أسلفت الاحتمال الراجح بأن لديك الجن جارية قتلها، وقال فيها شعراً.. إلا أن القصة المستفيضة عن قتل ديك الجن لجاريته غيرةً عليها أسطورةٌ عربية قديمة قبل أن يولد ديك الجن، ثم لما رُكِّبتْ عليه انتحالاً، أو تنحيلاً: كان التركيب غير ذكي؛ لأن مدلول القصيدة ينافي مدلول القصة.. ثم تمادى الخيال بأسطورة البرنية المستظلة بفلسفة الكوز الخيامية.. كل هذا أسلفت الحديث عنه.
وعن تأنق الخيال في قصة ديك الجن قال الأستاذ فؤاد عبدالمطلب: «ولم تبق حكاية ديك الجن على حالها كما جاءت في كتاب الأغاني، بل قام المتأخرون بالتغيير في نسيج الأحداث والشخصيات.. وكلما ابتعد المؤلف في الزمن عن الحادثة أدخل عنصراً جديداً، وهذا الجديد على الأغلب نابع من خيال المؤلف، إذ يبدو أن مأساة الشاعر قد ألهبت مشاعر الأدباء والكتّاب المتأخرين، فجعلتهم ينسجون، ويضيفون»(1).
قال أبو عبدالرحمن: وأسلفت أيضاً أن ديوان ديك الجن في كل طبعاته لم يصدر عن أصل خطي، وإنما هو تجميع من كتب المصادر.. وما ذُكر من مصادر مفقودة لنسخ خطية من ديوان ديك الجن فلم يقم دليل ولو ضعيف على أنه من جمع الشاعر أو من جمع من رواه عنه، بل القصة وشعرها رُوِيا عن ديك الجن بعد موته بمئة عام!!.
والقصة الأسطورة، والشعر المصاحب لها مصدر مؤكَّد لمسرحية شكسبير «عُطيل مغربي البندقية».. إلا أن دارسي الأدب المقارن يذكرون ذلك إشارة وجزماً بلا استدلال كما سلف من إشارة عبدالمطلب صالح، وقال فؤاد عبدالمطلب: «وثمّة أحاديث عن احتمال وجود تأثر وتأثير بين قصة ديك الجن الحمصي ومسرحية شكسبير «عطيل مغربي البندقية»، وكون القصة مصدراً أساسياً للمسرحية.. وعلى أية حال فإن العلاقة بينهما غدت موضوعاً يُطرق على نحو شبه دائم في حلقات البحث أو المشروعات الدراسية التي يقوم بها طلبة مقررات الأدب المقارن في الأقسام الجامعية التي تُعنى بالأدب واللغة.. بيد أنه لم ينشر سوى القليل (2) من هذه الحلقات والمشروعات، ولعل ذلك عائد إلى الصعوبات التي يفرضها تناول مثل هذا الموضوع، ثم إن دراسة هذه العلاقة تطرح مشكلات منهجية أولية تتعلق بالبحث الأدبي المقارن، وبذلك تبدو المصطلحات الأكثر تناولاً في قضية التداين الأدبي هي الترجمة والمحاكاة والأسلبة والاقتراضات والمصادر والنظائر والتأثير.. وفي مسرحية عطيل ليس هناك ما يدل على محاكاة أو أسلبة أو اقتراض واضح من قصة ديك الجن، لهذا فإن دراسة العلاقة بين القصة والمسرحية إنما تقوم على استقصاء لمصدر الثانية، وبيان مدى تأثرها بالأولى عن طريق الترجمة، والانتقال في الأغلب الأعم.. وفي حدود اطلاعي فإن دراستين فقط عالجتا هذا الموضوع: الأولى محاضرة أُلقيت في مؤتمر للأدب المقارن، والثانية صدرت في صحيفة أدبية.. والدراسة الثانية تستند إلى الأولى بصورة كلية، ولا تضيف شيئاً سوى تأكيد أن ديك الجن كان سلمونياً، وليس حمصياً دون تقديم دلائل وبينات واضحة»(3).
