قال أبو الطيب المتنبي في قصيدة يذكر بها مسيره من مصر ويرثي فاتكاً:
1 تَخْدى الركابُ بنا بِيْضاً مشافِرهُا
خُضْراً فراسِنُها في الرغلِ والينم
2 مَعْكُومَةً بِسِياطِ القوم نَضْرِبها
عْن مَنبتِ العُشبِ نَبْغي منبت الكَرمِ
يقول العكبري في شرح البيت الأول: خدت الناقة تخدى: أي أسرعت مثل وخذت وخودت، كله بمعنى، والفراسن: جمع فرسن وهو للبعير بمنزلة الحافر للدابة. والرغل والينم: نبتان، الواحدة ينمة. والمعنى: يقول: الركاب تخدي بنا، أي تسرع، ومشافرها بيض، لأنها تمنع من المرعى لشدة السير، وفراسنها خضر، لأنها تسير في هذين النبتين. ويقول العكبري عن البيت الآخر: معكومة: مشدودة الأفواه. والمعنى: يقول: السياط تمنعها الأكل، لأن العكام هو الذي يشد به فم البعير لئلا يعض فيقول: نحن نضربها عن المرعى، نبغي منبت الكرم، لأنه قصدنا.
ورد في لسان العرب لابن منظور: الرغل، بالضم: ضرب من الحمض، والجمع: أرغال، قال أبو حنيفة: الرغل حمضة تنفرش وعيدانها صلاب، وورقها نحو من ورق الجماجم إلا أنها بيضاء، ومنابتها السهول. وقال أبو منصور: الرغل من شجر الحمض، ورقه مفتول، والإبل تحمض به. وأرغلت الأرض: أنبتت الرغل.
والينمة: عشبة طيبة. والينمة: عشبة إذا رعتها الماشية كثر رغوة ألبانها في قلة. ابن سيدة: الينمة نبتة من أحرار البقول تنبت في السهل ودكادك الأرض، لها ورق طوال لطاف محدب الأطراف، عليه وبر أغبر كأنه قطع الفراء، وزهرتها مثل سنبلة الشعير، وحبها صغير. وقال أبو حنيفة: الينمة ليس لها زهر، وفيها حب كثير يسمن عليها الإبل ولا تعزُرُ. ويقول الدمياطي (1965م): الرغل نوعان والاسم العلمي لهما هو :Atriplex leuecocalda , Atriplex hortensis والينم: ضرب من النبت كما في الصحاح. وقيل: بزرقطونا، وقيل: الهندباء الواحدة بهاء، ونبات آخر، وهو عند الأطباء ينموية. ويقال: ينمة خذواء إذا استرخى ورقها عند تمامه. واسم الينمة العلمي هو :Plantago Ovata.
لقد أشار أبو الطيب في بيته الأول إلى نوعين من النبات، وهما من مراعي الإبل، وفي بيته الآخر ذكر أنه ومن معه عكموا أفواه إبلهم حتى لا ترعى من هذين النبتين لأنهم كانوا في عجلة من أمرهم.
وقال المتنبي في قصيدة يمدح بها سيف الدولة، ويذكر إيقاعه بقبائل العرب سنة 344ه.
1 وكانُوا يَرُوعُونَ الملُوكَ بأن بَدَوْا
وأن نَبَتَتْ في الماءِ نَبْتَ الغلافِقِ
وقال أيضاً في نفس القصيدة:
2 تَعَوّد أنْ لا تَقْضَم الحَبَّ خيله
إذا الهامُ لم تَرْفَعْ جُنوبَ العلائقِ
3 ولا ترد الغُدْران إلا وماؤها
من الدَّم كالريحان تحْتَ الشَّقائِق
يقول العكبري عن البيت الأول: يروعون: يفزعون، ويخوّفون. وبدوا: دخلوا البادية. والبادية: الأرض المنقطعة. والغلافق: جمع غلفق، وهو الطحلب الذي يكون على الماء. والمعنى: يقول: كانت العرب تخوف الملوك، وتقول إنهم لا يقدرون علينا، لأننا في القفار، وهم لا يصبرون عن الماء كدواب الماء التي نشأت فيه، فهم لا يقدرون على فراقه، فهم يخافون منا لبعدهم عنا، وظنوا أن سيف الدولة مثل أولئك الملوك، الذين كانوا يخوفونهم بعدم الماء في المواضع التي تسلك إليهم.
