| عزيزتـي الجزيرة
سمعت كثيرا بأن لدينا اختصاصيين نفسيين وتردد على مسامعي بأن لدينا ايضا أطباء ومعالجين نفسيين كثيرين في الصحة النفسية، ونما الى علمي بأن هناك مستشفيات وعيادات متخصصة في علاج الأمراض النفسية وأن هناك إمكانات هائلة في ذلك الجانب.
ولكن للأسف الشديد لم أسمع أبدا بأن هناك نتائج مثمرة وجهودا بناءة وعلاجا ناجحا وطباً نفسيا حقيقيا، فكل الامكانيات وكل الكوادر وكل الطرق لم تستطع حتى الآن ان تصل يوما الى علاج ناجح وفعال وجذري للكثير الكثير من الامراض النفسية سواء السهل منها أو المعقد وهنا صلب المشكلة والموضوع وعندها يبرز سؤال مهم لماذا؟ لماذا لم نصل حتى هذه اللحظة الى علاج أو طرق علاج ناجحة ومثمرة؟ وسوف تكون الاجابة بصراحة صعبة للغاية وتحتاج إلى جهد بل الى جهود كثيرة وتعاون ونقاش من قبل الجميع لنستطيع الوقوف على كل الأسباب أو على الأقل معظمها التي جعلت من جميع العاملين في مجال الطب النفسي والصحة النفسية مقصرين وغير قادرين على الوصول إلى افضل الطرق والأساليب والمبادىء لعلاج تلك الامراض، ويشترك في هذا الشيء كل العاملين في الصحة النفسية اضافة الى عوامل وأسباب عديدة خارجية قد تؤدي إلى انعدام أو شبه انعدام للوصول إلى تحديد أفضل السبل لعلاج الأمراض النفسية لدى كل من يعاني منها، أنا اعتقد بأن علم النفس لا يقوم أصلاً على ركائز ومناهج وأسس ومبادىء محددة وواضحة ومعروفة فكل يوم له شأن وكل يوم له نظرية تختلف عن سابقتها وكل يوم له مبدأ وكل يوم له طرق جديدة في العلاج للأمراض السابقة نفسها فهذه النظرية تلغي تلك النظرية أو تغيرها أو تعدلها، وهذا المبدأ الأول يخالف ذلك المبدأ الآخر وهذه الطريقة الجديدة تنسف تلك الطريقة القديمة التي قبلها وهكذا.
وما دام الحال كذلك فسوف يستمر الإنسان لدى علم وعلماء النفس حقل تجارب إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ولن يرتكزوا أبدا على أسس علمية ثابتة ومعروفة لعلاج الأمراض النفسية، وما دام ان علم النفس وعلماء النفس كل يوم على حال والإنسان كذلك بكل ظروفه في حالة تطور دائم فهما إذن لن يلتقيا وسيظل كل منهما في واد إلى أبد الآبدين. واعتقد أن كل النظريات والمبادىء والمناهج والطرق والأساليب في علم النفس والطب النفسي ما هي إلا تجارب وخبرات ومواقف حدثت لكل اولئك المنظرين وبالتالي كتبوها على الورق وأرادوا تعميمها على الجميع دون استثناء، وهذا خطأ فادح جدا بطبيعة الحال فلا تستطيع بأي حال من الاحوال ان تعمم فكرة أو موقفا أو تجربة أو خبرة حدثت لك شخصيا على كل بني البشر. إذن علم النفس علم فلسفي فقط وعلم مقالات وكتابات ومبادىء وقيم ونظريات على الورق فقط ولكن اذا ما جاءت ساعة التطبيق الفعلية لتلك الأشياء فإننا لا نرى أي بوادر للنجاح لهذا العلم أو مؤيديه أيضا لماذا؟ لأن العملية في الطب النفسي يا سادة ليست 1 + 1 = 2 وإنما هي دراسة نفس بشرية ودراسة شخصية وسلوك وسمات وصفات إنسانية من الصعب بل من المستحيل ان تصل الى سبر اغوارها بكل هذه السهولة وفي يوم وليلة ومن ثم تظهر بنتائج فعالة ومثمرة ومحددة في هذا المجال. بصراحة الكلام يطول في هذا المقام ولكن سأترك الحديث والنقاش للجميع وسأكتفي ببيان وجهة نظري في هذا الموضوع. علماء النفس والمعالجون النفسيون هم بالتأكيد اناس مثلنا يؤثرون فينا ويتأثرون بنا ولديهم من المشكلات الكثير، وعلم النفس يقول بأنه لا بد وان يكون المعالج النفسي أياً كان صحيحا نفسيا ومتوافقا تماما، واعتقد بأن هذا الامر مستحيل إذن كيف سنستطيع أن نصل الى الهدف والغاية المنشودة في الطب والعلاج والنفسي وأنا هنا لا أتهم المعالجين النفسيين بعدم التوافق ولكن ذلك شيء معروف فمن يدرس شيئا لا بد وأن يتأثر به من قريب أو بعيد وهذا بالتالي سيؤثر على المعالج النفسي وبالتالي على عمله ومن ثم ينعكس على المريض.