قال أبو عبدالرحمن: خَيرُ من فصّل اللقاء بين شكسبير والأسطورة العربية الدكتور نسيب نشاوي، وتابعه متابعة سطو وسرقة عارف تامر.. قال الأستاذ فؤاد عبدالمطلب لما أحال إلى محاضرة عطيل شكسبير وديك الجن الحمصي لنسيب نشاوي بجامعة عنابة بالجزائر ضمن المؤتمر العالمي للأدب المقارن بجامعة عنابة خلال 14 19 مايو عام 1983م المطبوعة محاضراته بعنوان أعمال الملتقى الدولي حول الأدب المقارن عند العرب الصادر عن وزارة التعليم العالي : «ولابد أن نذكر أن لهذا الباحث فضل ريادة هذا الموضوع على الرغم من الملاحظات الكثيرة التي يمكن أن توجه إلى بحثه»(4).. ولما ذكر بحث الدكتور عارف تامر المنشور في صحيفة الأسبوع الأدبي(5) بعنوان «ديك الجن وشكسبير»، قال: «ولا يعيد تامر كتابة كلمات النشاوي وأفكاره كاملة وبالحرف فحسب، بل يردد الأخطاء التي وقع فيها.. يقول النشاوي مثلاً: «تقع مسرحة عطيل في أربعة فصول وتدور أحداثها..».. وترد هذه العبارة حرفياً في مقال تامر دون تدقيق ص 4.. علماً أن مسرحية عطيل تتألف من خمسة فصول في النص الشكسبيري، وفي مختلف الترجمات العربية»(6).
قال أبو عبدالرحمن: كنت نشرت بهذه الجريدة مباحث عن شكسبير وهاملت، وظلّت مسرحية عطيل ضمن مسرحيات أخرى قيد مسوداتي.. وبعد مناقشة الملاحظات التي سيبديها الأستاذ فؤاد عبدالمطلب أحب نقل المقارنة المطابقة بفصها ونصها، ليشاركني القارئ التصور، فتكون نظرته إلى حكمي فيما بعد أدقّ وأعدل.. قال الأستاذ فؤاد عبدالمطلب مجملاً المقارنة: «وتقوم دراسة العلاقة بين قصة الشاعر ديك الجن كما وردت في الأدب العربي، ومسرحية عطيل مغربي البندقية كما وردت في الأدب الإنجليزي للشاعر والكاتب المسرحي وليام شكسبير على تناظر أو تشابه في الأفكار والأحداث، والشخصيات التي تكتنفها القصة والمسرحية على الرغم من الفوارق الكبيرة بين حياة ديك الجن وعطيل من حيث الشخصية والمكان والزمان؛ فقد كان ديك الجن كما ورد في كتاب الأغاني شاعراً من ساكني حمص، ولم يبرح نواحي الشام، ولا وفد إلى العراق، ولا إلى غيره: منتجعاً بشعره، ولا متصدياً لأحد.. أما عطيل فهو قائد عسكري من أهالي البندقية في إيطاليا.. جاب أرضها ومياهها متصدياً لأعدائها، وزائراً أصقاعاً عدة(7) من الأرض.. كما يفصل بين حياة الشخصين زمن طويل، فقد عاش ديك الجن قبل مؤلف مسرحية عطيل بنحو ثماني مئة سنة، وتُوفي الأول عام 850م، وتُوفي الثاني عام 1616م.. ووردت قصة الديك في الأصل خبراً لقصة، ومن المفترض أنها حقيقية صاغتها مخيلة الأدباء وبلاغتهم فيما بعد.. أما حكاية عطيل فقد جاءت من حيث الأساس عملاً أدبياً بارعاً، وأهم ما يميز حياة ديك الجن وعطيل هو العمق المأساوي لتجربتهما الإنسانية»(8).
