| محليــات
في لحظات الذروة في الطرق السريعة، يتحوَّل المرور إلى مآزق انتظار، تقسر الناس على الصَّبر، ولا أدلّ على ذلك إلاّ جسر الملك فهد الطويل الفاره الممتد من شمال الرياض إلى جنوبها، حيث يربط العاصمة في حلقة اتصال جميلة وزاهية... لكن ما نقول وعدد السيارات يفوق عدد البشر كما تخبرنا الشوارع، وعدم «نظام» الأفراد يؤكد عدم انتظامهم كما تؤكده لنا حركة السير، مع كلِّ ما يُبذل من أجل التنظيم والنظام وبالتالي الانتظام...
في هذه اللَّحظات المحمومة بعرق الصيف، وتذمُّر الإنسان من إجهاد يوم حفل بصاحبه، فتجده مشوقاً كي يتلقَّى في منزله أنواع الوسائل التي تعيد إليه حيويته من أكل وشرب ونوم أو استلقاء... تقفز إلى العيون في هذه اللَّحظات بعض المشاهد في هذه الطرق الطويلة الجميلة تخدش العيون، وتوخز النفوس، وتُنْسِي الإنسان العادي، والمترف، وغير المجهَد، والمنعَّم، وسواه، نفسَه... لأنَّ هذه «اللوحات» الصَّارخة توقظ فيه الألم... وتحوِّل الألم إلى رغبة في البحث عن وسيلة كي تُصوَّب أخطاء الذين يَخْدِشون والذين يُؤلمون...
«عربات» جُعلت للنَّقل غير البشري، مغلقة من كافَّة جوانبها مثل الصناديق بل هي الصناديق الحديدية، يتكدَّس في داخلها مجموعة من البشر، تبدو على وجوههم علامات الإجهاد البالغ الذي لا رحمة فيه، توحي بعدم النوم أو الراحة، وبعدم توفُّر الغذاء المناسب والملبس النظيف...، تعكس قسوة الإنسان وجبروته... لمجرد أنهم بنَّاءون، أو منظِّفون، أو يصونون مستهلكات الإنسان..
ويطرأ فوراً إلى الذاكرة السؤال التلقائى: كيف يجرؤ صاحب مؤسسة مقاولات، أو نظافة، أو صيانة، أو... أو... أن يتعامل وعلانية في الشوارع الرئيسة بشكل لا يمتُّ إلى النظام الذي يقرُّه المسؤول في التعامل مع فئات العمل على اختلاف ألوانهم ومشاربهم ومذاهبهم بل أديانهم، على هذا النحو؟ وماذا لو تخيَّل نفسه في هذا الصندوق وعلى هذا النحو؟
كما يُخيَّل للمشاهد لهذه المشاهِد أنَّ مثل هذا المسلك يتمُّ في ضوء الثقة في ضميرية من يُصرَّح لهم بممارسة مثل هذه الأعمال، ومنحهم فرص التعامل مع فئات البشر الذين يتحمَّلون مثل هذا التعامل في ضوء الحاجة...
ولأنَّ المتوقع وجود ضوابط ضمائرية عند هؤلاء، فإنَّه لا توجد رقابة علنية في الشوارع... غير أنَّ ما يطرأ من مقترح بعد تكرُّر مثل هذه المشاهد المعتمة في ساعات الذروة وسواها، هو دعوة لوضع رقابة مرورية من صلاحياتها إيقاف أيَّة مركبة تتجاوز ما صُنعت له وماصُرِّح لها، فالبشر ليسوا أوراقاً مكدَّسة أو صناديق محمَّلة، أو بضاعة مرصوفة...، البشر تتنفّس، وتعرق، وتتعب، ولا تحتمل جلوس الجماد مكدَّسين فوق بعضهم الآخر، تُطلُّ منهم رؤوس من خلال رؤوس، ويتنفَّسون من خلال أبواب العربة «بجوار السائقين» أو عند الباب الخلفي لها...
فإذا كان هذا السلوك منوطاً بمن يعمل دون صاحب المؤسسة أو الشركة، فإنَّ من الواجب أن يراقب كلٌّ منهم من يعمل معه، ومن ينوب عنه في أداء أمانته، حيث لا ينوب عنه يوم القيامة أحد سواه..
