| مقـالات
غداً الثلاثاء (16/6/1422ه) يمر عام على رحيل علامة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر رحمه الله إلى الدار الآخرة، تاركاً فراغاً كبيراً في دنيا الثقافة أحس به كل متصل بتاريخ الجزيرة العربية وتراثها الفكري، وكل متابع لحركة التأليف والنشر.
منزل حمد الجاسر كان يقصده طلاب العلم من باحث عن معلومة أو مخطوطة أو كتاب نادر أو ليستمع إلى الشيخ إذا تدفق في حديث عن موضوع رداً على سؤال سائل، وكان يمتزج حديثه باللطف والبشاشة لكنه إذا تكلم في أمر علمي لايخلط الجد بالهزل.
كان حمد الجاسر يفرح أشد الفرح إذا وجد واحداً من أبناء العرب قد أنتج إنتاجاً علمياً بتأليف أو تحقيق ولايكتفي بالثناء عليه باللسان بل بالكتابة عنه أو عن إنتاجه، وهو في ذلك لايخالف نهجه الذي شبّ وشاب عليه وهو أنه لايثني إلا على الإنتاج العلمي أما إن لم يصل الإنتاج إلى مايرضيه فهو يسكت عنه، أو يتجاهله، ولو كان الكاتب من أقرب الناس إليه نسباً أو صداقة، فلا يؤثر قرب الشخص منه على موضوعيته العلمية، وقد اعتذر عن التقديم أو التعريف عن أكثر من كتاب لأصدقائه، لأنه لم يصل إلى الدرجة العلمية التي يرضاها، أما إن كان الكتاب قد نشر وفيه عبث علمي أو سوء في النشر فهو لايطيق سكوتاً على عبثه أو سوئه ولو كان الناشر قريباً منه مجالساً له لأن إخلاصه لثقافة أمته لايمكن أن تؤثر فيه صدقة أو علاقة، بل إن ملاحظاته تشتد كل ماقرب المؤلف إلى نفسه، فمن أحبه ازداد صراحة في نقده وتقويم عمله.
حمد الجاسر كتب عن الإنسان دون ان يغضب أحداً أو ينتقص أحداً على قاعدته التي كررها كثيرا (الناس مؤتمنون على أنسابهم) وإذا كتب إليه من يرى خلاف ما نشره أسرع إلى نشره بل هو الذي كان يطلب من القراء أن يكتبوا له عما يرونه مخالفا لما رآه في الأنساب وغيرها فيسارع إلى نشره دون حذف إلا ما كان ثناء عليه فهو من الزاهدين في الثناء النافرين منه.
الإحساس بآمال الناس وآلامهم كان هاجس حمد الجاسر منذ أن كان شاباً إلى أن أصبح شيخاً في التسعينيات، لم يحد عن ذلك، وتحمل في سبيله ماهو معروف في حياته دون أن يتنازل على آرائه في التنوير الثقافي والنهوض بالأمة، وهذا جانب من جوانب عظمة حمد الجاسر، الذي ولد ونشأ في قرية من قرى نجد التي لم تعرف ثقافة، ولم تتصل بمصادر تنوير، بل إن المجتمع الثقافي الذي نشأ فيه كان معظمه يقف ضد التنوير والتطوير، ولكنه خرج عملاقاً، فدعا للتنوير باللسان والقلم، وعانى كما عانى كل مصلح في كل زمان، لم يغره المال ولا الجاه ولا المنصب، ولم يكن يهتز لمدح مادح أو يثنيه قدح قادح.
عرف فضل حمد الجاسر العلماء في العالم العربي والإسلامي والغربي، وكسب ثقة أساتذة الجامعات وبخاصة في الغرب، فإذا استغلقت عليهم مسألة قصدوه، وإذا ألفوا كتاباً أو حققوه أرسلوه إلى حمد الجاسر، وهو لا يقابل ذلك بالثناء عليهم أو السرور بما فعلوه من إهداء بل يكتب عما في الكتاب من ملاحظات علمية يقابلها الغربيون بالشكر، وأغلب الشرقيين بالغضب.
غاب حمد الجاسر بجسمه فكل حي إلى ممات ولكنه بقي بقامته العلمية مناراً للطلاب ليس فيما أخذوه عنه من علم فحسب بل في حرية البحث العلمي، وسعة المساحة لكل رأي ولو كان مخالفاً لرأيه، وفي حبه لكل باحث بارز وفرحه به بخلاف بعض الباحثين الذين يضيقون صدراً بمن يعمل في حقل تخصصهم وبخاصة إذا بزهم بحثاً وتوثيقاً أما حمد الجاسر فكان يسعد بذلك.
حمد الجاسر نهر من المواهب انقطع فأحس به كل من كان يرتوي من ذلك العذب الفرات وما أكثر ما يمكن ان يكتب عنه ولكن السطور قليلة فلابد من أن يتوقف القلم فقد توقف قلب حمد الجاسر وبقي عطاؤه علماً ونهجاً ونبراس تنوير وتطوير.
* للتواصل
ص.ب 45209 الرياض 11512 ، الفاكس: 4012691
|
|
|
|
|