| مقـالات
تذكر الإسرائيليات عن أن اليهود قد ظلوا في صحراء التيه (سيناء) ما يوازي أربعين عاماً لم يستطيعوا الخروج من الصحراء كعقاب إلهي لهم لتمردهم على أنبيائهم، وقد ظل هذا التيه موجوداً ومكثفاً في أعماق اللاوعي الصهيوني، حيث يشبهون تناثرهم في بقاع الأرض (بالأكسدوس) أو التيه الأول، الذي يبتلى به بنو إسرائيل قبل الوصول إلى أرض الميعاد وبقدر ما تكثف هذا في أعماقهم حتى شارف الأسطورة التي تغلف معتقدهم الصهيوني وتحميه من الهجمات الخارجية وتحميه من الزمن في الوقت نفسه، نجد على الجانب الآخر أن التيه الفلسطيني الذي تجاوز الخمسين عاماً لم يواكب على مستوى العالم العربي عموماً والشعب الفلسطيني حصراً بأعمال فكرية وإبداعية وفنية، توازي قامة هذا التيه وجحيمه وفظائعه وكوابيسه، بل جلال ذلك العذاب كثيراً ما يندس في دهاليز السياسة.. هذا قبل أن يأتي طفل الحجر ويوضئه.
ولكن رواية الروائي اللبناني المتميز (الياس خوري) باب الشمس، هي أروع رواية عربية تناولت التيه الفلسطيني منذ عام (48) إلى طاولات المفاوضات الآن.
وإن كان البعد التوثيقي طاغياً في السياق السردي للرواية لكن هذا لم يمنع من امتلاك هذه الرواية هيكلاً فنياً بديعاً يتراوح ما بين الحاضر والماضي (والفلاش باك) والتداعيات والفجائع والقصص والموت والمجازر، جميعها تروى من قبل طبيب مزيف بين يدي مريض يحتضر في غرفة الانعاش، وهنا يبدو الرمز واضحاً، ففي القضية الفلسطينية هناك شيء يموت ويحتضر.. جميع الأحلام والشعارات والثورات منذ عام (48) تحتضر.. دون أن يحل البديل في المشهد.
والرواية كما أسلفت ان كان يغلب عليها الطابع التوثيقي عبر شهادات جمعت من أفواه المئات من الفلسطينيين سكان لبنان، إلا انها في الوقت نفسه تمتلك بنية فنية جميلة وأخاذة احتشد فيها القصص، والأساطير، والخيال الشعبي، والأشعار والمواويل، التي ترسم صورة نابضة وحية ومتوهجة، (للتيه) الفلسطيني.
والروائي في سياقه السردي لا يلجأ لأسلوب العويل والبكاء والاستبكاء،واستدرار الشفقة، بل هو ينقل الحدث في سياق معين ويترك تفاصيله تقوم بمهمة الفجيعة، كأن يصف لنا الموتى الذين لم يملكوا الوقت والجهد لدفنهم في الهجرة الأولى فقاموا بتغطيتهم بأغصان الزيتون، أو الأم التي كانت تخبئ أطفالها تحت ثيابها أثناء فرارها من مجزرة تل الزعتر، وأصيبت في فخذها وعلى الرغم من هذا رفضت التوقف خوفاً على أولادها، ومقبرة مجزرة (صبرا وشاتيلا) التي تحتوي ألفاً وخمسمائة جسد، وكيف تحولت إلى ملعب كرة قدم للأطفال...، وعشرات الصور والمشاهد التي تكاد أن تذهب وتتحلل أمام تيار الحياة الجارف الذي يأخذ كل شيء إلى تيار النسيان...!!
رواية (باب الشمس) هي الرواية الجمرة ينبغي على من يقبض عليها أن يمتلك طول النفس والجلد وسعة البال، والجرأة التي تجعله يظل مصراً على قلب الصفحة التي تليها ليتعرف على تيه لا يتوقف عن الضياع.ولكن في حنايا هذه العتمة يبقى ضوء في نهاية النفق، النهاية هي عبارة عن فنتازيا تفاؤلية تجعلنا نستعيد أنفاسنا، ونبحث عن بوابة جديدة للشمس.
e-mail:omaimakhamis@yahoo.com
|
|
|
|
|