| الثقافية
.أحزاننا نباتات صحراوية تنبت بلا سقيا ولا مطر، لذا هي تظهر بوجوه كثيرة وعديدة، وهذه بعض وجوهها:
الوجه الأول
جلس على الرصيف، ولم يطل الجلوس فحرارة الشمس قد حولته إلى صفيح مشتعل.
نظر إلى رزم المحارم، لم يبع إلا اثنتين فقط.
مد يده نحو جيبه، ليعد ما كسبه اليوم، عشرون ريالاً فقط!! نصفها لسيارة الأجرة التي ستقله إلى ذلك الحي العتيق، ونصفها للخبز واللبن.
ابتسم عندما تذكر عبارته البارحة لأمه وأختيه: سيحالفني الحظ غداً فأجلب لكن غداء من أرقى مطعم في المدينة. امتعض وجهه عندما مرت سيارة يستقلها صبي قد أخرج كراسته ليريها أباه. حن للمدرسة التي هجرها بعد وفاة والده. وحن للعب الكرة، والمشاجرة مع الصبية، والحلوى حن لأيام طفولته التي هجرها مبكراً وهو لايزال في العاشرة!!
لملم رزمه وقال: يكفي أنني أعرف الحساب.
الوجه الثاني
أدار ظهره للحرم الجامعي الكبير، يمم وجهه شطر منزله، رافقه طوال الطريق بيت لمالئ الدنيا وشاغل الناس:
على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ
وتأتي على قدر الكرام المكارمُ |
قهقه ضاحكاً وهز رأسه وقال بصوت مسموع: أخطأت يا أبا الطيب كان الأجدر أن تقول:
على قدر أهل الواسطة تأتي الوسائط
وتأتي على قدر أموالك المراكز |
وصل المنزل وعندما أراد النزول وطئت قدمه على ورقة شجرة صفراء، فتفتتت، لمّ فتاتها وقال بصوت مسموع أيضا:
بعد الكبرياء والنضارة والخضرة، ها أنت الآن أيتها الورقة تسقطين من أعلى الشجرة، لتدوسك الأقدام. إنك كأحلامي الوردية التي تصطدم بالواقع فتحتضر أمامي ولا أستطيع إنقاذها.
دلف إلى المنزل، ونادى بأعلى صوته: أمي أحضري لي طاسة ماء.
أحضرتها له وهي تحث الخطى وصوتها الحنون يسبقها: هاه بشر قبلتك الجامعة؟
تناول الطاسة منها، ووضع شهادته فيها!!
حدقت فيه الأم، رفع رأسه لها وقال: الأفضل أن أبلها وأشرب ماءها.
الوجه الثالث
مع ليل سرمدي طويل كأنه ليل امرئ القيس ظلت تناجي الله، وهي تتأمل في السماء. أغلقت النافذة، وتوجهت إلى مكتبها، لتكتب عما يجيش في صدرها، وعندما فتحت الدرج أخرجت مجموعة أوراق أثرت في حياتها بين مد وجزر.
الورقة الأولى: كانت عقد زواجها، والثانية: شهادة ميلاد ابنتها، والثالثة: ورقة طلاقها، الرابعة: أمر من المحكمة بتسليم الابنة إلى حضانة أبيها الأحد القادم فقد بلغت السادسة.
ورغم بياض الأوراق بدت عندها سوداء، همعت عيناها بل همت، وتمنت لو أن هذه الدموع بكرت في زيارتها قبل أن تخسر عائلتها.
الوجه الرابع
ساعة الحائط تنطق بالمواعيد الكاذبة. العقرب القصير يرتكز عند الرقم«10» والعقرب الطويل كذلك. سمرت عينيها على ذينك العقربين وغبطتهما لتلازمهما فبعد كل دقيقة يلتقيان.وخيل لها أنهما ابن وولده متلازمان لايفترقان مهما حصل فهما يسكنان داراً واحدة.مرت ساعة وساعتان وثلاث بل ألف ألف ساعة وما جاء منهم أحد، تفحصت جهاز الهاتف أكثر من مرة عل أحدهم يهاتفها معتذراً عن المجيء. هذه ثالث جمعة ولم تر وجوههم أو حتى تسمع أصواتهم. أسندت رأسها على الجدار، واستسلمت لذكريات حدثت في هذا المكان.
أخذت ذاكرتها تنقبض وتنبسط ولكن لاتطلق مخاضاً إلا للوجع والألم.
هنا في هذا المكان حفظتهم قوله تعالى: «وقضى ربك ألا تبعدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً.
إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا».
تنهدت بألم قائلة: لقدحفظوا الآيات ولكن ما وعوها!
الوجه الخامس
هاتفت زوجها تبلغه بضرورة المجيء لأخذ ابنها إلى المستشفى فقد سقط من على دراجته ونزفت ساقه دماً. ظلت محتضنة ابنها حتى قدوم أبيه، التفتت نحو ذلك الصبي الذي يختبئ خلف والده، حاول أبوه أن يحميه مراراً.
رفع يده مستنجدا، ونادى: توقفوا توقفوا.
لكن لم يسمعه أحد، لابل سمعوه وردوا عليه بأبشع رد!!
كان ردهم رصاصات متكررة أسفر عنها سقوط الصغير على حضن والده مضرجاً بدمائه.
صرخ أبوه في وجه العالم«الولد مات. مات الولد».. ظل يصرخ لكن لا أحد لم تتمالك نفسها فأجهشت بالبكاء.
أغلقت التلفاز وقالت بصوت متهدج: أظن أن أحزاننا تصبح لا شيء أمام أحزانهم.
|
|
|
|
|