لقد أشار شاعرنا المتنبي في بيته هذا إلى الغلافق. والغلفق كما ورد في لسان العرب الطحلب، وهو الخضرة على رأس الماء، ويقال ينبت في الماء ذو ورق عراض؟.
ويقول الدمياطي (1965م): غلفق: خضرة على رأس الماء، وهو الطحلب، أو هو نبت ينبت في الماء ورقه عراض. والطحلب: قيل هو الذي يكون على الماء كأنه نسج العنكبوت، والقطعة منه طحلبة.
تقسم الطحالب علمياً إلى ثلاثة أقسام شعب من شعب مملكة النبات الخمس وهي: الطحالب الحمر، والطحالب البنية، والطحالب الخضر، وهذه طحالب راقية، أي متعددة الخلايا، ويميز البناء الضوئي طريقة تغذيتها.
نعود على ضوء ما تقدم إلى بيت شاعرنا المتنبي نجده قد شبه الملوك الذين يستكينون ويحبون عيشة الراحة والدعة والخوف من مقارعة الأعداء بالطحلب الذي يعيش في الماء، فلو أخرج منه لمات، وهذا هو السبب الذي جعل الأعراب يخرجون على سيف الدولة ظناً منهم أنه مثل الملوك الآخرين.
ويقول العكبري عن البيت الثاني: القضم: أكل الدابة الشعير. والعلائق: جمع عليقة، وهي المخلاة. وجنوبها: نواحيها. وجيوبها: ما فتح من أعلاها. وجيب المخلاة فمها. والمعنى: قال أبو الفتح: سألته عن معنى هذا البيت؟ فقال: الفرس إذا عُلّق عليه المخلاة، طلب لها موضعاً مرتفعاً يجعلها عليه ثم يأكل، فخيله إذا أعطيت عليقها رفعته على هام الرجال القتلى، لكثرتهم حولها، فقد تعودت خيله في غزواته ذلك. ويقول العكبري عن البيت الثالث: الغدران: جمع غدير، وهو ما غدره السيل، أي تركه. والشقائق: نَوْر أحمر ينسب إلى النعمان، واحدتها: شقيقة. والمعنى: قال أبو الفتح: لكثرة ما قتل من الأعداء جرت دماؤهم إلى الغدران فغلبت على خضرة الماء حمرة الدم، والماء يلوح من خلال الدم، فالريحان تحت الشقائق، لأن ماء الغدير أخضر من الطحلب، والماء يلوح من خلال الدم، فشبه خضرة الماء وحمرة الدم بالريحان تحت الشقائق.
لقد ذكر أبو الطيب في بيتيه السابقين بأن خيل سيف الدولة تعودت أن تقضم الحب وهو في مخاليه بعد ما ترفعه فوق جماجم قتلى سيف الدولة، والحب بذرة نبات وقد يكون هنا حب الشعير، وصارت تلك الخيل ترد غدران الماء بعدما تلوثت بدماء قتلى أعداء سيف الدولة، بحيث كان الدم كالشقائق حمرة يطفو فوق الماء الذي كان بشبه خضرة الريحان بما عليه من طحالب خضراء. وقد سبق وأن ذكرنا أن شقائق النعمان هي الشقرة، وواحدة الشقائق شقيقة سميت بذلك لحمرتها تشبيها بشقيقة البرق، وقيل النعمان اسم الدم وشقائقه قطعه، فشبهت حمرتها بحمرة الدم. وهنا نلاحظ دقة ملاحظة شاعرنا المتنبي، فالريحان أخضر وهو تشبيه للون الماء بما عليه من الطحلب الأخضر، وفوقه شقائق نعمان وهي قطع الدم الأحمر!!.
وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها كافوراً:
إذا سارتِ الأحْدَاجُ فَوقَ نباته
تفاوَحَ مِسْكُ الغانِياتِ ورَنْدُهُ
يقول العكبري في شرح هذا البيت: الأحداج: جمع حِدْج، وهو جمع قلة، وجمع الكثرة، حدوج، وهو مركب النساء، مثل المحفة، وحدجت البعير: أحدجه بالكسر حدجاً:
إذا شددت عليه الحدج. وتفاوح: تفاعل: من فاح يفوح، وهي لفظة فصيحة حسنة. والغانيات: جمع غانية، وهي المرأة التي غنيت بجمالها، وقيل بزوجها.
