| مقـالات
التحول من التمحور حول الفرد ومركزية الذات السلطوية إلى التفويض المؤسساتي، ومن تنازع المسؤولية والتشتت في أدائها إلى واحدية الفريق والتداول الواثق للقضايا تحت سقف واحد، تتوفر فيه كل الإمكانيات المناسبة، والشروع في تعدد المطابخ المتخصصة الواعية الفاعلة المفعَّلة كما العصي المجتمعة المتأبية على الانكسار، كل ذلك أو بعضه مؤشر حضاري،وباعث على الثقة والاطمئنان والأمان.
كما أن تفادي الفورية والاهتياج الأعزل في مواجهة النوازل والمستجدات طريق قاصد باتجاه النجاح وترشيد للجهد وللوقت وللمال. ومواجهة النوازل والمستجدات والمتغيرات بتؤدة وحلم وأناة وبعد نظر خير من الطفرات المرتجلة التي لا تخلّف إلا الارتباك والحور بعد الكور، وخير من الاستعراضات الشكلية والتلهية الإعلامية.
وفي الحديث إشارة لما يحب الله من الخصال، وهما :(الحلم)، و (الأناة).
وعن هذا يقول شوقي واصفا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في مداواة الفقر:
داويت متئدا وداووا طفرة
وأخف من بعض الدواء الداءُ |
وكم من علاج جلب سقماً، وكم من طبيب ضاعف علة. و(الفردية) و(الفورية)، و (الارتجالية) في اتخاذ القرارات المصيرية جرت على الشعوب المغلوبة على أمرها الويل والثبور، وفوتت فرصاً ثمينة، وأضاعت إمكانيات بشرية واقتصادية، وبطأت في إقالة العثرة، هذا الثالوث البغيض ساد هذا العالم النامي، فحوله إلى نائم مضطرب النوم، والفردية بكل مفهوماتها المتعددة ظاهرة تاريخية ديناصورية، لم تعد صالحة على أي مستوى، لأنها لون من ألوان الاستبداد والتحكم، ولا سيما في عصر قروية الكون، والشبكة العنكبوتية، وانسيابية المعلومات، وشفافية الأشياء، وحرية التساؤل والمراجعة، وكوى الفضائيات،وتبئير القضايا إلى حد الفقاعة، وشيوع العلم والمعرفة.
وزماننا كثوب الزور، لا يخفى فيه إلا ما لم يكن، والمؤلم أن شعوبا كثيرة تعيش تحت وطأة حكم الفرد، والتمحور حول الرمز، الأمر الذي يعرضها للارتكاسات الموجعة وتجرع ويلات الفورية والمزاجية والمغامرة.
والشعوب الآمنة المطمئنة من تدار شؤونها عبر المؤسسات والمجالس وشعب الخبراء والمستشارين، ولا تخرج قراراتها إلا بعد مداولات وتمحيصات ومساءلات واستعراض لكل الخيارات والحيثيات وترتيب للأولويات، بحيث لا تجد غضاضة من إرجاء ما لم ينضج والأخذ بما هو مفيد، حتى وإن تململ الرأي العام، وضاق ذرعا بالتأخير، وفي المثل العام: «كل تأخيرة فيها خيرة».
ثم إن ظاهرة القبول بالتحولات على كل المستويات وعدم التهيب أو التردد في مواجهة المتغيرات والقدرة على تفعيلها، والتفاعل معها دون انفعال أو خوف مؤشر أهلية واقتدار ومحمدة على إطلاقها قبل النظر في المشروعية أو العائد.
والدول التي تبحث عن الأفضل تسعى جهدها لتهيئة الظروف والمناخات المناسبة لقبول الإجراء والتفاعل معه، إذ قد تبادر الدولة في إجراء سابق لأوانه غير مقدور على احتماله والتعامل من خلاله، ثم تمنى بالفشل الذريع الذي يخلف عندها حساسية من المبادرات، ويشكل موقفا شكوكيا عند المواطن، ويحول الرأي العام من متطلع متفائل إلى متردد متشائم، وحين يتعالق التحول مع المشروعية والإيجابية ويأتي عبر الحلم والأناة والتبصر تكون الأمة على الطريق السوي القاصد، وذلك بعض ما تمر به بلادنا في الغالب من أمرها، والتغليب مقتضى شرعي، إذ المحض الخالص لا سبيل إليه، وهو من الدعاوى الكاذبة.