فقبل زمن لم أَعُدْ أتذكر حدوده...
كنت عائدة من عملي في الجامعة، في لحظات الذَّروة، خلال صيف محموم... تكاد الرياض تشهق فيه تذمُّراً،... وعند إحدى إشارات المرور وهي تعلن صرامتها بعين حمراء، تفرض الوقوف الإجباري للجميع... كانت هناك أربع عربات تقف بجوار وخلف بعضها ذات لون واحد، وصنف واحد، وتاريخ أنموذج واحد، يستقلُّها أربعة أشخاص، تتفاوت ألوانهم، وتقاطيعهم، وملابسهم،... فخُيِّل إليَّ هذا التَّطابق التَّام بين العربات الأربعة، وبين الاختلاف القائم بين الأشخاص السائقين لها مع أنَّ نوعها واحد، ونوع السائقين البشري واحد... لكن، طرأ لي في تلك اللَّحظات التي امتدت من زمن الساعة إلى ما سمح لي بالتفكير في كيفية استخدام هؤلاء السائقين لها، وكيفية التعامل مع أنفسهم داخلها... وما هي الشواهد على الإنسان من تلك العربات، وهي تنطق في حال أن تكون لها ألسنة، بما لها من أعين ترقُب هؤلاء، وبما لها من آذان تسمعهم...
وفي حينه كان هناك من ردود الفعل لتلك الفكرة ما أكدَّ لي أنَّ الإنسان شعر بحجم مسؤوليته تجاه نفسه، في حال أن يتأكد أنَّ كافة الوسائل الجامدة من حوله ومعه تلك التي يستخدمها، استهلاكاً لها أو تعاملاً معها أو معايشة، لها عيون وآذان، وقدرة نطق تشهد عليه بمثل ما سوف تشهد عليه يداه وقدماه...
تذكَّرت هذا المقال بما حمله من فكرة، وبما عاد إليَّ من مشاعر القراء... هذا اليوم، وغيره من الأيام، وعيناي تصطدمان بمشاهد تؤكد عدم شعور الإنسان بحجم مسؤوليته ليس نحو عربات ومستهلكات من الجماد الذي لا يشعرُ ولا يحسُّ بل من البشر الذين يجلسون متقرطسين داخل هذه العلب الحديدية المصنَّعة على وجه التخصيص لحمولة جماد فلا نوافذ لها، ولا وسائل أو سبل تهوية، أو مقاعد استراحة، أو أحزمة أمان...
إذ ترى على امتداد «الجسر» بفاره طوله، وجمال قوامه، وانثناءاته المسهبة في يسرها، في ساعات الذروة تكتظ به هذه المكوكات الصغيرة ومتفاوته الأحجام والألوان والشخوص الذين يستقلونها، وهم يتذمَّرون لمجرد أن ازدحم بهم السير، وتوقفوا لبضع لحظات أو حتى دقائق إلى أن ينفرج بهم الطريق، فما بالك بتلك التي لا منفذ فيها، ويتكدَّس فيها عدد كأعداد الليمون كما يحلو للناس أن تقول عند الازدحام والتَّناكُب، ما هو حال إنسان يجلس فوق الآخر، أو حتى بجواره بطريقة لا إنسانية، لمجرد أنَّه عامل نظافة، أو صيانة، أو بناء؟...
فإذا كانت الناس قد تململت خوفاً من شهادة الجماد عند نشر المقال الأول منذ زمن، لمجرد أنَّها تخيَّلت نطق الجماد للشهادة ضده أو معه...
فما بال هؤلاء لا يتململون خوفاً من شهادة الإنسان ذاته، حيث تضطره الحاجة لأن يحتمل ما لا يحتمله الجماد؟!
آمل أن تُوضع ضوابطُ صارمةٌ للمؤسسات الخدمية في شأن التعامل مع فئات العاملين لديهم، ترعى حقَّ الإنسان في المأكل والملبس والمسكن وكذلك وسيلة النقل...
|
|
|
|
|