والرند: نبت طيب الرائحة، يقال: انه الآس. والمعنى: يقول: لما سارت الأجمال المحدجة فوق الرند، والغانيات قد تطيبن بالمسك، اختلط الريحان، ففاحت، فعبق الوادي بالريح الطيبة. وقال أبو الفتح: قال لي المتنبي: لما قلت هذه القصيدة وقلت: تفاوح، أخذ شعراء مصر هذه اللفظة، فتداولوها بينهم. ويضيف العكبري قائلا: سألت شيخي أبا الحرم مكي بن ريان الماكسيني عند قراءتي عليه الديوان، سنة تسع وتسعين وخمسمائة: ما بال شعر المتنبي في كافور أجود من شعره في عضد الدولة، وأبي الفضل ابن العميد؟ فقال: كان المتنبي يعمل الشعر للناس لا للممدوح، وكان أبو الفضل ابن العميد، وعضد الدولة في بلاد خالية من الفضلاء، وكان بمصر جماعة من الفضلاء والأدباء، فكان يعمل الشعر لأجلهم، كذلك كان عند سيف الدولة بن حمدان جماعة من الفضلاء والأدباء فكان يعمل الشعر لأجلهم ولا يبالي بالممدوح. والدليل على هذا ما قال أبو الفتح عنه في قوله :«تفاوح» لأنه لما قالها أنكرها عليه قوم حتى حققوها، فدل أنه كان يعمل الشعر الجيد لمن يكون بالمكان من الفضلاء.
ورد في لسان العرب: الرند: الآس، وقيل: هو العود الذي يتبخر به، وقيل: هو شجر من أشجار البادية، وهو طيب الرائحة يستاك به، وليس بالكبير، وله حب يسمى الغار وواحدته رندة.
لما كان ذلك الوادي الذي سارت عليه الإبل والنساء على ظهورها مكان معشب رطب مليء بنبات الرند طيب الرائحة، ولما كانت تلك النسوة متطيبات بالمسك، وهن في ذلك الوادي فقد اختلطت الريحان فعبق الوادي بالرائحة الطيبة. وهنا فقد أشار شاعرنا بصورة غير مباشرة إلى رطوبة الوادي وتشبعه بالهواء الرطب، وهذا يسهل انتقال الروائح عبره.
وقال أبو الطيب في قصيدة قالها ارتجالا يصف كلباً أرسله الأوراجي على ظبي:
1 وَمَنْزِلٍ لَيْس لَنا بِمَنْزِلِ
وَلا لِغَيْر الغادِيات الهُطَّل
2 نَدِي الخُزَامَى ذَفِر القَرنْفُلِ
مُحَلَّلٍ مِلَوْحْشِ لم يُحَلَّل
وقال أيضا في نفس القصيدة:
3 كأنَّهُ مَضَمَّخٌ بِصَنْدَلِ
مُعْتَرِضاً بِمِثْلِ قَرْنِ الأَيلِ
يقول العكبري في شرح البيت الأول: الغاديات: السحب. والهطل: جمع هاطلة، وهي الكثيرة الماء. والمعنى: يقول: رب منزل نزلناه ليس هو لنا بمنزل في الحقيقة لأنا نرحل عنه، ولم يكن منزلا لشيء سوى السحابات الماطرة، يصف روضاً نزلوه وهو معنى قوله :«البيت بعده».
ويقول العكبري عن البيت الثاني: الخزامى والقرنفل: نبتان طيبان. والندى: الرطب. والذفر: الزكي الرائحة إذا كان بالذال المعجمة، فهو للريح الطيبة والخبيثة، وأكثر استعماله في الطيبة، وإذا كان بالمهملة فهو للمنتنة لاغير. ومحلل: هو الذي كثر به الحلول. والمعنى: هذا الموضع قد حله الوحش: ولم يحله الإنس.
يصف أبو الطيب في بيتيه السابقين روضا نزله مع الأوراجي ليقتضوا فيه، فبين أن ذلك الموضع، مكان للسحاب الماطر، ويوجد فيه نباتا الخزامى والقرنفل والتي تعبق رائحتهما فيه، ومكان للوحش، وهنا ربط الشاعر بين هطول المطر وظهور النبات، ورطوبة الجو، ووجود الحيوانات الوحشية التي ترعى فيه. ولقد سبق وأن تطرقنا إلى نبت الخزامى، والخزامى نبت طيب الريح، واحدته خزاماة، وقال أبو حنيفة: الخزامى عشبة طويلة العيدان صغيرة الورق، حمراء الزهرة طيبة الريح، لها نور كنور البنفسج، قال: ولم نجد من الزهر زهرة أطيب نفحة من نفحة الخزامى. والقرنفل والقرنفول: شجر هندي ليس من نبات أرض العرب. ابن بري: القرنفل هذا الطيب الرائحة وقد كثر في كلامهم وأشعارهم العرب .. وطيب مقرفل فيه قرنفل (لسان العرب).