قال أبو عبدالرحمن: هذه الفروق لا أثر لها ألبتة، لأنها غير مؤثرة في المقارنة بين نص مأخوذ منه، ونص آخذ.. وإنما تكون هذه الفروق مؤثرة لو أن القصة منسوبة إلى شكسبير على أنه العاشق القاتل الشاعر، وتكون منسوبة إليه بنفس التفاصيل المطابقة لما نسب إلى ديك الجن؛ فيقال حينئذ: محال أن يصح الخبر عن شكسبير بهذه التفاصيل التي لا تنطبق على واقِعِه، وهي مروية عن شاعر عربي قبله بقرون تنطبق على حاله حقيقةً أو ادعاءً حسب قابلية تاريخية.. فإن كانت الفروق غير مؤثرة قيل: هما قصتان متشابهتان وقعتا في زمن سابق ولاحق، ولا عجب في حدوث الوقائع المتشابهة.. إلا أن موضوع المقارنة ليس هو نسبة الحدث والشعر إلى شكسبير على أنه فَعَلَ ذلك وقاله حقيقة أو ادعاء عليه، بل الموضوع أن شكسبير صاغ قصة وشعراً نسبهما تخيلاً لا حقيقة، ولا ادعاءَ حقيقةٍ إلى شخص وهمي، واتخذ لذلك ظروفاً من الأحوال والمكا ن والزمان وفق تقنية الرواية الأدبية «سواء أكانت باسم الرواية، أم القصة، أم المسرحية.» وحينئذ يكون الحدث لا الصياغة بالشرط الروائي الفني من ابتكار خيال شكسبير، أو من مأثور قراءته.. وإذا ثبت الأخير فإن تحقيق تلك الفروق شرط ضروري لتحوير المأثور سواء أكان واقعياً أم أسطورياً ولا أظن أن هذا الشرط يغيب عن لمّاحية الأستاذ فؤاد، وكيف يغيب وقد رأيته يقول: «وفي هذه المسرحية يتخذ الكاتب من محبة امرأة ومقتلها محوراً لبناء خطة درامية مأساوية محكمة الخيوط..إن واقعية الأحداث ومصداقيتها في مسرحية عطيل وصفات الشخصيات فيها، وقدرة شكسبير على استخدام المصدر الأصلي للمادة المعالجة: تُعَدُّ انتصاراً فنياً عظيماً للأديب المسرحي»(9).
قال أبو عبدالرحمن: لن يكون الانتصار الفني العظيم للأديب المسرحي إلا بذلك الشرط الذي يُحوِّر المأثور تحويراً يُبعد التقارب الذاتي شخصيةً ومكاناً وزماناً وأحوالاً، وإلا كان العمل مجرد ترجمة للمأثور.. والفروق هذه تدل على لقاء من وجه آخر، وعلى أن ابتداع الفروق مطلب فني.. خذ نموذج ذلك ظواهر تجعل عناصر المسرحية والأسطورة أشخاصاً ومكاناً وزماناً متشابهةَ العقدةِ والحبكة والأحداث مع الفوارق .. قال فؤاد عبدالمطلب: «وتتشابه شخصية ديك الجن وشخصية عطيل في كونهما عربيين يتصفان بصفات بدوية: الأول شامي، والثاني مغربي .. وكلاهما يفاخر بشرف نسبه، وبصفاته المتميزة.. يقف عطيل في المشهد الثاني من الفصل الأول، ويقول: إنهم يجهلون ما سوف أذيعه ساعة أوقِن أن في التباهي شرفاً لي، وهو أنني أستمد حياتي وكياني من أسرة ملكية السدة، وأن مزاياي بإمكانها أن تخاطِب والرأسُ عالٍ هذه المصاهرةَ السامية التي أدركتها؛ فاعلم يا إياغو: أنني لولا حبي دزديمونه الكريمة لما أقحمت حريتي الطليقة داخل طوق وحدود.. ولو أعطيت ثروات البحر كلها (10).. ويقول ديك الجن مفاخراً:
إني امرؤ بازل في ذروتي شرف
.............................
حرف أمون ورأي غير مشترك
وصارم من سيوف الهند ذو شطب
خوّاض ليل تهاب الجن لُجَّته
وينطوي جيشها عن جيشه اللجب
وليس يعرف لي قدري ولا أدبي
إلا امرؤ كان ذا قدر وذا أدب(11)
ويتركز الفخر والاعتزاز عند عطيل في أعمال الحرب والبطولة والشجاعة بصورة أساسية، ويوازي ذلك عالم الأدب والشعر والعزة الشخصية لدى ديك الجن..لكن عطيلاً هو الشخصية الشكسبيرية الوحيدة التي تقترب من شخصية ديك الجن في رؤيتها الأخلاقية للعالم، وفي درجة حساسيتها وانفعالها وجرأتها وتعقيدها.. إن هذه الصفات تحديداً هي التي أدت إلى ما أدت إليه من مأساة في حياة الرجلين، وهي بحاجة إلى مزيد من الدرس والتعمق.. إن معرفة ديك الجن من(12) أمرأةتخالفه في المعتقد الديني، والتقارب الذي حدث بينهما بسبب الحب والزواج: يقابله معرفة عطيل لامرأة من أسرة نبيلة خالفت أهلها والأعراف، وتزوجت منه.
ويقول والد دزديمونه برابانيتو في المشهد الثاني من الفصل الأول عندما جاء إلى الدوق يشكو عطيلاً: عذراء حيية أبداً، ساكنة الروح، وديعتها، حتى لتحمر خجلاً من عواطفها، وإذا هي رغم(13) الطبيعة والسن، والتصديق.. رغم كل شيء: تقع في غرام من كانت تفزع من النظر إليه!!.. إنه لحكم مبتور شديد النقص في من يُقِرُّ بأن الكمال قد يشط هكذا ضد قواعد الطبيعة كلها، فيضطر المرء إلى البحث عن مكايد جهنمية المكر في تأويل ذلك، ولذا فإنني أؤكد ثانية أنه سيطر عليها بمزيج ما..يتحكم بالدم، والهوى، أو شرابٍ ما مشحون بالتعازيم.
وكما تتشابه شخصيات ديك الجن وعطيل في النظرة الأخلاقية والسلوك والشك والغيرة: تتشابه شخصيتا ورد ودزديمونه في كونهما زوجتين وديعتين عفيفتين مخلصتين وغائبتين(14) عن دائرة الفعل دائماً، وتحاك حولهما قصة خيانة ملفقة، وتفاجأ كلتاهما بصاحبها أو زوجها وهو يهم بقتلها.. كلتاهما بريئتان من الخيانة، لكن يد القتل كانت أسرع من أن تتيح لهما أية فرصة لإثبات براءتهما، ونتيجة لهذه المأساة يجن الرجل الأول حزناً وندماً وأرقاً، وينتحر الثاني كمداً وتكفيراً عن خطيئته»(15).
قال أبو عبدالرحمن: إذن غيَّر شكسبير الفروق الذاتية.. أي غيَّر البطل العربي، والمكان العربي، والزمان العربي.. وأبقى عناصر قوام القصة والقصيدة التي لا يتم حبكها فنياً إلا بها؛ لأن الحبكة الفنية لعمل عربي مأثور، وليس إبداعاً شكسبيرياً بحتاً.. واختيار العمل العربي المأثور لم يأت إلا عن انتقاء وإعجاب وانبهار بالأحداث الفاعلة فيه، فلابد أن تبقى المقومات بظروف زمانية ومكانية وأشخاص وأحوال مشابهة.
الحواشي:
(1) مجلة الفيصل العدد 292 ص 2324 من بحث «ديك الجن الحمصي وعطيل شكسبير/ نظرة مقارنة»، للأستاذ فؤاد عبدالمطلب.
(2) الصواب «قليل»، بالتنكير؛ لأنه لا معهود لأل.
(3) المصدر السابق ص 23.
(4) المصدر السابق ص 30.
(5) العدد 299 ص 4.
(6) مجلة الفيصل، ص 30، وقال ص 23 عن دراسة تامر: «والدراسة الثانية تستند إلى الأولى بصورة كلية، ولا تضيف شيئاً سوى تأكيد: أن ديك الجن سلموني وليس حمصياً.. دون تقديم دلائل وبينات واضحة».. قال أبو عبدالرحمن: ذكرت مصادر ترجمة ديك الجن أن مولد ديك الجن حمص، وأن أسرته من سلمية.
(7) الأفصح هنا «عديدة» أي كثيرةُ عددٍ.. وعدة «بمعنى أعداد كثيرة»، لا تكون إلا مضافة.
(8) المصدر السابق، ص 23.
(9) المصدر السابق، ص 25.
(10) قال أبو عبدالرحمن: أطبع الشعر المترجم على صفة النثر، لأن المراد الدلالة المباشرة لا التقنية الفنية.
(11) قال أبو عبدالرحمن: فخر شكسبير عنصر من مسرحيته، وفخر ديك الجن خارج سياق الأسطورة.
(12) قال أبو عبدالرحمن: الصواب «امرأة»، ورابطة «من» قبلها فضول؛ لأن المعرفة متعدية بدونها.
(13) قال أبو عبدالرحمن: لا يتم السياق بهذا البتر، والصواب : «على الرغم من».
(14) قال أبو عبدالرحمن : لا معنى للعطف بالواو هاهنا.. وإذا أراد البليغ الانتقال من الوصف إلى العطف فذلك لميزة في المعطوف، والأبلغ الاستئناف بضمير الفصل هكذا مثلاً: وهما غائبتان.
(15) المصدر السابق، ص 27 عن مقدمة جبرا إبراهيم للمآسي الكبرى لشكسبير «هاملت، وعطيل، والملك لير، ومكبث».