والمستفيض أن مبادراتها غير مرتجلة وغير تجريبية، ولست معنيا هنا بالتزكية، ولا مدلا على أحد بالتميز، ولا واقعا في مأزق المفاضلة، ورهان المثاليات، فالخيرية ليست وقفا على زمان أو مكان أو فئة من الناس، بحيث لا تكون المثالية والأفضلية إلا حيث نكون بأي مواصفة.
والراشدون من الناس أفرادا وجماعات، مؤسسات وحكومات، من يحاولون تفادي ما يقع فيه الآخرون من أخطاء يمكن تلافيها، وكل المهم أن تكون الدولة من الثقة بالذات بحيث تمارس ترتيب أوراقها على كل المستويات، ثم لاترى نفسها فوق النقد والمساءلة والمراجعة، ولا تدعي نهاية التاريخ بفعلها وإنسانها، ولا يبلغ بها الإعجاب حد الدخول في الأبراج الملائكية والمثاليات المتعالية على السؤال عما تفعل والأخذ بهاجس تصدير المشروع، والدخول في خصوصيات الآخر.. وما قتل الطموح إلا الإعجاب بالرأي والحساسية المفرطة من مراجعة المنجز وتقويمه، والخوف من النقد الذاتي واستنكاف رؤية الذات في مرايا الآخرين.
وقدر المملكة أن تاريخها القصير قارب بين مراحلها التحولية وقصر المسافة بين معركة التكوين ومعركة البناء، ومن ثم فهي تمر بمرحلة توصف بمرحلة المبادرات وتلاحق المتغيرات، حتى لكأنها دون استقرار أو تريث، فالتحولات عندها تكاد تكون مستمرة وشاملة لكل القطاعات: إحداث لمؤسسات، وتطوير لأخرى، وإصدار لأنظمة ومراجعة لما سبق، وهي مبادرات طالت كل المرافق ومختلف المستويات، وأخافت البعض من عدم القدرة على المسايرة والمعايشة مع ما هنالك من اختلاف في وجهات النظر حول بدء التغيير وشكله ووجهته، وهذا يضاعف التوجس والخيفة.
ومع ذلك فإنه لم يعد هناك أي تحفظ أو احتياط أو استثناء لمجال التغيير، ومما يجب وضعه في الاعتبار أننا في سياقات عربية وعالمية ليست على ما يرام، ولن نقي أنفسنا من دخنها، وانعكاس أثرها. والنظر إليها في اتخاذ أي قرار من الحواتم، فالعالم اليوم مضطرب متوتر، يتعرض لانتكاسات على كل الصعد، ويكاد تداخله يصل إلى حد الخلطة، ونحن جزء من هذا العالم المليء بالمشاكل، الأمر الذي يحتم علينا تكثيف الجهد وحدة التيقظ، ولسنا بحاجة إلى التدليل، فالواقع العالمي المعاش عن يمين وشمال خير شاهد على التحدي العصيب، وتوتره يدفعه إلى مغامرات غير محسوبة تمس المقيم والضاعن.
وكم قلت من قبل، وليس هناك ما يمنع من ترديد القول من بعد: إن الرهان حول المبادرات يجب أن لا يتجاوز الإخلاص وحسن النوايا وسلامة المقاصد، بحيث لا تكون تزكية مطلقة ولا ضمان عازم للنجاح والتوفيق، فمثل ذلك يؤدي إلى الاعجاب بالنفس وبالرأي، والاعجاب يؤدي إلى الغفلة عن الرصد والمتابعة والتقويم، والمؤكد أنه ما من مشروع بشري إلا وهناك ما هو أفضل منه، وما من فعل راجعه صاحبه إلا وتمنى أن يكون قد تريث فيه، أو أعاد حساباته، وكل شيء من عند غير الله سيكون حوله اختلاف كثير، وها نحن نسمع بين الحين والآخر ما يتخذه مجلس الوزراء من قرارات تلغي مادة من نظام أو تعدل أخرى أو تضيف مادة أو تستبدل مادة مكان أخرى.
وحين يمتلئ المسؤول بالهم والإخلاص وتوخي الحق يكون أقرب إلى النجاح وتحقيق المراد، وحين لا يكون نجاح لا يكون لوم ولا تخوين، ذلك أن الخطأ قرين الفعل وطبيعة في الإنسان، والتحرج منه أو نفيه نفي للفعل وللإنسان معا.
وكل الذي على المسؤول بذل الجهد، وتوفير الكفاءة البشرية والكفاية التمويلية وتهيئة الأجواء الملائمة، وليس عليه ضمان النجاح، إذ الفعل كالمضاربة التجارية ضمان الربح فيها من الربا المحرم، والله أحل البيع وحرم الربا، وكل الذي على المسؤول فعل الأسباب وما التوفيق إلا بالله، ولكن يجب أن يمتلك المتصرف أهلية التصرف، وآلية الاجتهاد، والثقة عند مواجهة الحقائق، وتحمل النتائج، والقدرة على التحرف للأفضل عند الإخفاق.
ودولة المبادرات يطال التغيير فيها كل المؤسسات الدستورية والتشريعية والقضائية والتنفيذية، وذلك بعض ما نعايشه ونباركه.
ولسنا بصدد استعراض الأنظمة والتعليمات والمؤسسات التي امتدت إليها يد التحديث والإصلاح، ومع كل هذه المبادرات المتلاحقة أحسبنا لم ننته بعد، وليس قريبا أن ننتهي، ولا سيما أن هناك أنظمة وهياكل إدارية استهلكت عمرها الافتراضي، ولم تعد صالحة للتعديل فضلا عن الاستمرار، والتجديد كالأمل لا ينتهي إلا بنهاية الذات.
وما سألمح إليه ربما يكون خافيا على الأكثرين، وهو سياسة النفس الطويل في اتخاذ القرارات المصيرية، سعيا وراء إنضاجها بسرية تامة، وتأمل عميق، وتقليب للقضايا على كل الوجوه واستعراض لكل الاحتمالات، وتلك خصال تبعث على الراحة والثقة والاطمئنان، وإن كانت بحاجة إلى الصبر وطول الانتظار، فالمطالبة بإنشاء (وزارة للمياه) و (وزارة للثقافة) و (مجلس أعلى للثقافة والآداب) و (مجمع اللغة العربية) والإلحاح بالمطالبة بإنشاء (جامعات) تستوعب فيوض المتخرجين الذين لا يجدون مقاعد لهم، وإحداث (مرافق ومؤسسات) تستوعب الخريجين، والحديث عن (السعودة) وتشجيع القطاع الخاص، وتهيئة الأجواء لتفعيله، وحماية المنتج، ودعم الصناعة والزراعة، والحيلولة دون هجرة الأموال والخبرات، والسعي الحثيث لجذب المستثمرين و (السياحة) و (الخصخصة)، والتهيؤ لمواجهة العولمة، وأشياء كثيرة تطرح منذ زمن طويل وعبر مختلف الوسائل.
وتأتي الكلمات المناشدة والملحة بالمناشدة كلاما يدور في المجالس، ومواجهة عبر الباب المفتوح، ورقاعا تتقاطر من كل جانب، ومقالات تجري بها أنهر الصحف، تأتي تصريحا أو تلميحا والطلبات شكاية أو لوما،والنقد صادقا أو متحاملا، والدولة تسمع وترى، ولا تزيد على الرصد الدقيق والمتابعة الواعية وكظم الأنفاس والغيظ، حتى إذا استوت الأمور على سوقها، واتضحت المعالم، جاءت الاستجابة على قدر محققة كل التطلعات، ومثل هذا التصرف الحكيم يقي الأمة مصارع الارتجال ويحميها من التصرفات العاطفية التي عانت منها أمم كثيرة، ومع كل هذا فإننا لم نسلم في زمن الطفرة من مغامرات ومبادرات سريعة فورية من الدولة ومن المؤسسات ومن الأفراد، وهي مغامرات جرت أقدامنا مع المد، ولم نتمكن من مسايرة الجزر في تراجعه.
وقد أهدرت فيها أموال وضيعت فيها جهود وتنامت على جوانبها سلبيات كثيرة، ومازالت ذيولها قائمة وآثارها واضحة، وإعلان (وزارة المياه) لم يكن مفاجأة كما أن العناية بالمياه لم تكن معلقة بانتظار ما يأتي، ولما تكن الدولة متوانية في شأن المياه: تنمية وتحلية وتنقية، وتصريفا، ولكن جهودها مفرقة بين إدارات ومؤسسات ووزارات، وأداؤها متعثر، بسبب تنازع المسؤولية وتشتت الأداء، ولربما يكون من حوافز الإنشاء لوزارة متخصصة ما يعانيه العالم من توتر حول المؤشرات المخيفة وبوادر (حرب المياه) مع ما هنالك من ضعف في الوعي الجماهيري بأهمية الماء وخطورة التلاعب فيه، بسبب مجانيته وفوضوية الحصول عليه، وحين يكون (الزمن) و (الماء) من أهم المثمنات فإنهما الأهون في حساب القيم.
