| مقـالات
والماء من قبل ومن بعد نعمة او نقمة، أسقاه الله اقواماً غدقاً فرعوا حق مانحه فيه، فكانوا نعم الخليفة في الأرض، وأجراه تحت أقدام أقوام آخرين فكفروا بأنعمه، فأذاقهم الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.
تطاول فرعون وأدل بالأنهار التي تجري من تحت قدميه، فأهلكه الله بالغرق، واستغشى قوم نوح ثيابهم، وأصروا، واستكبروا استكباراً، فانهمرت السماء بالمطر وفار التنور ليهلكهم بالغرق، وجاءت رؤيا البقرات السمان والعجاف، فكان يوسف على خزائن الأرض، لينقذ قومه بما وهبه الله من «علم» و«حفظ» هما قوام العمل في مواجهة الازمات الطارئة والدائمة.
وابتلي قوم طالوت بنهر، وحين شربوا منه فوق المسموح به، لم يكن لهم طاقة بجالوت وجنوده، ذلك جانب الامتثال اما جانب التمثل فمرده للتقدير والتدبير والتوقيت، وليس للوفرة وحسب، فالمياه تكون شحيحة عند قوم فيكثر نفعها بالتدبير والاستغلال الحسن، وتكون كثيرة عند آخرين، ثم لايحسنون صيانتها ولا استغلالها، فتضيع ويضيعون معها، وتلك حقائق قائمة نراها رأي العين.
فكم نشاهد دولاً فقيرة، تمخر أرضها الانهار، وتنهمر على رباها الأمطار، ومع ذلك نرى شعوبها كأفقر ما يكون البشر، يصطرعون حول الفقر والفاقة والضياع، وكأن التخلف قدرهم الذي لايرضون به بديلاً تستوطن عندهم الأمراض، ويستفحل الفقر، وتتفاقم البطالة، وتستشري المجاعة، وتتحول نعمة الماء إلى نقمة، فتنشأ المستنقعات، ويتولد البعوض، وتنتشر الأوبئة، وتفسد التربة، فيزيد وحلها، وتنشل حركة سكانها، الأمر الذي يحفز المنظمات الصحية والجمعيات الإنسانية على تدارك الأمر، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، والدولة الواعية الناصحة هي التي تعرف نفسها، وتقدر إمكانياتها، وترتب أمورها على ضوء ما يتبدى لها من معرفة للذات وتقدير للإمكانيات.
واللفتة القرآنية في قصة يوسف عليه السلام تؤكد ما يجب أن تذهب إليه الدولة المؤتمنة على مصالح الأمة ومستقبل أجيالها، وبخاصة عند الأزمات العارضة، فيوسف عليه السلام «حفيظ» للثروة «عليم» بمقدارها وطرق تصريفها.
واهتمام الدول المتحضرة بالماء ليس من باب الترف أو التزيد، وسواء كان الاهتمام في ظل الوفرة أو في ظروف الشح، فالإفراط والتفريط طرفا نقيض، يستويان في العائد السلبي، والتدبير مع الشح أجدى من التبذير مع الوفرة، والإسلام نهى عن الإسراف بالماء، ولو كان المستعمل على نهر جار. فالماء ثروة مزدوجة، في حين تجيء الثروات الجوفية فردية، والقرآن الكريم عرض للماء في أكثر من «ستين» موضعاً، مؤكداً أهميته وأثره ودخوله في حياة كل شيء، ولأنه نعمة لاتضاهيه نعمة تساءل الله تساؤل تقرير لاتساؤل استعلام عمن أنزله، وعمن يأتي به حين يغور.
والحديث عن البحار والأنهار والسدود والأمطار والمياه الجوفية والخزن الاستراتيجي والتحلية والتنقية وسبل الاستفادة من كل ذلك حديث مستفيض، يعيه المعنيون، ولايجهل قيمة كل ذلك إلا من يجهل الحياة بأسرها. والتفاوت ليس في وعي الأهمية، ولكنه في الفعل الذي يحول الوعي الكموني إلى وعي فاعل.
والأمة العربية تمتلك ثروات مائية دون المستوى المطلوب، ولكنها لو استغلت بوعي لتحول العالم العربي إلى سلة غذاء، وهو اليوم أكبر مستورد مستهلك، وأمنه الغذائي لم يكن بمستوى إمكانياته المائية، والدول المنتجة تتحكم في مصائره، لأنها تملك كساءه وطعامه، وحين لايزرع ما يأكل، ولاينسج ما يلبس، ولا يصنع ما يستعمل لاتكون له الكلمة الأخيرة في قضاياه المصيرية. وتدبير الماء وحسن استغلاله أول الخطوات الراشدة، وأهم الخطوات لفك الرقاب. والأمة العربية بحاجة إلى استراتيجية جماعية، ومراكز أبحاث موحدة، وتطوير مستمر لوسائل البحث، وتبادل سلس للخبرات والخبراء، كي توفر غطاءً أمنياً مائياً لا يقل عن كل مفردات الأمن.
والمملكة العربية السعودية في سياق الأمة العربية دولة صحراوية شاسعة الأرجاء، شديدة الحرارة، صعبة الأجواء، تعتمد على الأمطار الموسمية الشحيحة،. وعلى الآبار السطحية والعميقة الباهظة التكاليف، واستراتيجيتها محصورة في التكوينات والمصائد المجهولة الروافد، ومتطلبات الماء متنوعة: بشرية وزراعية وصناعية ومعمارية وتلطيفية تتراوح بين الاستهلاك والاستثمار، وكمياته الجوفية، ومصادر التعويض تخمينية، والناس فيه بين متشائم ومتفائل، ومخيف ومطمئن، وداع إلى الاستغلال ومحذر منه. قيل إنه يجري في الأرض كما الدماء في الشرايين، وقيل إنه منذ ملايين السنين مستقر في الأحواض والمصايد، فلا تعويض له البتة، أو أن التعويض بطيء، وقيل عن الأنهار الجوفية كما السطحية.
ومهما يكن فإن إمكانيات التعويض على كل الأحوال لاتكون بمستوى الاستنزاف الفوضوي، وما لايمكن إنكاره أن المعلومات عن أوضاع المياه الجوفية مجال اجتهاد واختلاف وخوف واطمئنان. والنزف غير المرشد قد يؤدي إلى النفاد النهائي، أو الهبوط البطيء التعويض، والسعي لتوفيره من أي طريق باهظ التكاليف، وفي ظل هذه الأجواء لابد من علمية التداول وضبط إيقاع التشاؤم والتفاؤل.
وفي سبيل التوفر على الأمن المائي طرحت رؤى متعددة، منها الممكن ومنها المستحيل، فلقد قيل عن سحب جبال الثلوج أو جلب مياه الأنهار الأسيوية أو الإفريقية بالشراء أو بالمقايضة البترولية، كما تم تنفيذ طرق ممكنة كالتحلية والمعالجة. والدولة أكبر منتج للمياه المحلاة، ولكن التكاليف باهظة والضمانات ليست على المستوى المطمئن. والدولة الصحراوية التي تعتمد على المياه الجوفية بحاجة إلى «تنمية»، و«تصفية»،و «تنقية»، و«تحلية» و«تخزين» و«سدود»، ولكل مهمة مصادرها وإنفاقها وسلبياتها وعقباتها. ولكي تجتاز الدولة هذه العوائق فهي بحاجة إلى فرق عمل متخصصة وخبراء مهنة متمكنين وأداء علمي منضبط، ومعاهد بحوث، ومراكز معلومات، ورصد تجريبي، واستراتيجية محلية وعربية، وعدد من البدائل، وتوزيع للمشاريع الزراعية على أطراف البلاد، وتنويع لها، ومراعاة للظروف الجوية والموسمية، ودراسات للتربة والوسائل، ومستغل يأخذ بأحدث ما توصلت إليه الإنسانية من تقنية وتوعية للرأي العام كي يفهم حجم المشكلة وخطورتها ويدرك أهمية الوزارة القادمة، وأنها ليست لمزيد من الضرائب والإجراءات، والويل لنا إن تحولت الوزارة إلى كتبة يتداولون الأوراق، ويعقدون الأمور،لايعرفون استراتيجية، ولايحسنون تصرفاً في الرخاء أو الشدة، ولايعملون على تلافي النقص، وتحول المواطن إلى متحايل يبحث عن الثغرات.
إن الوزارة القادمة بحاجة إلى هيكلة جديدة، تمكنها من مبادرات استثنائية، قد تصل إلى حد المغامرة المحفوفة بالمخاطر. واشكالية الماء التي شغلت العالم، واستنفرت قواه، ووجهت علماءه صوب المعامل والمختبرات والمجسات، ووترت أعصاب الساسة والاقتصاديين، قد تزج بالدول في حروب مدمرة، تريق فيها الدماء من أجل قطرات الماء، وشبح الخوف يبدو من تركيا وإسرائيل ومناوراتهما في اختراق الأعراف المتبعة في المياه المشتركة. والدول الصحراوية النامية المترامية الأطراف البعيدة الطموح أمام خيارات أحلاها مر:
الصناعة. أو الزراعة.
أو هما معاً مع معادلة صعبة.
والزراعة لاشك أنها الخيار الأفضل، لأنها الأقدر على توفير الأمن الغذائي والأخلاقيات العالية والبيئة النقية ومحاصرة التصحر والجفاف، وأقصد زراعة الكفاف.
وحين نجنح إلى خيار الزراعة لا نولي الصناعة الأدبار، وإنما المسألة تحرف وانحياز، وتلك المعادلة الأصعب تضع جهات الاختصاص على مفترق الطرق.
والعالم اليوم يمر بزمن عصيب يوصف بالتصحر والجفاف، ومع أنه قد اجتاح العالم فإننا في المملكة لم نحس به بالقدر الذي مس كثيراً من البشر، وعرضهم لأزمات موجعة، لقد وقينا ذلك بسبب الامكانيات المادية التي أفاء الله بها علينا، ثم بتحامل الدولة على اعصابها لاجتياز تلك المحنة.
إن الوفرة المادية مكنتنا من صناعة الأجواء ومغالبة الظروف وتعويض سلبيات الجفاف المخفيف، وتحت وابل هذه الظروف العصيبة تكون المسؤولية أعقد وأخطر، ونكون بحاجة ماسة إلى «علم» يقدر الإمكانيات «وحفيظ» لايفرط بها.
وكل الذي نتطلع إليه أن تكون الوزارة الوليدة متوفرة على«الحفظ» و«العلم» اليوسفي، بحيث تتجاوز محنة البقرات العجاف. والزمن الذي يعيشه أبناؤنا زمن ربيعي، لم يروا فيه ما رأينا، ولم يعيشوا الكفاف الذي عشناه، ولا أحسبهم يتصورون ما نقول لهم عن الماضي القريب.
لقد ادركنا طرفاً من معركة التكوين التي خاضها الملك عبدالعزيز قائداً مظفراً للآباء والأجداد، ولما يفرغ لمعركة البناء، فذقنا شيئاً من مرارة التقشف وشظف العيش.
لقد كنا في طفولتنا نجلب الماء من أطراف المدينة على ظهور الدواب، وكان استخراج الماء من الآبار على ذات الدواب، وكانت الآبار المستساغة لموسرين بذلوها للواردين، وكان القادرون من الأسر يربطون الحمير لجلب المياه الصالحة للشرب اضطراراً، أما الدهماء فإن نساءهم يتولين جلب الماء على رؤوسهن.
وفي البيوت آبار يدلون فيها الدلاء ويمتحون منها الماء المالح الذي لا يصلح للغسيل والاغتسال البشري إلا اضطراراً. والنعم التي اجتاحت البلاد، وقلبت اوضاعها رأساً على عقب تحتاج الى شكر ورعاية، ومن الشكر عدم الإسراف، والله يقول: «وكلوا واشربوا ولا تسرفوا». إننا بحاجة ماسة الى الدراية بأحوالنا، وتقدير الظروف ومساندة الدولة على اجتياز المفازات، والتغلب على الأزمات، إذ من الخير ألا نخادع أنفسنا، ونركن الى امكانياتنا المؤقتة، لا بد من التأسيس للمستقبل، ولا يكون ذلك إلا حين نسأل عما قَدَّمنا، لا عما قُدّم لنا، وإلا حين نكون عائلين للدولة، لا معولين لها، وإلا حين نعرف المخارج قبل المداخل، وإلا حين نكون منتجين لا مستهلكين، وثروة الدولة وأمنها في رجالها: وعياً، ومهارة، واخلاصاً، وأداءً، وثقة بالقادة.
لقد خضنا معتركات كثيرة، ومنها معترك الزراعة، وكأننا دولة أنهار وأمطار وأجواء ربيعية، وانزلقنا بشكل فوضوي في مشاريع «القمح» و«الاعلاف»، وقامت شركات وطنية وأفراد أثرياء، وظفوا ملايين الدولارات وجلبوا أحدث الأجهزة وأغلاها، وحفروا آلاف الآبار العميقة، وأنشأوا مدناً زراعية، وحين ظهرت بوادر الأخطاء، تراجعت الدولة عن دعمها المطلق، أو قل تحفظت بعض الشيء، لتعود القافلة إلى طريق الصواب، ولما لم يجد الملاك من السهل التراجع بحجم تراجع الدولة، تحامل بعضهم على نفسه، وغالب المشاكل، ولكنها كانت الأغلب، ومارس آخرون تصفية المشاريع أو نقلها، ومن ثم مني المزارعون بخسائر ما كان لها أن تكون، لو أن الأمور أخذت بالتقدير والتدبير، وهنا تكون استدراكاتنا حول ادعاء المثالية، فنحن كغيرنا عرضة للخطأ ولكنه خطأ لا خطيئة.
وحين يكون الخطأ الفادح الخسائر فادحة، وما من أحد أساء الظن بالمسؤولين، ولكنها المبادرات العاطفية والمسايرات الإرضائية، والأهم في كل هذه الاخفاقات أن نواجه قدرنا بثقة ووعي، وأن نحاول تجاوز المنعطف بتصرف حكيم، يقي مصارع الأخطاء، وأن نستفيد من كل خطأ مر به غيرنا فضلاً عن أخطاء وقعنا فيها، ان أوضاع العالم على كل الصعد وما يمر به من ترديات، يستدعي المكاشفة والشفافية،ويجب أن تكون الشفافية حافزاً لنا على التحرف الحضاري، وليست مؤججة للتلاوم والبحث عن المشاجب، أو ترك الأمور والتحامل على النفس كما المريض الخائف الذي يطوي كشحه على مرضه حتى يقضي عليه، إن هناك تجاوزات وأخطاء متراكمة أفرزها تطبيق المشروع الزراعي الذي واكب الطفرة، والمقامرة التي تعرضت لها بعض المشاريع، وتهافت الناس على الزراعة دون خبرة أو علم أو حاجة، ولم يكن من السهل التخلي عنها، وبخاصة من المستفيدين الذين وضعوا كل بيضهم في سلة واحدة، والدولة التي اكتنفت المشاكل من كل جانب لم تستطع رد الهاربين إلى الأمام، حتى أن فرض زيادة باهظة في أسعار الزيت لم تكن رغبة في ذات الزيادة، ولاحاجة في دعم الواردات، ولكنها محاولة لتثبيط الاندفاع في مشروع الحبوب، إلا أنها من الحلول التي طالت أبرياء ليست لهم في هذه المشاريع نياق ولا جمال.
والشركات الزراعية التي أطبقت فكيها على أموال المساهمين، وتدنت أسهمها إلى حد لا يصدقه مضارب، تأتي ضمن سلسلة المشاكل، وأحسب أن مدار ذلك على فوضوية استغلال المياه، فالدولة أدركت خطورة الموقف وتحديات المنافس الأقدر، وتأبت على استمرار الأخطاء والتنافس غير المتكافئ. ومسايرات الترضية قد تعمق المأساة، وتعقد المواجهة، ولسنا بصدد الموازنة بين تكلفة الانتاج وقيمة المنتج المستورد، فالقمح في الدولة المطيرة وذات الأنهار والأجواء الباردة والمصنعة لآلياتها لا شك أن تكلفة انتاج القمح فيها أقل، ولكن يقابل ذلك تحول القمح إلى سلعة استراتيجية كالبترول، والارتباط بالمنتج سيكون على حساب القرارات المصيرية، وهذا ما نشاهده على المسرح السياسي، وحرب الأسعار، والعولمة، والخبرة، والتقنية، والأجواء، ووفرة المياه وتكلفة توفيرها قضايا يجب أن يعيها المواطن لكي يكون حضاري التصرف والمواجهة.
والدولة الواعية هي التي تحتفظ بتجاربها الايجابية، وتحاول فك رقبتها من تحكم المنتج، ولا أقل من أن تقف الدولة عند حد الاكتفاء الذاتي أو ما دونه بقليل، وفي المقابل فإنه ليس من الحصافة الخضوع للتخويف والتحول بالأمة إلى عائل فقير يمن عليه المنتج ويخوفه، وعلينا ألا نلقي السمع إلى التخويف الزائد عن الحد، بحيث ندع الماء في باطن الأرض، ولا نستغل منه ما يبلغ بنا حد الكفاف.
والوزارة المرتقبة ستواجه ركاماً من المشاكل، وسيلاً من الخيارات، ومستويات من الوعي المتدني، إذ ان بدايتها مجرد انسلاخ وظيفي ومؤسساتي من جهات متعددة، وهنا تكون معضلة البدء. هل ستواصل مسيرتها كما هي من قبل، أم أنها ستتخذ طريقاً قاصداً؟ وبالتالي ستكون أمام تراث مثقل بالمشاكل، ومعاصرة مليئة بالطموح، وتنازع مسؤوليات مع وزارة الزراعة، ووزارة الشؤون البلدية والقروية. وهي بين تحكم في الاستهلاك أو إشراف صوري.
