| وَرّاق الجزيرة
تختلف «أو تمتاز» الكتب التراثية القديمة عن الكثير من الكتب المعاصرة بخاصية التنوع في طرح المادة فلا يستغرب أن تجد في أحد كتب شروح الحديث أو كتب التفسير معلومات متنوعة في التراجم والأدب واللغة والنحو، ويكون هذا الطرح بشكل متوسع نسبيا، ويكون هذا البحث مرجعا مفيدا للباحثين المختصين، فعلى سبيل المثال تجد في كتب التفسير بحثا مطولا في مسألة نحوية قد لا يكون متوفرا في كتب أخرى نحوية أو غير نحوية أو تجد في أحد كتب شروح الحديث بحثا جيدا في نسب أحد الرواة من علماء الحديث، وتجد في بعض كتب التراجم في ترجمة أحد الفقهاء أو علماء النحو نماذج من اختياراته الفقهية وآرائه النحوية، وهذا أمر مشاهد معروف لدى الجميع فلا يحتاج إلى إطالة بحث.
ولما كان الكثير من كتب التراث بهذه الصورة التي قد لا يستطيع الاستفادة منها الباحث صاحب الحاجة الوحدة أو المحدودة، إضافة إلى طولها بالنسبة إلى كتب المعاصرين، كان لا بد من محاولة لتقريب هذه الكتب للباحثين من المعاصرين، ليصل إلى بغيته في أقرب فرصة، فوجدت بعض المحاولات في هذا المجال من قبل بعض المهتمين.
فعلى سبيل المثال، رأينا طريقة الاختصار «أو التهذيب» للكتب التراثية، كما فعل مع لسان العرب لابن منظور، أو المغني في الفقه الحنبلي لابن قدامة، أو المصادر الحديثية الكبرى «الكتب الستة وغيرها» أو كتب التفسير، مثل تفسير ابن جرير الطبري أو ابن كثير الدمشقي، وعادة ما يكون الاختصار لهذه الكتب بحذف الأسانيد في الكتب المسندة، أو حذف الاستطرادات في الكتب غير المسندة، أو حذف الأقوال الضعيفة والمرجوحة في الكتب الفقهية، أو الاسرائيليات في كتب التفاسير أو القراءات الشاذة، كما هو معلوم أو كما هو موضح في مقدمة كل كتاب مختصر.
وهذه طريقة معروفة من طرق تقريب كتب التراث، وإن كانت لا تحظى بقبول تام في الأوساط البحثية إذ ان كثيرا من الباحثين يرى أن الاختصار يقتل روح الكتاب الأصلى، وفيه جناية على جهد المؤلف المتوفى، كما أن بعض المختصرين قد لا يصل إلى الدرجة المناسبة من استيعاب الكتاب المختصر، فيكون اختصاره مشوها، ويرى البعض الآخر أن الاختصار طريقة علمية مطلوبة وتخدم الباحثين، وليست بدعة فقد كان بعض المتقدمين يختصر الكتب للعلماء الذين سبقوه، وعلى سبيل المثال الحافظ ابن حجر والذهبي قد اختصروا بعض الكتب، فاختصار الكتب ليس بدعة، بل هو ضرورة علمية، أو بحثية في بعض الأحيان تتطلبها ظروف طالب العلم والمؤلف والباحث.
وهناك طريقة أخرى من طرق تقريب كتب التراث للمعاصرين هي في غاية الأهمية، وفي الوقت نفسه ليس فيها أي تعد على الكتاب المقصود بالتقريب، وهي طريقة الفهارس أو الكشافات الشاملة للكتب على طريقة الموضوعات المتنوعة، فنجد أن بعض الكتب الكبرى التراثية يتبعها مجلد أو مجلدان لفهرسة هذه الموسوعة الكبرى، وتكون هذه الفهارس شاملة لكل ما يريده أو ما لا يريده الباحث من هذا الكتاب من جوانب تخدمه في تخصصه، أو من أي الفوائد الإضافية واللطائف والتقميشات.
