| عزيزتـي الجزيرة
مفارقات النور والظلام، انكسارات الضوء.. والمسافة الفاصلة بين الحزن والسعادة، كل كل ملوحة الألم وآهات المعاناة، كل كل لحظات الوداع التي تخيلت أنها الأقسى.. كل ذلك ذاب في نار بعدك.. في أعماق كل حرف نُقل به لنا خبر وفاتك (أمي)!!
لقد مّر شهر ثم شهران وامتدت الأشهر لتكون أكثر من ثمانية منذ أن ودعتنا لتقلك الطائرة إلى أمريكا، وكان وداعك الأخير لنا وللرياض.. وأخيراً كان وداعك هناك للدنيا بأسرها!!
لقد بقينا ننتظر إعلان فرحنا الغائب منذ اللحظة التي مرضت فيها هنا.. كنا ننتظر إعلانه بقوة ونحن نستقبلك عائدة تسبقك خطوات العافية لتطلي من بوابة القدوم في المطار، البوابة التي طالما وقفت أمامها أكثر من مرة وأنا أحلم بطيفك يعانق ناظري، واتخيل الفرح الذي سترتديه الدنيا، والمسافات التي سنزرعها ركضاً لنغرس رؤوسنا في صدرك لنتنفس ونحيا من جديد!!
لقد بقينا ننتظر.. وننتظر.. ندعو ثم ندعو وندعو.. وجاء الشهر الثامن يا أمي لنتلقى خبر إجرائك للعملية.. تلقيته أمي ببكاء حار.. كنت اعتقد أنه إعلان أولي للفرحة.. ولكن!! لكن الأخبار التي أصبحت تتوالى بعد ذلك صارت تأكل جزءاً من فرحنا.. وشاء الله أن تسوء حالتك بعد أن كانت الأيام الأولى ترسم أمامنا ألف أمل وأمل، وتعدنا بأن ثمة شمس ستمد نورها ليحضننا!!
وأخيراً.. وفي يوم نذرف فيه دمعاً حارقاً لكل تلك الآلام التي يتعرض لها جسدك وروحك يأتينا خبر وفاتك!!
(لقد ماتت أمي)!! ماتت.. وما زالت أصداء جملتها الأخيرة وأن أغرس رأسي في حضنها قبل وداعها وهي تقول.. «سنعود.. سنعود متعافين بإذن الله»!!
لم تعودي..! لم تعودي يا أمي! لم أحضنك من جديد.. لا شيء سوى قبلة أخيرة على جبينك والكفن يلف جسدك!!
رحلت يا أمي لتتساقط كل أضواء الدنيا مع أصداء هذا الخبر.. كل العالم أصبح مجرد نقطة صغيرة تعجز عن حمل لحظاتنا وأيامنا!!
حبيبتي يا أمي.. أشعر بصقيع الشتاء بحرارة النار، وبشوق طفل صغير يدرك أنه لا يستطيع مواجهة عالم كبير بدون قلب أمه الأكبر!
افتقد قلبك العظيم.. دفء شمسك.. عالم النور الذي تنطلق حدوده من روحك!!
ثمة مساحة واسعة في قلبي ما زال الحزن ينهشها، ومسافات ترفض أن تفتح صدرها للنور، نعم.. فلا أحد يصنع الفرح الصادق سواك!!
رحلتِ.. رحلت.. ولكني وحتي هذه اللحظة لا استطيع استيعاب هذه الحقيقة!!
فلا أكثر من مرة أمسك بصورتك اتفحصها.. أشعر أنك تتحدثين بلا صوت!!
تبتسمين بلا حركة!!
رحلت.. لكن المأساة التي بدأت منذ سماعنا للخبر تزيد يوماً بعد يوم!! تكبر يوماً بعد يوم.. وليس بأيدينا إلا دعوة بالرحمة يا أمي!!
حبيبتي يا أمي..
كأن كل هذا العالم بكل تفاصيله الجميلة التي يمكن أن تضيء شيئاً من جوانبه.. كأن كل هذا العالم بدفء شمسه.. ونور قمره.. وعطاء أمطاره!! رحل معكِ.. ليحل عالم آخر مكانه.. عالم يعلن أمامنا وفي كل لحظة هذه الحقيقة (ماتت أمي)!!
آه يا أمي.. كم كان قربك يسرق الفرح رغماً عن هذه الدنيا ليهديه لنا!!
آه يا من كان قلبك يخفق ليهدي لنا الحياة!!
«الضياع» يا أمي شعور عجيب ما عاد يفارقني، الخوف إحساس يهاجمني كلما تذكرت أني حرمت قوة وعظمة روحك!!
كما كنا محظوظين بأمومتك.. كانت نعمة إلهية أنعم الله بها علينا!
كنت أعظم وأعظم من الأمومة نفسها!!
كنت أماً تتقن كيف تعلمنا الحب.. حب الجميع، حتى للذين ما زالت جراحنا تنزف بسببهم!! أماً تعلم العطاء والرغبة الصادقة في زرع الخير على كل الدروب!!
أماً تعلمنا أن نكون في المقدمة دائماً.. نعم ما زلت أذكر كل لحظة أبشرك فيها بتقدم دراسي أحرزته، كل لحظة أخبرك فيها بحفل ألقيت إحدى كلماته.. أو أقرأ عليك قطعة نثرية نشرت في صحيفة ما!!
آه يا أمي لو علمت أي إحساس بالفخر يزرع بداخلي عندما أرى ملامحك تتشكل راسمة أجمل أجمل مشاعر الفرح.. كنت أشعر حينها فقط بأنني صنعت شيئاً عظيماً حالما تترجم ملامحك أصغر إنجازاتي!!
لقد كنت حضناً آمنا لنا ولكل من حولنا، وكم كان لقلبك قدرة عجيبة على احتضان الجميع بأحزانهم ومنحهم الأمان الذي ينبض بهدوء في حياتهم!!
كنت تتقنين تسيير المراكب لتواجه أعتى الرياح وأشدها، وقيادتها نحو شواطىء الاستقرار!!
أمي يا أمي..
ننادي ونصيح ليتنا ملكنا إهداءك شيئاً من أعمارنا لفعلنا.. ننادي ولا يأتينا سوى صدى مبحوح يقطر ألماً!!
ليسكن قلوباً تبحث كل ليلة عن عذوبة الذكريات وصفاء وجه أمي العظيم، وزمناً غاب في أعماق حروف تلك الكلمات:
«لقد ماتت أمي!!»..
غادة عبدالله العوين - الرياض
|
|
|
|
|