وحين تكون بين خيارات صعبة وتداخلات مستحكمة كما في الأثر: «أمي .. وصلاتي» تكون المواجهة عصيبة والقرارات حساسة، لأن التعصرن يتطلب تصفيات متعددة في الأنظمة وفي القوى البشرية ويقتضي اتخاذ الاجراءات الفورية والمرونة في الأداء، والسرعة في اتخاذ القرارات، والتفويض المباشر، والإمكانيات المتكافئة.
ومع هذا سيظل هناك قضايا معلقة وتداخل حساس بين (الزراعة)، و (المياه)، و (التحلية)، و (البلديات)، و (الأمانات)، ومشاريع أخرى ذات شخصيات اعتبارية (كالصرف في الأحساء) ثم إن هناك رؤى متعددة فكليات الزراعة لها رؤيتها العلمية، ومدينة الملك عبدالعزيز لها رؤيتها المخبرية والمجربون لهم رهانهم التجريبي، والمهم في كل ذلك وجود المؤسسة القادرة على جمع الكلمة، وتوحيد الرؤية، وإقناع المستهلك والمستثمر، وكم هو الفرق بين الإكراه والإقناع. إن الوزارة القادمة أمام جدلية لن تنتهي بسهولة.
الماء بذاته إشكالية، فكل حي مرتبط به محتاج إليه. يكون هناك استخدام مائي رسمي، واستخدام سكاني استهلاكي، واستخدام زراعي وصناعي استثماري، ويكون هناك تصريف ومعالجة واستعادة استخدام ومواجهة للمستنقعات والبيارات وأثر الأساليب التقليدية القائمة في تدمير البنية التحتية. والتداخل وتعدد الوجوه وتناقض الأساليب والمفاهيم قد يمكن من الخلاف وضياع المسؤولية.
هذه الوزارة الجديدة القديمة ماذا ستفعل، وهي تستلم ما يقع تحت اختصاصها من جهات متعددة، لاشك ان هذه التركة المبعثرة المهترئة ستحمل معها سلبيات الماضي وإجراءاته البطيئة وأنماطه التقليدية، وهي ستواجه لغطاً كثيراً يضرب في فجاج الآراء.لقد سمعنا من يقول عن استهلاك الماء في صناعة الألبان وفي انتاج الدواجن ولم نسمع من يقول عن غسيل السيارات، وسمعنا من يتحدث عن الفرق بين المستهلك الأوروبي والمستهلك العربي المسلم، ولم نسمع من يحدثنا عن أجواء كل مقاطعة، وعن أنواع الزراعة وآلياتها المساعدة على التوفير كالمحميات والرش وبعض المنتجات. إن اللغط بمستوى التصرف عامي ارتجالي، والبراعة في تصحيح المفاهيم وتطوير الذهنيات.والوزير القادم كيف يتصوره العالمون، والمواطنون والمستثمرون؟ وكيف يرتبون أنفسهم للتعامل معه/ فهل سيكون إدارياً أم خبيراً فاعلاً أم مجادلاً مشتغلاً بالجاهزيات أم مبتكراً؟ ثم كيف يواجه دوامة الآراء ومختلف الأوضاع وشيخوخة الأيام/ وكيف يكون إزاء أوضاع ذهنية ووظيفية إجرائية فرضت نفسها بالتقادم كما يقول الأصوليون؟ لست متشائماً، ولست ظانّاً بالوزارة القادمة ظن السوء، وفي الوقت نفسه، لست متفائلاً إلى حد البلاهة، هذه الظروف العصيبة تحتم علينا ان نفعل بصدق وإخلاص وأمانة وإدراك وأهلية، وألا يكون تعتيم يحجب الرؤية ولا شفافية لانتجاوز معها التحسر والتلاوم.لا بد من ممارسات حصيفة متروية نحتمل معها القسوة ونصبر على الألم، ولا نريد للجرح ان يرم على فساد، فالزمن والإمكانيات مواتية، ولم يبق إلا ان نفعل، والفعل وراءه عقبات مالية ونظامية وأولويات وخيارات، وأول خطوة يجب اتخاذها التوعية الجادة، والترشيد السليم، وإشعار المواطن بأهمية الماء، وتحديد المسار، ثم المبادرة في تعميم الصرف الصحي، ومعالجة المياه، وإعادة استعمالها بما يناسبها، وتجديد الشبكات، وتوفير الماء لكل مسكن، والقضاء على ا لمساندة بالنقل، وتفادي الأزمات، وتنويع المصار، وتحديد الاستهلاك، وتعميم العدادات على البيوت والآبار، وتحمل المرحلة الانتقالية بكل صخبها.
|
|
|
|
|