وللعلامة الدكتور محمود الطناحي رحمه اللّه تعالى «ت 1419 ه» كلمة جميلة قالها في هذا المجال في مقدمة فهرسته لكتاب غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام، حيث قال تحت عنوان «كلمة عن الفهارس والكنوز المخبوءة: الكتب بلا فهارس، كنز بلا مفتاح. كلمة حكيمة سمعتها من شيخ حكيم، من شيوخ التراث وكان ذلك منذ نحو عشرين عاما أوائل اشتغالي بالمخطوطات.
وتمادت بي الأيام «الكلام لا يزال للطناحي» وتنوعت أمامي التجارب، وقرأت وأبصرت وسمعت وسألت، ولا زلت أجد صدق هذه الكلمة فيما أعالج من شؤون هذا التراث: نشرا أو درسا، وذلك أن كتب التراث متداخلة الأسباب متشابكة الأطراف، وقلما تجد كتابا منها مقتصرا على فن بعينه، دون الولوج إلى بعض الفنون الأخرى، لدواعي الاستطراد والمناسبة، وهذا يؤدي لا محالة أن تجد الشيء في غير مظانه، وأضرب لذلك مثالا واحدا بعلم النحو: فليست مسائل هذا العلم في كتب النحو فقط، ففي كتب التفسير والقراءات نحو كثير، وفي كتب الفقه وأصول الفقه نحو كثير، وفي كتب اللغة وشروح الشعر نحو كثير، بل إنك واجد في بعض كتب السير والتاريخ والأدب والمعارف ما لا تكاد تجده في كتب النحو المتداولة، واقرأ إن شئت الروض الأنف للسهيلي، ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وبدائع الفوائد لابن القيم ...
قلت: وهذا جزء من كلام طويل للطناحي أوصي القارئ الكريم بمراجعته كاملا، فقد ختمه بفوائد متنوعة للفهارس والكشافات، لا يتسع المقال لذكرها، لكنها على درجة كبيرة من الأهمية، وهذا الفهرس موجود في مجلة «البحث العلمي، الصادرة عن جامعة أم القرى سنة 1401ه » ولم ينفرد العلامة الطناحي بهذا التنبيه بل سبقه علماء وتبعه آخرون كلهم يذكرون أهمية هذا المقصد الجليل من مقاصد التأليف، ومما يحب أن ننتبه إليه أن عملية الفهرسة لكتب التراث ليست عملية آلية، بمعنى أن يقرأ المفهرس الكتاب ويضع الأعلام في فهرس الأعلام، والأبيات الشعرية في فهرس الشعر، ليس الأمر كذلك، بل عملية الفهرسة عملية شاقة فأنت مطالب بقراءة متأنية في الكتاب المراد فهرسته، ومحاولة تصنيف جميع سطور هذا الكتاب على وحدات موضوعية، فمع فهرس الأعلام والشعر، لا بد من فهرس المصادر والألفاظ والمصطلحات الحضارية والنقدية، وكل كلمة في الكتاب تجد أنها ستحظى باهتمام الباحثين، لا بد أن تكون في موقعها المناسب من الفهارس، وهنا يكون الفهرس مصدرا علميا لا يستغنى عنه، بل إنك حينما تطالع فهارس بعض الكتب الدقيقة، فلا بد أن يخطر في ذهنك موضوع تبحثه أو تكتب عنه أو تتوسع فيه من خلال مطالعتك للفهرس، فقد يكون هذا الفهرس الدقيق هو المشعل الأول لشرارة البحث في ذهنك، ومن أجل هذا نستطيع أن نجزم بأن بعض المفهرسين بفهارسهم قدموا للعلم خدمات جليلة وكبرى لا يستهان بها، ففي بعض الأحيان تمر بك فائدة لطيفة في كتاب، ولا تستطيع أن تصنفها في موضوع وتجد أن الفهرسة الدقيقة تساعد على التصنيف وتقدح في ذهن طالب العلم الكثير من الأفكار.
وبعد هذا أليس من المهم ذكره أن يقال: أن الفهارس يرجع إليها كثيرا سواء كانت تطبع مفردة أو بذيل الكتاب وتخدم عشرات الباحثين في أبحاثهم وانتاجاتهم، ثم لا نجد الفهارس المستقلة ضمن قائمة المراجع لبعض الكتب على دورها الكبير، فمن أجل هذا ألا يصح أن توصف بعض الفهارس بالجندي المجهول؟.
|
|
|
|
|