أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Tuesday 4th September,2001 العدد:10568الطبعةالاولـي الثلاثاء 16 ,جمادى الآخرة 1422

الاخيــرة

إكرامٌ بالإكراه..!
عبد الله بن إدريس
كانت البادية - فيما قبل ستين عاماً - تمثل نصف سكان المملكة العربية السعودية ولكنهم وبفعل المد الحضاري التدرجي تقلص عددهم شيئاً فشيئاً حتى لم تعد في العقود الأخيرة بادية تذكر.
وتقلص البادية وانتهاء وجودها يرجع الى عاملين أساسيين:
الأول: تحضيرهم عن طريق اسكانهم في الهجر والقرى.
الثاني: انتشار التعليم في كل مكان من المملكة مع الاغراءات المادية كمكافآت الطلاب.. والوظائف التي يلتحق بها الدارسون بعد تخرجهم إلخ..
مما جعل المجتمع العربي السعودي في الوقت الحاضر كله مجتمعاً حضرياً.. وحضارياً كذلك إلى حد كبير.. والحمد لله.
كانت البادية قبل عقود كثيرة.. إذا انتهى الربيع ودخل فصل الصيف تهرب من البراري والفلوات الى القرى لتحط فيها رحالها حيث آبار المياه المعدَّة للنخيل والزروع متوافرة لسقي إبلها وأغنامها.. والتمتع بمشاركة الحضر في اكل الرطب الجَنِيّ والتزود من تمر «الخُضْري» لشتائها.. وهم يغبطوننا نحن الحضر، على التمر، ونحن نغبطهم على الحليب والسمن والاقط وهم يعرفون وقت الرطب بمواقع النجوم.. ولذلك يُحكى أن عجوزاً بدوية كانت مستلقية على ظهرها وتغني وهي تزحف نحو البئر:


إلى جَا المَجَرّ على المَسَرّْ
تلقى الحضيري قد نَشَر

وهي تعني ب«المجر» نجم المرزم، و«المسر» سُرّة البطن.. بمعنى أنه اذا صار نجم المرزم على سُرّه المستلقي تحت النجوم فإن «الحضيري» يصغرونه تحقيراً له، لأنه قابع في قريته بسوق البقر في «المنحاة» لسقي نخله وزرعه.. وليس كالبدوي - زمن الجهل - يسلب وينهب ويقتل الذي يمنعه من سلب «حلاله» - «قد نشر» أي نشر ثمره في الشمس كالعادة! ويقال في تمام الحكاية إن العجوز كانت تزحف وتغني حتى سقطت في البئر.. لعلَّ هذا جزاء حسدها..!؟
إذن فالبادية قبل انقراضها - كانت تُصَيِّف بجانب الحَضَر في مدنهم وقراهم.. وحال ما ترى أول بارق يلوح في الافق تشد رحالها الى مواقع المطر تستعجل الربيع لأنعامها.
كان لنا نخل، بئره مفتوحة على ارض فضاء، أي ليس داخل جدران .. بل هو امتداد للحِيَالة التي لا نخل فيها ولا زرع في الصيف - ويفضل البدو النزول عندنا في هذه الحيالة، بعد الاستئذان من الوالد أو من أخي الأكبر - رحمهما الله - فيسقون إبلهم وأغنامهم بالدِّلاء وأحواض الجلد قبل «السَّرْح» صباحا وعند «الهَضْلة» مساءً.
ومعروف عند البدو أن إكرام الضيف واجب .. اكبر عند بعضهم من وجوب الصلاة.. ولا يَدَعون أحداً يحط راحلته عند بيت أحدهم الا ويلزمهم إكرامه سواء كان معروفاً لديهم أو غير معروف.. ويعتبر التقصير في حق الضيف عارٌ يُعَيَّرُ به الرجل وأسرته.
ذات يوم جاء رجل وأناخ ذلوله عند أطرف بيت من ثلاثة بيوت متجاورة.. ربما كان يريد قهوة فقط أو غضارة لبن ثم يرحل.. بدليل أنه لم يحط الرّحْل عن ظهر ذلوله.
بعد أن شرب القهوة ومكث ما شاء الله أن يمكث في بيت مضيفه.. قام وأطلق عقال راحلته وركبها ومشى وإذا بصاحب البيت يمسك بخطام الناقة ويقول له: «وين أنت رايح» قال المسافر أنا متواعد مع عرب في شقرا، ولازم أصلهم قبل الليل، قال صاحب البيت «يا ويلي أبْكْ تروح قبل ما تاكل ضيفتك»؟
قال يابن الحلال ما قصرت معي وأنا نزلت عندك أبي القهوة وتقهويت وعينت خير، الله يكثر خيرك، والآن أرخص لي علشاني على موعد في شقرا قبل الليل.
قال صاحب البيت : أنت يا رجل ذبيحتك تطبخ.. ولا والله تخطي خطوة وحدة قبل ما تاكلها.. وارتفعت أصواتهم: الضيف يترجى مضيفه أن يعذره ويخلي سبيله والمُضيف يحلف عليه ما يخطو خطوة حتى يأكل ضيفته.. وأخذ صاحب البيت عمود بيته قائلا: «شف أنت يا ملعون الوالدين يا ما إنك تنزل حتى ينضج غداك وتغدى، ثم تفارق وإلا والله إني لأكسر راسك بها العمود.
نزل الضيف من راحلته مرغماً وجلس في البيت حتى جهزت الذبيحة فأكل منها ما تيسر لفك المشكلة. لقمة أو لقمتين ثم قام معلناً غضبه على هذا الاكرام البشع الذي عرقل سفره عدة ساعات قائلاً لمضيفه:
«الله لا ينعم عليك ولا يغنيك ولا يكثر خيرك» فردَّ عليه مضيفه قائلاً: «تقلَّع الله يفعل بك ويفعل بوالديك، والله لا يحفظك ولا يُسَمِّت عليك»! وودع ضيفه بألفاظ بشعة.
تلكم بعض العادات القديمة والأعراف السقيمة عند البادية.
وعادة الالزام بتكريم الضيف حتى وإن كان هذا التكريم إهانة له موجودة ولكن بقلة عند المتأثرين ببعض العادات البدوية.. فستجد بعضهم يحلف بل «ويطلق» أن يعزمك على وجبة غداء او عشاء بالقوة والاكراه، غير مقدرين لأحوال المدعو وظروفه ورغبته أو عدمها.
لقد كنت أرصد هذه الضيافة البدوية القاسية من داخل نخلنا، متوجساً شراً منها على هذا القطين القاطن بجوارنا ولكن الله سلم أنها لم تصل إلى حد العِراك بعمود الخيمة ومشعاب المسافر.

أعلـىالصفحةرجوع




















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved