الأمن في الأوطان نعمة لا يعرفها ويزن قدرها الا من افتقدها، فالأمن مثل الصحة، فالصحة لا يشعر بها السليم ولكن المريض هو الذي يعرف قدرها، ومن يعيش في الأمن لا يشعر به وإنما يراه جيداً من قدم الى هذه البلاد بعد ان سلبت نقوده وهددت حياته. لقد كان الأمن هاجس القبيلة والمدينة والقرية والدولة منذ القديم، فالقبيلة منذ العصر الجاهلي الى زمن قريب تتخذ مكاناً مرتفعاً من جبل او غيره ليراقب منه أحد فرسان القبيلة الآفاق المحيطة بموطن القبيلة، فمنذ طلوع الشمس الى غروبها والفارس فوق ظهر جواده يلحظ الأفق ليخبر القبيلة بالمهاجمين قبل ان يصلوا الى هدفهم، ولا يختار لتلك المهمة الا الفارس الذي تتوافر فيه صفات كثيرة من شجاعة وصبر وحسن تصرف في زمن الأزمات، فبنو عامر في العصر الجاهلي يختارون لبيد بن ربيعة، وهو يفتخر بأداء تلك المهمة الصعبة. نجد ذلك في قوله:
فعلوت مرتقباً على ذي هبوةٍ
حَرَجٍ الى أعلامهنَّ قتامها
حتى اذا ألقت يداً في كافرٍ
وأجنَّ عورات الثغور ظلامها
أسهلتُ وانتصبت كجذع مُنيفةٍ
جرداء يحصر دونها جُرّامها
فالمكان المرتفع ضيق ويحيط به الغبار الذي يحدُّ من انطلاق البصر، ومع ذلك ثبت لبيد على ظهر جواده الى ان ستر الليل قرص الشمس، وعند ذلك اتجه الفارس الى السهل ونزل عن فرسه التي بقيت مرتفعة تشبه النخلة التي يعجز المتمرس في خدمة النخل عن الوصول الى أعلاها لاجتناء ثمرها.
واذا كان حال القبيلة كما ذكرت فان حال المدينة والقرية تشهد له الحصون الشاخصة والأسوار الممتدة والمراقب المبنية فوق الجبال، وبإمكان المار مع الطرق العامة مشاهدة تلك الآثار الدالة على افتقاد الأمن، فإن كنت سالكاً الطريق الدائري الجنوبي في مدينة الرياض فبإمكانك مشاهدة برج شاخص في منفوحة القديمة بلد الأعشى. لقد اصبحت أماكن الحراسة آثاراً تُزار للعبرة والالتفات الى الماضي بعد ان أضفى الأمن وارف ظله على ارجاء مملكتنا الحبيبة في مدنها وقراها وبحرها وصحرائها. إن المهمة التي التفت إليها الملك عبد العزيز بعد فتح الرياض هي مهمة الأمن والذي يقرأ تاريخ الثلاثين سنة التي تلت فتح الرياض بتمعن ودراية يدرك الجهود الجبارة التي بذلت لتأمين الناس في حياتهم العامة، إن حياة البادية ومعيشتها تعتمد على أمور منها الغزو والسلب، فكيف تعدل البادية عن عادات درجت عليها منذ عصور قديمة؟ ومع ذلك استطاع الملك عبد العزيز ان يوجه معيشة البادية الى امور بديلة، استمرؤوها فيما بعد ونسوا عادات السلب والنهب، لقد استوطن الأمن هذه البلاد وألفها منذ زمن المؤسس الى عهد خادم الحرمين الزاهر بتعليمه وتجارته وزراعته وصناعته وطرقه. لقد ازدهرت التجارة في مدننا بشكل لم يسبق له مثيل، ففي كل شارع أقيمت الأسواق الحديثة، فلم تعد المنطقة المركزية في وسط المدينة هي المقصودة وحدها كما كان في السابق، بل أصبح في كل حي منطقة مركزية، ومعلوم ان ازدهار التجارة هو عنوان الأمن، فرأس المال جبان لا يزدهر الا مع الأمن.
لقد ساد الأمن الطريق، اما الحوادث المؤسفة فجلُّها يرجع الى سائس المطية، وعَمَّ الصحراء، فالبدوي آمن والمزارع آمن، ومما يدل على ثبات الأمن في المملكة أن الأمن لم يتأثر تأثراً كبيراً من جراء الانفتاح على العالم بعد تطور الاتصال ووجود القنوات الفضائية ومشاهدة ما يجري في العالم، وحوادث التفجير التي أعلن صاحب السمو الملكي الأمير نايف عن ضبط القائمين بها لا تمثل نسبة عالية في الخلل الأمني، بل هي نسبة ضئيلة تمثل مشاجرات بين الأشرار، وسرقة السيارات يتسبب في معظمها أصحابها، فعندما تمر ببقالة أو صيدلية أو مخبز تشاهد سيارة تشتغل وصاحبها داخل البقالة أو الصيدلية، فهذا منظر مألوف، وفيه اغراء بالسرقة من قِبل بعض العابثين، فالاهمال عامل مهم في الدفع الى السرقة، فالتفريط في المال يدفع الأشرار الى استلابه، اما القواعد التي بُني عليها الأمن في المملكة فهي ثابتة وقوية ومستديمة.