الاغتراب والانفصام التي يعانيها المثقف العربي من مجتمعه، والعائدة إليه أولاً، فيمكن إيجازها بما يلي:
انغلاق المثقف وتحوله إلى السلبية نتيجة احساسه بالعجز وعدم التأثر فيما يدور حوله من أمور، وبالتالي عجزه عن بلورة رؤى وأفكار مجتمعية، يتبناها المجتمع ويلتحم بها ويناضل من أجلها. إذ إن المثقف هو القادر على ترجمة آمال وآلام وتطلعات المجتمع من خلال كشفه وتحليله وفهمه لما يرنو إليه هذا المجتمع في اعماقه. فمعظم المثقفين العرب انشغلوا عن هذا العمل لأسباب ذاتية أو موضوعية فتعطل دورهم وقدرتهم على التغيير.
نرجسية المثقف العربي وابتعاده عن ممارسة دوره الطليعي في المجتمع، مدفوع بإحساسه بالتفوق إزاء أفراد مجتمعه، التفوق النابع من شعوره بامتلاك ناصية العلم والمعرفة وسط بيئة متخلفة تعاني من طغيان الجهل والأمية، فابتعد، بذلك عن الغوص في هموم المجتمع وانتاج ثقافة أصيلة تخاطب هموم الجماهير، ما أدى إلى كساد بضاعته بانصراف المجتمع عنها وعن صاحبها.
فشل المثقف العربي، عموما، في تحقيق تثاقف حقيقي وتمازج خصيب خلال انصرافه إلى الاهتمام بالآخر (الغرب) وهذا الفشل أدى إلى اختراق غربي ولّد تشوهات كبيرة في بنية بعض هياكل المجتمع العربي.
الازدواجية الثقافية التي يعانيها المثقف العربي نفسه، بين تراثه الثقافي العربي الأصيل وبين الثقافة الغربية. هذه الازدواجية انتجت فكرا مشوشاً حائرا بين الأصالة والمعاصرة. ولم يستطع المثقف رغم كل محاولاته حسم هذه الازدواجية، بل كل ما قدمه كان عبارة عن حلول توفيقية لم ترق لمستوى الحل الجذري القادر على انتشال المجتمع من حيرته وضياعه.
عزلة المثقف العربي في برجه العالي وعدم انخراطه في مشاكل الشعب معتبرا ان الثقافة قضية كونية لا علاقة لها بخصوصية الشعوب والمجتمعات، فعزف بذلك عن ممارسة دوره التاريخي تجاه شعبه ومجتمعه، على اعتبار أن دوره الحقيقي في معالجة مشكلة الانسان أينما كان.
هذه إذن أبرز العوامل التي أسرَت المثقف العربي وأودت به بعيدا عن مجتمعه، هذا المجتمع الذي لا يمكن تبرئته كلياً من المساهمة في تفعيل الأزمة، وإن لم يكن متقصدا ذلك في أغلب الأحيان.
نقول هذا ونحن متيقنون أن المجتمع هو الوحيد القادر على تيسير مهمة المثقف أو تعسيرها، فإذا كان المجتمع متخلفا، فإن مهمة المثقف، ستكون بدايةً، تخليص هذا المجتمع من براثن التخلف والجهل، وهذا سيقوده حتما إلى معالجة الانسان ذاته، الانسان بكل ما يحمل من مواقف واتجاهات وقيم، وبمعنى آخر معالجة البيئة الثقافية السائدة في هذا المجتمع. وهنا تتوحد الوسيلة مع الغاية. وهذه مهمة شاقة يتصدى لها المثقف. إذ كلما كانت ثقافة المجتمع متخلفة أدت إلى انحطاط مستوى المثقف وكلما ارتفع مستواها، من حيث تراكم الانجازات الفكرية والمادية وممارسة الحرية والديمقراطية الفعلية وتوفير الامكانات وتهيئة الجو المناسب للابداع وممارسة النقد البنّاء، ارتفع مستوى المثقف وازداد عطاؤه وساهم بفعالية في تطوير ثقافته وتقدم مجتمعه. فثقافة القبيلة لا يمكن ان تنتج إلا مثقفاً قبلياً.
كما أن عملية التغيير تزاد صعوبة كلما كان المجتمع محافظا. فانغلاق المجتمع يضع المثقف وجها لوجه أمام منظومة متكاملة من المعوّقات الاجتماعية والنفسية والثقافية المناهضة للتغيير. وفي أحيان كثيرة تؤدي إلى اجهاض كل محاولات التغيير التي ينشدها المثقف.
وإذ نقول هذا، فإننا نعترف وبخجل أن مجتمعاتنا العربية تمتلك نصيبا وافرا من التخلف والجهل وتفشي الأمية، ليست الأمية الثقافية وحسب، بل الأمية التعليمية ايضا. وهذا يؤكد بأنها ساهمت وتساهم في غربة مثقفيها وانفصامهم عنها، وعوامل الجهل والتخلف هذه لا تلغي مسؤوليتها.
هذا إلى جانب عوامل عديدة أخرى، يمكن ردها إلى طرفي القضية معا (المثقف والمجتمع). وهنا لا بد من الاقرار ان بلداننا العربية تعج بأرباع وأنصاف المثقفين من خريجي المعاهد والجامعات والذين تحصّلوا على قسط لا بأس به من التعليم، بجانب مستوى ضحل من الثقافة. واذا كان لكل عصر رجاله، فقد توهم هؤلاء بأن رجال هذا العصر ومثقفيه، وهم على كثرتهم، وباهتمامهم الشديد بثقافة التسلية والمتعة أغروا المثقف العربي للتنازل وتقديم ثقافة رخيصة وسطحية وهزيلة، تتناسب والمستوى الذي يبحث عنها مدعو الثقافة هؤلاء في صفحات بعض المجلات والكتب الباهتة. وهذه مسؤولية المثقف، إذ إن غياب الثقافة الجادة والمسؤولية التي تبحث في أعماق المجتمع ومشكلاته وتقديم الحلول الموضوعية لتساؤلات أبنائه على اختلاف مستوياتهم الثقافية والتعليمية، ووجود الصعوبات التي يضعها المجتمع، بحكم تخلفه وجهله، لا يعفي المثقف من مسؤوليته. وإن كانت المسؤولية في هذا الإطار متبادلة ومتشابكة، لكنه معني بها اكثر، على اعتباره حامل رسالة ومؤدي أمانة، ومسعاه الرئيس هو العمل على الارتقاء بالمجتمع وتخليصه من أمراضه المزمنة ولن يثنيه عن ذلك كل العقبات والمشاق التي تواجهه.
لذا، ومن أجل تجسير الفجوة القائمة بين المثقف العربي ومجتمعه، لا بد للمثقف ان ينطلق في تفكيره من دراسة وفهم واقع مجتمعه المغلوب من أجل ايقاظه من سباته العميق وتوعويته بالتحديات المحدقة به من كل صوب. وهذا يتطلب منه الاهتمام المباشر بالهموم اليومية لهذه الجماهير ومخاطبتها من موقع القول والفعل. إذ إن معظم المثقفين العرب، ومن أسقف القول، أنهم لا يزالون يكتبون لأنفسهم او لبعضهم، ويخاطبون بعضهم بلغة لا يفهمها إلا قلة قليلة خارج دائرتهم، فأضحت كتاباتهم ضربا من الترف الفكري فهي لم تعد تلامس هموم الشعوب ولا تثير اهتمامهم وبالتالي فإن الجماهير غير مبالية أيضا لما يكتبون ويقولون.
فحين يتم التركيز من قبل المثقف العربي على معالجة الواقع بأسلوب علمي تحليلي انتقادي وبلغة سلسة تربط المتلقي بالنص وبالتالي بمشاكله وهمومه الفردية والجماعية، ويربي فيه ملكة الانتقاد العلمي الذاتي والموضوعي، فذلك كفيل بأن يخلق على المدى الطويل مجتمعاً واقعياً واعياً يؤمن بالمثقف وبأهمية النقد وبممارسته في حياته وفي أي عمل أو نشاط يقوم به.
|
|
|
|
|