| الثقافية
كانت تدور في ذلك البيت الكبير الذي لا يسكنه سواها وعمتها العانس.. تحس بالملل يقبض على عنقها وعلى أعصاب دماغها كي يمنعها من التنفس أو حتى التفكير.. كانت تعيش مع اللاعطاء المسجد في إنسان وتتجرع هماً ولا مبالاة.. وجدت نفسها أمام ذلك الباب الخشبي المؤدي للمطبخ.. دخلت، لم تعرف لماذا دخلت أو ماذا تريد من دخولها.. مشت بخطوات السائر نحو الهاوية.. التقطت قطعة من السكر وضعتها في فمها بكآبة تخنق الحس فيها والشعور.. التصق طعمها الحلو بحليمات لسانها.. ولكن الذي تريده لم يتحقق.. لم تتسلل حلاوة قطعة السكر الى قلبها الذي يعتصر مرارة ويموت ألف ألف مرة من الألم.. خرجت وهي تحس بالخيبة وفقدان الأمل يمضغان أحشاءها.. جلست على مكتب من كان والدها وأضاءت المصباح الذي تمنت أن يكون داخل جسدها ليضيء ظلمة روحها ولكن للأسف (ما كل ما يتمنى المرء يدركه).
علقت عيناها بتلك الصورة المعلقة على الحائط. صورة والدها ووالدتها وتذكرت بأنهما سبب عذابها وشقائها.. تذكرت ذلك اليوم.. عندما كان المطر ينهمر بكل غزارة، ويضرب بقسوة على زجاج نافذة غرفتها فيصرخ الزجاج بألم.. والرعد يهدر ويثقب أذنيها الصغيرتين استيقظت فزعة من نومها وتسللت الى الممر المؤدي الى حجرة أبيها وأمها.. ورأت والدتها أو من كانت والدتها تجمع حقائبها وتستعد للرحيل.. !! دخلت الى الغرفة وفي عينيها ما يعجز لسانها عن قوله.. أجابها أبوها أو من كان أبوها أيضاً بأن والدتها سترحل وتعود قريباً.. صدقت المسكينة ولكن ما لم تستطع تفسيره في تلك اللحظة هو دموع أمها...!
ومرت الأيام والوالدة لم تعد بعد.. ثم سنين وسنين ولم تعد أيضاً.. ولم تعرف أنها ضحية إلا عندما تزوج والدها ورحل هو أيضاً وتركها مع عمتها العجوز!!.
أحست ببلل على خدها.. تحسست موضع البلل وقالت في نفسها.. «ها هي دموعي تنزف من جديد.. ولن يوقفها إلا حبر قلم..».
تناولت القلم وسطرت بضع كلمات تقول.. «كم أنا أتألم.. ولكن لا أحد يحس بما في داخلي حتى أنت يا أبي.. لم تفكر يوما بالسؤال عن حال من تسمى ابنتك وأنت أمي فعلتِ الشيء ذاته!!
وإذا سألتك عمتي عن أي شيء حصل يومها أسكتني بحفنة من الأوراق النقدية.. وقتها أود أن أصرخ بوجهك.. أن أمزقه بأظافري وأقول لك أنا لا أريد نقودا أنا أريد أبا وأما..ولكن الحياء يلجم صوتي.. ومنظر وجهك المجعد يربط أطرافي عمتي.. أنا أريد إنسانا يهتم بي ويرعى امكاناتي الفسيحة ومقدرتي على العطاء .. ولكنهم قتلوا فيّ حتى مقدرتي على الصبر والاحتمال.. كل من حولي يطالبوني بالسكوت وعدم السؤال.. ولكن ماذا أفعل بذاك الهدير المرعب الذي يزورني كل ليلة ويقول لي.. يا تعيسة.. أين أباك وأمك؟ ولا يكون بيدي وقتها غير البكاء؟!!
هل هو ذنبي أن أبي وأمي لم يكونا على وفاق وهذا ما أعتقده بل وأجزم به؟!
أولدت لأتجرع الشقاء والبؤس ولا شيء غير ذلك؟! كم أنا أرثي لحالي، لأن أروع ما يملكه أحد من بني البشر أمه وأبيه وأنا فقدت هذا الكنز للأبد...».
نبض الحقيقة:
إن الله وهبني أجمل هدية في حياتي.. وهبني أروع الأشياء اطلاقاً..وهبني قلبين يفيضان حبا وحنانا.. قلبين أحن من قلبي علي.. أصدق من الوفاء وأرق من هبائب النسيم.. إن الله وهبني أبا وأما يرتفعان عن كلمة رائع بدرجات كثيرة..
فشكرا لله.. ثم شكرا لهما من كل قلبي...
البندري يوسف الوتيد
|
|
|
|
|