| محليــات
عندما أسافر إلى خارج المملكة أول شيء أفكر فيه هو أمن الكتاب الأخضر لا أعني الكتاب الاخضر الذي ألفه الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي لمنافسة الأيدلوجيتين السائدتين في زمن الحرب الباردة. وإنما الكتاب الأخضر الذي تصدره إدارة الجوازات بالمملكة العربية السعودية.
عندما أصل إلى البلاد الأجنبية أضع له جدولا للتفقد والمراقبة والمتابعة في الصباح وعندما أتحرك خارج الفندق وعندما أدخل الحمام وعندما أركب السيارة وعندما أذهب إلى السوق وعندما أسلم على أحد وعندما أودع هذا الأحد. يعني لا شغل لي في السفر إلا حماية الجواز.
ربما نشأت هذه الفوبيا (الخوف) من كثرة ما أسمعه من تحذيرات من ادارة الجوازات وأعتقد أن السر في ذلك هو أن هناك جهات إجرامية كثيرة تستفيد من حصولها على الجوازات المفقودة. ولكن خوفي من ضياع جوازي ربما يعود إلى تجربة مررت بها في الثمانينيات عندما كنت مغرما بهلنسكي. أرجو ألا يسألني أحد لماذا كنت حينها مغرماً بهلنسكي؛ لأن مشكلتي أنني متبدل المزاج والهوى. ففي كل فترة من عمري هناك مدينة عالمية أعشقها وكتب أميل إليها وأشكال من البشر لا استطيع ان أنام دون أن ألقي نظرة على سحناتهم الجميلة.
في زمن عشقي الكبير لهلنسكي (عاصمة فنلندا) تعرفت على صديق من أظرف الأصدقاء الذين عرفتهم في حياتي. اسمه مفتاح، من مواطني دولة السعادات العربية: خفيف دم وميال للقصف والمرح. يثير عاصفة من البهجة أينما ذهب. كنا نلتقي في أحد مقاهي وسط المدينة وقلما نخرج سويا إلى البحيرات نقصف ونتبادل النكات السياسية وطرائف أحم أحم والكتب. كنت أجد متعة رائقة عندما أجلس معه ومع زملائه من شباب العرب التائهين في مقاهي المدن الغربية.
جاء ذلك اليوم الذي رفع فيه الستار عن مسرحية عربية لا يستطيع أن يبدعها إلا القوانين والنظم العربية. كان قد مضى على مفتاح خمس سنوات في فنلندا، ولا بد أن يجدد جوازه. المشكلة أنه لا توجد سفارة لبلاده في فنلندا، فاتصل بإحدى سفارات بلاده في أوروبا فأبلغوه أن بإمكانه إرسال جوازه إلى أقرب سفارة. وصادف أنني كنت في طريقي إلى المملكة عبر ألمانيا، فأخذت جوازه معي إلى ألمانيا. وبعد شهر ونصف تقريبا عدت مرة أخرى إلى فنلندا والتقيته فأبلغني بمشكلته مع جوازه حيث طلبوا منه أن يرسل لهم شهادة موقعة من اثنين من مواطني بلاده من المقيمين في فنلندا، ومع الأسف كان هو السعادي الوحيد في فنلندا. وعندما اتصل بهم تلفونياً وأخبرهم بذلك قالوا له: هذا الإجراء لا يمكن تفاديه، لأنه صادر من مجلس الوزراء ولا يمكن أعفاؤك منه إلا بقرار من مجلس الوزراء. ولكن هناك حل وهو أن تذهب إلى السويد وهي مجاورة لفنلندا وستجد بالتأكيد من مواطني جمهورية السعادات من يوقع لك هذه الشهادة.
مشكلته أن جوازه منتهٍ، فكيف يسافر به من بلد أجنبي إلى بلد أجنبي آخر. فنصحه احد الشباب الفنلنديين بأن يذهب إلى الشرطة وأن يأخذ منها ورقة مرور من فنلندا إلى السويد خاصة أن هناك تكاملاً وحدوياً بين البلدين. كانت نصيحة عظيمة ولكنها انتهت بكارثة بكل المقاييس. سافر صاحبنا إلى هناك وتعرف على اثنين من بني جنسه من دولة السعادات وأخذ منهما الشهادة المطلوبة ثم عاد إلى فنلندا وبعث بها مع الجواز إلى المانيا مرة أخرى. وبعد أسبوعين عاد إليه الجواز دون تجديد. وعندما اتصل بالسفارة يسأل عن السبب قالوا له: إن جوازه كامل التجديد، لم يبق سوى توقيع القنصل الذي اعترض، وهو على حق، بأن هذا الجواز يجب أن يتم تجديده في السويد طالما أن الشهود مقرُّهم السويد. فذهب مرة أخرى إلى الشرطة الفنلندية وطلب الإذن بالسفر إلى السويد. فتفهمت الشرطة موقفه ومنحته حق السفر والعودة مرة أخرى. استلمت سفارة بلاده في السويد الجواز ووعدته بأن يتم تجديده في غضون عدة أيام وسوف يرسل إلى فنلندا بعد الانتهاء من تجديده. عاد إلى فنلندا مبتهجا وعاد إلى القصف والمرح، وبعد عدة أسابيع وصله جوازه بلا تجديد. فاتصل بسفارة بلاده في السويد فقالوا له إنهم في السفارة في السويد لا يستطيعون إتمام إجراءات جوازه، فهو شبه مجدد، وجاهز من قبل السفارة في ألمانيا ولم يبق من الإجراءات سوى توقيع القنصل السعادي في المانيا. وكما هو معلوم للجميع من المستحيل أن يوقع قنصل في السويد مكان قنصل في المانيا؛ فاتصل مرة أخرى بسفارة بلاده في المانيا وأبلغهم بذلك ولكنهم قالوا له يا أخي لازم تفهم أنه من غير المنطقي أن يكون صاحب الجواز في فنلندا والشهود في السويد والتجديد في المانيا، فأنت رسمياً تابع للسويد. فاتصل مرة أخرى بالسفارة في السويد وأخبرهم بذلك فقال له الموظف في السويد: هذا كلام صحيح مائة في المائة ولكن جوازك مع الأسف طمغ بأختام التجديد في المانيا وينتظر توقيع قنصل المانيا وكل الأختام مكتوب عليها «سفارة السعادات بألمانيا». فطلب حلاً للمعضلة فقالوا: بصراحة لا توجد حالة مشابهة لحالتك وبالتالي لم يصدر فيها قانون، لذا ليس أمامك إلا سفارة المانيا.
مشكلته ليست في الجواز فقط، إنه يريد تجديد جوازه لكي يجدد إقامته في فنلندا وبالتالي يجدد أوراق عمله.
فقد مفتاح مرحه المعهود وبدأت الدنيا تسودُّ في وجه وقبل أن يبلغ به اليأس مبلغه عاد صديقنا الفنلندي ليقدم له النصيحة الثانية والأخيرة. وهي أن يذهب إلى وزارة الداخلية الفنلندية ويشرح لهم ظروفه. فتفهم الفنلنديون مشكلته وأعطوه أقامة عمل لا بصفته أجنبياً مقيماً، كما كان في السابق، وإنما بصفته لاجئاً لا وطن له.
لمراسلة الكاتب
فاكس رقم 4702164
|
|
|
|
|