أتدرون يا سادة ما الطب النفسي لدينا؟ سأقول لكم: الطب النفسي لدينا عبارة عن أدوية كيميائية فقط لا غير مضادات، مسكنات، مهدئات، منشطات وصدمات كهربائية وهذه لا يمكن ان تحل المشكلة جذريا، ولا يمكن أن تصل بالمريض إلى الشفاء الكامل وإنما هي حلول مؤقتة وآنية حتى يحدث الله أمراً كان مفعولا وكأن أصحاب الطب النفسي والمختصين للأسف لا يعرفون أن العلاج النفسي أكبر من ذلك بكثير، أو انهم لا يريدون أن يعرفوا العلاج النفسي أيها الاعزاء ليس كذلك أبدا فالعلاج النفسي أعمق من ذلك بكثير جلسات جماعية، جلسات أسرية، تنفيس، تاريخ مرضي، مقابلات دورية مستمرة، تفريغ انفعالي وأخيرا المتابعة وهذه الاخيرة بطبيعة الحال ليس لها وجود على الاطلاق وهذه الأشياء يستحيل أن تطبق على المريض النفسي المحتاج لها فعلا والأسباب كثيرة وأولها أن هذه الاشياء قد يكون العمل بها صعبا ومجهدا ويحتاج الى وقت وجهد وتفان والمختصون النفسيون لدينا ليس لديهم وقت لذلك بطبيعة الحال، وما دام أن هذه الطرق تحتاج الى جهد مضاعف من جميع النواحي إذن هي ليس لها داع أبدا في نظر أصحاب العلاج النفسي والصحة النفسية ويمكن الأخذ بأسهل وأسرع الطرق لعلاج المريض حتى لو لم تؤد النتيجة المرجوة منها وربما انقلبت وأحدثت نتائج عكسيا تماما لما كان يراد وازدادت حالة المريض سوءاً ناهيك انه لا حسيب ولا رقيب فلم نسمع يوما ان مريضا نفسيا اشتكى من قصور في العلاج او نقص فيما يقدم اليه او من سوء معاملة لأنه ليس هناك من يسمعه وإن صرخ بأعلى صوته، وبالتأكيد أنتم تعرفون لماذا؟ يقال إن أي مؤسسة نفسية للعلاج يجب ان تحتوي على فريق متكامل إذا ما ارادت الوصول بمرضاها إلى طريق الشفاء بإذن الله وإذا ما أرادت هي ان تصل إلى هدفها المنشود الذي أنشئت من أجله وهذا الفريق يجب ان يتكون من:
* الاختصاصي النفسي ويختص بالقياس النفسي وإجراء الاختبارات ودراسة سلوك المريض ويساعد الطبيب النفسي وهؤلاء لدينا الكثير منهم البعض يعمل في مجاله وكثير منهم يعملون في أماكن لا تمت لتخصصهم أو دراستهم بصلة ومما سبق يتضح ان هؤلاء الاختصاصيين لم يصلوا إلى مستوى المعالج النفسي وغير مؤهلين لذلك في الوقت الذي نجد البعض منهم يعمل في مؤسسات أو عيادات نفسية بمفرده.. إذن كيف يستطيع هذا أن يصل بالمريض إلى مرحلة العلاج الكامل وهو لا يملك ذلك؟
* الطبيب النفسي هو في الأصل طبيب عام ثم يأخذ دورة في علم النفس وعلاج الأمراض النفسية ويهتم اكثر من غيره بالتشخيص الطبي النفسي والعلاج الجسمي والعلاج بالأدوية فقط والعلاج الجراحي وأعتقد بأن هذا الأخير معدوم تماما لدينا فلم نصل بعد الى تلك المرحلة، وهذه الفئة موجودة ولكنهم لا يستطيعون عمل شيء بمفردهم سوى توزيع وصفات الأدوية على المرضى كيفما اتفق وهم بعيدون كل البعد عن الجانب النفسي الحقيقي للمريض وبالرغم من ذلك فإن المؤسسات الصحية تعتمد عليهم اعتمادا كليا في علاج المريض وفي أغلب مراحل العلاج وهذا بطبيعة الحال خطأ فادح.
* الاختصاصي الاجتماعي النفسي متخصص في الخدمة الاجتماعية ومؤهل تأهيلا خاصا في علم النفس ويختص بإجراء المقابلة الأولى مع المريض وأسرته وحتى في مقر عمله وفي المؤسسات الاجتماعية الاخرى وبالبحث الاجتماعي وينظم معظم أوجه النشاط في العيادة النفسية وقد يساهم في العلاج النفسي وهؤلاء أشك في وجودهم وإن وجدوا في مؤسسات الصحة النفسية فهم بالتأكيد يعدون على الاصابع وجهودهم محدودة جدا وربما لا يؤدون ما أنيط بهم من أعمال كما يجب ان يكون الاداء.
* الممرضون النفسيون خريجو معاهد التمريض ويدرسون ويتدربون على المريض النفسي ويلعبون دورا مهما في العلاج النفسي حيث يقضون أكبر وقت ممكن مع المريض ويختصون بتسجيل السلوك اليومي وسير العلاج وتقدمه والمشاركة في بعض اشكال العلاج وكذلك تهيئة الجو النفسي والمواتي للصحة النفسية والشفاء بإذن الله وهذه الفئة من الممرضين أعتقد بأننا ما زلنا نحلم بها؟
* المعالج النفسي وهذا من وجهة نظري فارس الصحة النفسية والعلاج النفسي الأول فهو يتخصص منذ البداية في الطب النفسي ويختص بالدراسة والتشخيص والعلاج النفسي وهذه الفئة ايضا في اعتقادي لا وجود لها في مؤسساتنا النفسية وإن وجدت فأصحابها يعدون على أصابع اليد الواحدة وبالرغم من ذلك تجدهم يسلكون مسالك اخرى غير الاهتمام الأوحد بالصحة والعلاج النفسي والمريض فقط، فمنهم من يعمل رئيسا لقسم في مكان ما أو مدرسا في الجامعة أو متعاونا في الوقت نفسه مع أحد المستشفيات وزائرا في مستشفى آخر وربما يكون لديه عيادة نفسية مستقلة فبالله عليكم كيف بإنسان أو متخصص يقوم بكل هذه المهام في وقت واحد يستطيع أن يعطي الوقت الكافي للمريض النفسي ومن أين سيأتي بذلك الوقت وبذلك الاهتمام الأمثل بمريض؟ إلا اذا كان العلاج عبارة عن (كيف الحال) وخذ هذه الوصفة فقط، فهذا شيء آخر.
من هنا يتضح لنا أن العملية العلاجية لابد ومن الضروري ان تكون تكاملية وأن يوجد بها جميع العناصر السابقة مجتمعة للنظر جميعا في أمر أي مريض نفسي فإذا ما انتفى وجود أي عنصر من هذه العناصر فإن عملية العلاج تعتبر عملية مبتورة وناقصة ومشوهة وهذا للاسف الحاصل لدينا تماما في الصحة النفسية والعلاج النفسي وأنا أتحدى إذا كانت كل هذه العناصر تقوم بالعلاج مجتمعة في مكان واحد ولمصلحة مريض واحد وهذا هو المفترض ولكن هيهات فإذا وجدت الطبيب النفسي لم تجد المعالج وإذا وجد المعالج لم يوجد الممرض النفسي وإن وجدنا الممرض اختفى المساعد النفسي والاختصاصي الاجتماعي النفسي فنحن لازلنا نعتمد كليا على الطبيب النفسي فقط في كل مراحل العلاج ولكنه لا يجدي ولن يجدي ما دام هو يعمل بمفرده وما دام بقيت الحال كذلك.
إذن هل الدراسات النفسية فلسفية اكثر منها واقعية، خيالية اكثر منها حقيقية، مثالية أكثر منها منطقية، وهل هي مقالات وكتابات ونظريات وكتب ومواعظ على الورق فقط؟ ام انها شيء آخر تماما؟
أخيراً يلاحظ القارىء العزيز أنني لم اتطرق للطب النفسي النسوي وان كان الحديث يشمل الجميع ولكنني كنت اتمنى ان انفرد بالحديث عن ذلك الطب والعلاج ولكن للاسف ليس هناك ما يشفع للطب النسوي لكي نتحدث عنه وربما يكون طباً ليس له وجود أصلاً.
* داء ودواء:
الداء: قال الله تعالى: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى).
* الدواء: قال تعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب).
عبدالرحمن عقيل المساوى
الرياض
|
|
|
|
|