ويقول العكبري عن البيت الثالث: التمضيخ: الطلاء، ضمخته بالطيب، أي طليته به، وشبهه شبه الظبي الذي أرسل الكلب عليه في الروض بالصندل في لونه، وهو جنس من الطيب، وبه يشبه الظباء. والمعنى: أنه شبه لونه لون الظبي بلون الصندل، فيقول: اعترض لنا هذا الظبي بقرن طويل كقرن الذكر من الأوعال.
لقد شبه أبو الطيب في بيته هذا الظبي بلونه بلون الصندل. والصندل كما ورد في لسان العرب: خشب أحمر ومنه الأصفر، وقيل: الصندل شجر طيب الريح.
وقال المتنبي في قصيدة يمدح بها عمر بن سليمان الشرابي:
يُرَوِّى بكالِفرْصادِ في كُلِّ غارةٍ
يَتَامَى من الأغمادِ بيضاً وَيُوتمُ
يقول العكبري عن هذا البيت: الفرصاد: التوت. يريد: بدم كالفرصاد بحمرته. واليتامى: السيوف التي فارقت أغمادها، فجعلها يتامى، لأنها فارقت ما كان يؤويها ويحوطها كالوالدين. والمعنى: يقول: يروّي بمثل الفرصاد سيوفاً قد فارقت أغمادها، فصارت كاليتامى، ويوتم أولاد من يقتله بها، في كل غارة يغيرها على الأعداء.
لقد أشار شاعرنا المتنبي إلى نبات الفرصاد وهو التوت، وقد ورد في لسان العرب: الفرصاد: التوت، وقيل حمله وهو الأحمرمنه. والفرصاد: الحمرة. وهنا فقد شبه شاعرنا ما يسيل على سيف ممدوحه من دماء أعدائه بلون ثمرة شجرة التوت وعصيرها، وهنا نتبين قدرة الشاعر على استخدام نبت معين أو ثمرة ..أو.. ليصف به ما يماثله في اللون من شيء آخر.
وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها أبا الشعائر:
كأنَّ تَلَوِّي النُّشَّابِ فِيْهِ
تَلَوِّي الخوُصِ في سَعَفِ العِشُاشِ
يقول العكبري عن هذا البيت: الخوص: ما يكون في سعف النخل، والعشاش: جمع عشة، وهي النخلة إذا قل سعفها، ودق أسفلها. والسعف: هو أغصان النخلة، وهو ما يكون في آخر الجريد، وقد عشَّت النخلة، وشجرة عشة، أي دقيقة القضبان. والعشة من النساء: القليلة اللحم، والرجل عش. والمعنى: يقول: كأن تلوِّي النشاب فيه كتلوي خوص النخلة، لأنه الممدوح بشجاعته لا يحفل بالطعن ولا الضرب ولا الرمي.
ورد في لسان العرب: النشاب: النبل واحدته نشابة. والنشاب: السهام. والخوص: ورق المُقْلِ والنخل والنارجيل وما شاكلها، واحدته خوصة. وقد أخوصت النخلة وأخوصت الخوصة: بدت. وخوصت الغسيلة: انفتحت سعفاتها. والسعف: أغصان النخلة، وأكثر ما يقال إذا يبست، وإذا كانت رطبة فهي الشطبة. والعشة من الشجر: الدقيقة القضبان، وقيل: هي المتفرقة الأغصان التي لا تواري ما وراءها.
والعشة أيضا من النخل: الصغيرة الرأس القليلة السعف، والجمع عشاش.وقد عشت النخلة قل سعفها ودق أسفلها.
لقد وصف الشاعر في بيته السابق ممدوحه بالشجاعة والإقدام والصبر والثبات في حومة الوغى، وهو لشجاعته تتلوى السهام فيه كما يتلوى الخوص الورق في أغصان نخلة صغيرة الرأس قليلة الأغصان. وهنانظر شاعرنا إلى شكل شجرة محددة لها وضعية معينة ليشبه بها ممدوحه عندما توجه إليه السهام وهو في وسط المعركة.