فالناس يفرطون في وقتهم وهو محدود لا يعوض، ويسرفون في استعمال الماء ويبذرونه ولا يعرفون قدره ومقداره والجهد والمال المبذولين في سبيل الوصول إليه، والعشوائية الزراعية التي اجتاحت البلاد زمن الطفرة، ومشروع القمح وصوامع الغلال وهاجس التصدير والدخول في لعبة السلع الاستراتيجية والتنافس غير المتكافئ، حفز الدولة على إعادة النظر، لتجنب المغامرات، وتحامي إهدار الثروة المائية ومحاولة حصر المسؤولية وتركيزها، وتجاوز النمطية والتراثية في الأداء إلى المعاصرة بكل مؤهلاتها العلمية والرصدية والمركزية، وبدء رحلة العودة إلى الأجدى والأهدى، فما عاد الوضع يحتمل التشتت والأساليب التقليدية، وبخاصة حين اضطربت الآراء حول المياه ومصادرها وحجم التعويض والفجوة بين الاستغلال والتعويض.
والدولة في نظر العالم وفي نظر نفسها وفي الواقع دولة صحراوية ومياهها جوفية مجهولة وأمطارها موسمية غير منتظمة، وحاجتها إلى الماء تزداد يوما بعد يوم، والعالم من حولها يصطرع من أجل الكفاف، لكل هذا يأتي الأمر بإنشاء (وزارة المياه) في الوقت المناسب، لكي تتلقف الراية وتواصل المسيرة.
وكل الذي يتطلع إليه المواطن ألا تكون الوزارة مجرد سلخ وظائف وموظفين ومؤسسات وتجميعها تحت مسمى واحد، تتضاعف فيه المسؤوليات، وتزيد فيه النفقات،وتتعقد فيه التعليمات، ويطول فيه سلم الصلاحيات، ثم تكون عبئا ثقيلا يبطىء الحركة ولا يحسن النوع إن الأمل أن تكون وزارة خبراء ومعامل ومختبرات ورصد دقيق للتحولات، وتواصل علمي مع منجزات العالم واستفادة من خبراته ونتائج بحوثه وتحرياته ووضع خيارات وتنويع مصادر.
فالمياه العذبة لا تزيد على ثلاثة بالمائة من حجم المياه في الأرض، ومساحة الوطن العربي هي الأخرى ثلاثة بالمائة من مساحة الأرض، ونصيبه من الأمطار والأنهار ليست متناسبة مع حجم السكان والأرض، والأمة تواجه نموا سكانيا وثبوتا في العائد المائي.
ومع أن المتوقع كون الهدف من مشروع الوزارة هو التخلص من تعدد المرجعية المائية، وتحديث الأنظمة، ومركزية المعلومات، والتوفر على الخبرات إلا أن الوعي الجماهيري بكل ما هو عليه من تدني وجهل بخطورة الوضع قد لا يساعد على تحقيق المراد، كما أن الأنماط الإدارية المتدنية إلى حد التهالك بحاجة إلى فترة انتقالية قد تطول، الوزارة الجديدة ستكون ملومة حين تخنع للوعي المنقوص والنمط الرتيب، وليس من الحصافة أن ننظر إلى العالم من حولنا يوجه أفكاره صوب المشكلة مستخدما أدق الوسائل وأصوب الخطط وأنجع الطرق، ثم لا نكون أمثالهم في المبادرة الحصيفة، وبخاصة في قضية حساسة تتعلق بالماء الذي جعل الله منه كل شيء حي، إن أمام الوزارة عوائق بشرية ومادية وذهنية تحتاج معها إلى تصرف قوي وأداء استثنائي، فالوضع القائم لا يلائم المتداول عالميا وبخاصة في ظل العولمة وما تنطوي عليه من سلبيات وإيجابيات، والرأي العام والرؤى المتخصصة مختلفة فيما بينها إلى حد التناقض والتناحر، ولا شك أن الوزارة الجديدة بحاجة إلى تصحيح المفاهيم والتوفيق بين وجهات النظر لكي توفر لنفسها الأجواء الملائمة، وهذا يتطلب قطاعا إعلاميا يمارس غسيل الأدمغة وتخليصها مما عشعش فيها فثقة المواطن بالمؤسسة أولى خطوات النجاح.
|
|
|
|
|