| محليــات
ليس من السهل على الإنسان تتبع خريطة حياته العاطفية، فهي متعرجة وغرارة ولها أكثر من أفق. ولكنني تعرفت على وسيلة واحدة من تلك الوسائل. فكلما تقدم بك العمر قليلا كلما تحولت أيامك وأحلامك إلى مجموعة من الأغنيات سمعتها في مراحل مختلفة من العمر. حتى الفتيات اللاتي قابلتهن ورف لهن قلبك في يوم من الأيام هن أيضا يتحولن إلى شيء هلامي يقترب من شكل الأغنية. المشكلة أنك تتعرض دائما للجمال وتتعامل معه كأنه شيء عادي ولا أقصد جمال النساء أو الورود فحسب وإنما ذلك الجمال المتخفي في طيات الأشياء العادية والمبتذلة.
عندما أكون في أحد المطارات العالمية وحيدا وأمل من الانتظار أقيم مسابقة جمال لكل النساء اللاتي يخطرن أمامي جيئة وذهابا بغض النظر عن أشكالهن أو أعمارهن. وفي لحظة إعلان الفائزة أكتشف أنني قمت بفرز نساء من خارج ذلك المطار بل ومن خارج ذلك الزمان حيث استدعي في كثير من المرات بنات صغيرات حدث أن التقيتهن في شارع العطايف قبل أكثر من ثلاثين سنة. ولذلك فإن عدد المتسابقات يفوق الوقت المخصص لي لانتظار الطائرة. والنتيجة غير دقيقة وغير واقعية ولا يمكن البناء عليها. وبالتالي أخرج من دون قرار نهائي. كما أن هذه النتيجة تفاقم القضية في المسابقات القادمة في المطارات الأخرى. تضيق روحي من هذه الكميّة الهائلة من مدخلات الجمال خصوصا وأنني أعرف منذ وقت مبكر من حياتي أنني أفتقر إلى آلية عاطفية تقوى على فرز وتنظيم وجوه النساء في طابور تفاضلي.
وأمام هذا الفشل المريع تتحول كتل هذا الجمال الهلامي إلى أغانٍ كل أغنية تشكل منعطفا أو إشارة وهو التصنيف الوحيد الذي يمكنني من مراجعة حياتي العاطفية والعودة إلى الماضي بشكل منظم. مما يجعلني أحتج بكثرة على كثير من الفنانين الذين يرتزقون من العودة إلى أغانيهم القديمة وتوزيعها بطريقة جديدة لأن هذا في ظني سرقة لأحلام الناس وذكرياتهم. الأغنية مثل الأنتيك أو السجاد القديم تحس فيها رائحة الناس الذين مروا عليها وأي تعديل فيها يغير من قواعد العلاقة بها. الأغنية تكون في البداية للرقص وإثارة المتعة ثم تختفي تدريجيا حتى تتلاشى وبعد سنوات تستعاد لتثير الحزن على زمن لن يعود أبدا. تذكرك بصيف الأزمنة القديمة أو بالدراسة في البلاد الأجنبية أو بالفتاة الصغيرة التي وعدتها بالزواج وخذلتها. هذه المنحنيات العاطفية لا يضبطها لك سوى الأغاني. وفي اعتقادي فان كل أغنية يجب أن تبقى على ما هي عليه عندما تم غناؤها لأول مرة. لأنها رهينة الجمال في زمانها ووفية له. حتى أنني في كثير من الحالات أتردد في سماع أغنية قديمة حتى لا تأخذ بعدا جديدا في روحي غير ذلك البعد القديم الذي أتحسسه بتذكرها. وفي حالات نادرة جدا أذهب إلى محلات بيع الأشرطة وأشتري شريطا لأغنية قديمة لأني أريد أن أكتب عن تلك الفترة أو أريد أن أستعيد بعض العواطف المتعلقة بها. ولكني لا أتمادى في سماع الأغاني القديمة خشية أن تبني هذه الأغاني علاقات جديدة مع أزمنة جديدة فأفقد اتصالي بالماضي وأفقد القدرة على الحنين. ولكن أن تفرض عليك الإذاعة أو بعض المغنين أو بعض الظروف العودة إلى ماضيك العاطفي بالقوة ثم تعمل في نفس الوقت على تحطيم هذه الماضي بنقل شواهده إلى الحاضر أي إلى ذكريات جديدة فهذا عمل غير عادل ومحزن. فالحياة يفترض أن تكون جمالاً وأغاني متواصلة ومتجهة إلى الأمام. والالتفاتات للوراء التي تشكلها الأغاني القديمة يجب أن تبقى محدودة. والفنان العظيم يواصل الإبداع ويعمل على خلق ذكريات جديدة عند مستمعيه.
لا يعود إلى الفواتير القديمة إلا التاجر المفلس.
لمراسلة الكاتب:
yara4me@yahoo.com
|
|
|
|
|